مشكلة الاستقراء

أثار الفيلسوف ديفيد هيوم ما يعرف بمشكلة الاستقراء Problem of Induction – وإن كان قد سبقه إليها غيره - وملخصها أنه لا يمكن ضمان أن الاستنباط المؤسس على الاستقراء صحيح لأن الاستقراء ينطوى على فرضية لا دليل عليها وهي أن الطبيعة تتصرف على نحو متجانس behaves uniformly. فنحن على سبيل المثال توصلنا لنتيجة مفادها أن وضع الخشب في النار يؤدي إلى تفحمه نتيجة لخبراتنا السابقة من أنه كلما وضعنا الخشب في النار تفحم. لكن هل هذا يضمن أننا في المرة القادمة عندما نضع الخشب في النار فإنه سيتفحم؟
لا يوجد في صريح العقل ما يضمن ذلك لأن الاستناد للخبرات الماضية يتضمن فرضية تصرف الطبيعة على نحو متجانس وهذا بحد ذاته ما نريد أن نثبته من خلال الاستقراء أن الطبيعة تتصرف على نحو متجانس وأنها ستظل هكذا في المستقبل لأن خبراتنا في التجارب الماضية أظهرت أنها تتصرف كذلك، ولذلك فالخشب سيتفحم في المرة القادمة التي نلقيه فيها في النار و بالتالى فالأمر هو من باب ما يسمى بالمصادرة على المطلوب.
ومع ذلك القليل من الناس من الممكن ان يتشكك في كون أننا لو وضعنا الخشب في النار سيتفحم. وهذا التشكك بحد ذاته سيلقي بظلال من الشك حول الصحة العقلية لهؤلاء القلة.
والاستقراء هو الذي يبنى عليه العلم الحديث. فالعلوم كلها استقرائية.
و الاستقراء يعني تتبع الجزئيات للوصول إلى قواعد كلية. كقاعدة الخشب الذي يلقى في النار يتفحم استنادا إلى أنه كلما ألقيناه في النار تفحم أو أن المعادن تتمدد بالحرارة لأننا كلما سخنا المعدن تمدد ..إلخ.
وهذه الإشكالية تشكل تحديا خطيرا للعلم التجريبي لم يقدم عليها جوابا شافيا حتى قال الفيلسوف تشارلي دنبار برود: الاستقراء هو مجد العلوم و عار الفلسفة.
وأنا دائما استحضر هذه الإشكالية كلما وجدت أحد يتكلم عن إمكانية نشوء النظام من الفوضى بشكل تلقائي.
فنحن نعلم بحكم طبائعنا – بصرف النظر إن كان ذلك أفكارا فطرية innate ideas أو تولدت لدينا القناعة بالاستقراء - أن النظام لا ينشأ من الفوضى بشكل تلقائى. وكلما واجهنا نظاما فإن عقولنا تجزم بأن خلف النظام قصد و تدبير.
ومحاولة التشكيك بالقول أن النظام هو مجرد احتمال من جملة الاحتمالات الممكنة وكونه حدث لا يعني بالضرورة أن وراءه قصد و تدبير لأن القول بأن وراءه قصد وتدبير لا يختلف عن القول بأن وراء الاحتمالات الأخرى - التي لا نراها نظاما من وجهة نظرنا - قصد وتدبير إذ أن الجميع احتمالات كل منها على نفس القدر من الورود، لا يختلف في الحقيقة عن التشكيك في أنه في المرة القادمة عندما نلقي الخشب في النار فإنه سيتفحم.
و من يقامر على إمكانية نشوء النظام من الفوضى بشكل تلقائي هو كالمقامر على إمكانية ألا يتفحم الخشب عندما نلقيه في النار في المرة القادمة.
وبيان ذلك ما يلي:
واحد من أصغر الإنزيمات المعروفة وهو إنزيم 4-Oxalocrotonate tautomerase والذي تستخدمه البكتريا في عمليات أيض العديد من المواد إلى مركبات دورة حمض الستريك أو ما يعرف بدورة كربس يتكون من سلسة من 61 حمض أميني.
تتابع الأحماض الأمينية في ذلك الإنزيم هو احتمال من جملة 61! احتمال.
والعلامة ! لا أقصد بها علامة التعجب بل هي ما يعرف بـ factorial فإذا قلت 5! معناه 5×4×3×2×1
وكذلك 61! معناه 61×60×59×....3×2×1.
وهو يساوي بالضبط : 31469973260387937525653122354950764088012280797258 232192163168247821107200000000000000
هذا الرقم الناتج كبير جدا ما يجعل احتمالية تكون هذا الإنزيم بشكل عشوائى دون قصد أو تدبير- وذلك بقسمة رقم 1 عليه !1/61 - تؤول إلى الصفر.
والطبيعة ليس فيها آلية كآلية "برنامج حاسوبي يولد كلمات عشوائية عن طريق ترتيب عشوائي للأحرف" تمكن من توليد تتابع أحماض أمينية تؤدي وظيفة (كلمات لها معنى) بعد عدد "كافي" من المحاولات.
بل مجرد قياس تكون كلمات لها معنى بآلية برنامج الحاسوب على النظام المعقد الغاية في التعقيد في الأحياء قياس فاسد. فهذا كقياس إمكانية الحصول على كلمة من ثلاثة أحرف لها معنى بالضغط عشوائيا على لوحة المفاتيح بعد عدد من المحاولات على إمكانية الحصول على نظام تشغيل مثل "وندوز" أو "ماك" بنفس الطريقة مع الأخذ في الاعتبار أن التعقيد في الأحياء أكبر بكثير من أنظمة التشغيل وبرامج الحاسب.
فعندما يحصل هؤلاء على نظام شديد التعقيد من خلال عمليات عشوائية كإعادة الترتيب العشوائي من خلال البرنامج الحاسوبي ساعتها يحق لهم أن يقولوا أننا نحصل على النظام من العشوائية. فالملاحدة متخيلون أن الترتيب البسيط كالأنظمة المعقدة ويشتبه عليهم هذا بذاك.
والموجود في الطبيعة هو الطفرات العشوائية التي هي استثناء في الحقيقة لأن الخلايا بها آليات لتصحيح أخطاء النسخ التي تعرف بالطفرات العشوائية. فلا يوجد هناك آلية في الطبيعة تقوم بإعادة ترتيب النيوكليوتيدات (وحدة بناء الحمض النووي) في جزىء الحمض النووي بشكل عشوائي على نحو ما يفعله البرنامج الحاسوبي مع الأحرف.
فضلا عن ذلك فالتطوريون يقرون أن الوقت الذي "تطورت" فيه الحياة "ليس كافيا" أي لا يسمح بتطورها بشكل عشوائى من خلال آلية شبيهة بالبرنامج الحاسوبي المذكور لو افترضنا جدلا أنها موجودة في الطبيعة وأن الطفرات العشوائية هي تلك الآلية. لكنهم يقولون بأن هناك طفرات موجهة كتلك التي تحدث في الجينات المسئولة عن انتاج الأجسام المضادة. ومنهم من يحاول إرجاع التطور إلى هذا النوع من الطفرات الموجة للتخلص من إشكالية كون أن الوقت الذي تطورت فيه لا يسمح بتطورها عشوائيا. لكن الملاحدة منهم لايزالون يصرون من باب المكابرة أن التطور عشوائي بشكل محض!
ثم إن الطفرات لا دور لها في نشأة الحياة من الأصل.
فجزىء الحمض النووي الريبوزي الذي يفترضون أنه أصل الحياة ومنه نشأت لم ينشأ بطفرة لأنه لم يكن هناك أصلا شيء ليتطفر قبل أن يتكون الحمض النووي الريبوزي، بل فقط مجموعة من النيوكليوتيدات.
ثم إن تطفر فرد الكائن الحي الأصل فيه هو إحداث تشوه يجعله غير قادر على التكيف ما سيؤدي إلى هلاك هذا الفرد في معظم الأحيان بحيث لا يصبح له نسل، على خلاف ما يزعمه التطوريون الملاحدة من أن الطفرات تتراكم في النسل ما يؤدي إلى تتابع جديد في نهاية المطاف يؤدي وظيفة جديدة تمثل ميزة ما يؤهل الفرد الذي ورث تلك الطفرات التي تراكمت بمرور الوقت في أسلافه للاصطفاء بآلية الانتخاب الطبيعي باعتبار أنه أصلح للبقاء.
فهذا الافتراض ينطوي على فرضية أن الطفرات إما أنها مفيدة أو لا أثر لها في حين أنها في الحقيقة تؤدي إلى تشوه في أغلب الأحيان يؤدي إلى هلاك الفرد أو يعيق قدرة الفرد على البقاء وقدرة نسله الذين يرثون هذه الطفرة. فالطفرة العشوائية معول هدم وليست معول بناء.
ثم إذا افترضنا أن هناك وقت كافي لإعادة ترتيب النيوكلوتيدات بشكل عشوائي من خلال آلية تشبه البرنامج الحاسوبي وأن هناك نسل سيظل تتابع فيه تلك الطفرات العشوائية و تتراكم وأن هذا احتمال وارد من الناحية النظرية، فكذلك من الوارد من الناحية النظرية ألا يتفحم الخشب في المرة القادمة وأن الطبيعة لن تظل تتصرف على نحو متجانس. فمجرد الورود من الناحية النظرية لا يجعل من الأمر اختيارا منطقيا.
فالعقل عندما يواجه بهذا النظام البديع في الكائنات الحية و البيئة و التوازن الكائن فيهما هو مدفوع دفعا للقول بأن خلف ذلك قصد و تدبير لأننا علمنا – إما بحكم الفطرة أو بالاستقراء – أن النظام لا ينشأ من الفوضى بشكل تلقائى، وأنه لابد له من قصد و تدبير، لا أن يقول باحتمال مرجوح بدرجة كبيرة للغاية تفوق الوصف فقط لأنه افترض فرضية لا أساس لها من أن الكون يفسر من داخله. فهذه الفرضية إذا أدت إلى تبني تصورات سخيفة كتلك فالأولى التراجع عنها وليس الإصرار بكل صلف و مكابرة!.
ولذلك فالمقارنة بين مثال الخشب و تفحمه هو مثال مطابق لأنا نعلم أنه سيتفحم بالاستقراء كما علمنا أن النظام لا ينشأ من الفوضى بالاستقراء (أو بالفطرة) بل إن احتمالية ألا يتفحم الخشب وألا تتصرف الطبيعة على نحو ما كانت تتصرف فيما سبق أعظم من احتمالية أن تكون الأحياء قد نشأت نتيجة خبط عشواء.
القول بالتطور العشوائي هو عدول عما تدل عليه عقولنا وفطرنا إلى احتمال مرجوح القول به أو بأنه ربما يكون هو واقع الأمر لا يختلف عن القول بأن ما يعارض الاستقراء ربما هو واقع الأمر ومن ثم الشك في أساس العلم التجريبي. فالاحتمال لايزال دائما قائما لرصد مشاهدات تتعارض مع الاستقراء الذي تمثله النظرية. مثلما رصدت مشاهدات تتعارض مع الفيزياء الكلاسكية كسرعة الضوء. وكل نظرية توضع سيظل هناك إمكانية لرصد مشاهدات تعارضها مستقبلا. فضلا عن إمكانية أن الطبيعة نفسها لن تتصرف على النحو الذي كانت تتصرف وفقا له في الماضي.
ولذلك فالمنكرون لوجود الله كالمنكرين للعلم التجريبي بل المنكرون لوجوده أشد انحرافا عما يقتضيه العقل و المنطق السليم.
والمنكرون لوجوده إما أنهم مكابرون أو لديهم خلل في قواهم العقلية والنفسية.