نقض القرآن لزعم المشركين " إنما يعمله بشر" قائم على ركيزتين:


الأولى: أن القرآن معجز بلاغيا. فلو كان ما يقولونه صحيحا من أن من علمه القرآن بشر لجاز لهم وهم أهل البلاغة و الفصاحة أيضا أن يأتوا بمثله. ولذلك لما زعموا أن القرآن مفترى وأنه أعانه عليه قوم آخرون، فقال إذا ائتوا بمثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين. وما قولهم أعانه عليه قوم آخرون إلا لعلمهم أنه لا طاقة له بمثل هذا القرآن وذلك لإدراكهم أنه ليس ممن يقرضون الشعر ولا عرف عنه أنه له باع في ذلك لأنه كان أميا لا يقرأ ولا يكتب.


وقد يعترض بعضهم بالقول هل لأن القرآن أفصح وأبلغ من أن يأتي به العرب دليل على كونه من عند الله؟ أليس هذا فقط دليل على كون النبي أفصح منهم فقط؟ فيجاب بأنه أفصح من كل واحد على حدة يختلف عن كونه أفصح منهم مجتمعين فالتحدي كان على هذا الأساس: قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا. أي لو تضافرت جهودهم على أن يأتوا بمثله لما قدروا على ذلك. ففرق الأبحاث مثلا تثمر جهودها ما لا يسفر عنه المجهود الفردي. فعجز البشر مهما تضافرت جهودهم يعني أن هذا يفوق طاقة البشر وهذا يختلف اختلافا جذريا عن كون النبي أفصح من غيره كلٌ على حدة.


وفي واقع الأمر ليست المعجزات الحسية بأبلغ في الدلالة على النبوة من القرآن كونه يفوق طاقة البشر لأن التعريف الصحيح للمعجزة هو ما يفوق طاقة البشر وليس ما يمثل خرقا للعادة أو قوانين الطبيعة وإلا لاعترض عليه بما اعترض كثيرون ومنهم ثيودور دراينج أستاذ فلسفة الأديان بل بما اعترض به فرعون!


انظر لإثبات أحدهم - وهو ثيودور دراينج - أن المعجزة بمعنى خرق قوانين الطبيعة غير ممكنة من الناحية المنطقية

فهو يقول:

1: تعريف المعجزة (خرق العادة) هو ما يخرق قانون حقيقي من قوانين الطبيعة (وليس التعميمات التي نتصور أنها قوانين طبيعية وهي ليست كذلك)

2: لو أن تعميم من التعميمات تم خرقه بحادث ما (الذي نسميه المعجزة) فهو ليس قانون حقيقي من قوانين الطبيعة

3: استنادا إلى 1 و 2 فقانون الطبيعة الحقيقي لا يمكن خرقه بأي حال

5: استنادا إلى 1 و 3 من المحال أن يكون أي حادث معجزة.


فمعنى كلامه هذا أن أي شىء يمكن تفسيره في إطار قوانين الطبيعة وأن أي شىء نراه خارق للطبيعة فهذا يرجع إلى قصور في معرفتنا للقوانين التي تحكم الطبيعة.

وبالتالى أي معجزة يقوم بها نبي هي فقط من باب التفاضل في العلم ليس أكثر بمعنى أنه يعلم عن الطبيعة ما لا نعلمه بحيث أنه يدري طريقة للالتفاف حول ما يظنه غيره أنه من قوانين الطبيعة وهو في الحقيقة مجرد تعميمات خاطئة.


و الطريقة الوحيدة للقول بأن هذا القانون (التعميم) الذي تم خرقه هو قانون حقيقي هي أنه لا يمكن للأبد تفسير الظاهرة التي خرقته ضمن تعميمات (قوانين) جديدة نستنبطها بخصوص الطبيعة. وبالتالي في نفس الأمر لا مجال للتأكد ما إن كان ما تم خرقه قانون حقيقي أم مجرد تعميم خاطئ.!


فعلى سبيل المثال كانت هناك الفيزياء الكلاسكية التي كانت تمثل قوانينها (تعميماتها) قوانين تحكم الطبيعة لكن اكتشفت ظواهر تخرق هذه القوانين (مثل سرعة الضوء) ثم وضعت نظرية النسبية التي اقترحت تعميمات (قوانين) جديدة تحكم الطبيعة تفسر ظاهرة سرعة الضوء التي لم يمكن تفسيرها في سياق الفيزياء الكلاسكية. فلن يقول أحد إذا أن سرعة الضوء ظاهرة خارقة للطبيعة!. لكن يظل الاحتمال قائما أن نرصد مشاهدات تخرق القوانين التي اقترحتها النسبية وهكذا دواليك.


ونحن نؤمن أن موسى خرق قوانين الطبيعة لأن الله أخبرنا بذلك. لكن كونه شق البحر أو قلب العصا ثعبانا هو معجزة وفق تعريف المعجزة المذكور وهو أنه يفوق طاقة البشر ولا يجادل في ذلك أحد.

حتى فرعون نفسه لم ينكر ولكنه في البداية قال أن سحرتنا لديهم من العلم و القدرة ما يمكنهم من مضاهاة سحرك هذا لما قالوا له أرجه و أخاه و ابعث في المدائن حاشرين يأتوك بكل سحار عليم . لكنه لما أبطل سحر السحرة فسره بأنه "كبيرهم الذي علمهم السحر" أي فقط يتفوق عليهم بالمعرفة، أي أنه لم يخرق قانون من قوانين الطبيعة، فقط لديه علم يمكنه من الالتفاف على التعميمات التي نظنها قوانين طبيعة و هي ليست كذلك.


ولذلك خرق العادات لا فضل له على معجزة القرآن ولن يضيف شىء لدى المكذبين كونه لو اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثله لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا. ولو أن ماليس في طاقة البشر لا يمثل دليلا على صحة النبوة كما زعموا فلا فرق إذا بين القرآن وخرق العادات في الدلالة على صحة النبوة.


وأنا وإن كنت لا أسوي بين الأمرين من حيث الأثر لأن الناس تتأثر بحواسها أكثر مما تتأثر بالنظر العقلي من استنباط و استقراء ونحو ذلك فهذا فارق سيكولوجي لا أكثر. فبطبيعة الحال خرق العادة له أثر أكبر لكنه لا يختلف من حيث الدلالة على صحة النبوة كما تقدم.


ثم إن خرق العادة لا يتأثر به إلا من يشاهده بخلاف القرآن فهو باق. و الاعتراض بأنه لماذا لا يتكرر خرق العادات في كل جيل بحيث يشاهده الناس جميعا في كل زمان ومكان، يقال كيف يصبح خرقا للعادة إذا كان أمرا شائعا و متكرر لهذا الحد؟ فما هي العادة إذا التي تخرقها تلك الاحداث المتكررة التي تسمى خرقا للعادة.. فبالتكرار سيعتاد الناس على خوارق العادات وما يصح أن تسمى خوارق للعادات وستفقد أي قيمة دلالية شأنها شأن أي شىء يعتاده الناس.


و إدراك إعجاز القرآن إما أن يدركه المرء بنفسه وذلك باتقان اللغة وأساليبها أو الاستدلال على ذلك باتفاق أهل الاختصاص كما يستدل على صحة أمر ما باتفاق أهل الاختصاص في كل مجال من المجالات.




الثانية: أنه لو أن ما جاء به علمه إياه بشر فإن الذي يتعلم لا يخفى حاله. فمكة لم يكن بها من يعلمه أو مكان يتعلم به كبيت المدارس في يثرب الذي كان يتدارس فيه اليهود علوم الكتاب. ولذلك لما أرادوا نسبة تعليمه لبشر نسبوه إلى غلام أعجمي من النصارى لا يدري من العربية إلا القليل. وليس هذا معناه أن هذا الغلام لديه من العلم ما يؤهله لأن يعلم النبي أسفار أهل الكتاب و أحاكمهم و شعائرهم وعقائدهم. بل اكتفي بالقول بأن الغلام أعجمي ولا يمكنه بسبب حاجز اللغة أن يعلم النبي شيئا فضلا عن أن يكون أعانه على تأليف القرآن العربي المعجز بلاغيا.


فهم لم يشيروا إلا إلى شخص بعينه وتضارب الروايات بشأن اسم الغلام هو لأنها روايات تالفة وإلا لما كانوا كلهم غلمان أعاجم لبني فلان وعلان!. وقولهم قوم آخرون هو اتهام على عواهنه دون تحديد من هم هؤلاء.



ومن يظن أن حجة القرآن بخصوص الجزئية الثانية أن المقصود من التعلم هو مجرد تعلم القصص فقد غلط غلطا فاحشا.


الإسلام ليس مجرد قصص بل الإسلام منهج شامل يعالج مسائل شتى تتعلق بالعقائد و الأخلاق و الشعائر و التشريع. بل هو منهج شامل للحياة، فرؤيته تتضمن الحياة البشرية بكليتها وتستوعب حتى أدق التفاصيل. فهو يتضمن جملة من التوجيهات و التعاليم والأحكام يتراوح تعلقها ما بين الأمور الشخصية اليومية مثل آداب الطعام والشراب وتنظيف الجسد إلى مسائل ذات طابع عام كالمعاملات التجارية و المالية وأحكام السلم والحرب في العلاقات الخارجية. ولا يمكن للنبي أن ينشىء دينا شاملا دون تعلم ودراسة على غير مثال يحتذى لو لم يكن ذلك المنهج الشامل قد أوحي إليه. ولا بمجرد الاستماع لقصص غلام أعجمي لبني فلان سواءا أكان اسمه جبر أو بلعام أو غير ذلك. فلو دارس أهل الكتاب على نحو يمكنه من ذلك الاصطلاع الواسع على علومهم لبدت عليه آمارات ذلك، ولما طرأت عليه تلك المعرفة فجأة دون إرهاصات.




ولذلك أمره الله أن يحتج عليهم بأنه قد لبث فيهم أربعين عاما من قبل أن يأتيه الوحي يعرفونه بالصدق و الأمانة لا يقرأ ولا يكتب ولا يقرض الشعر ولا يتعلم علوم أهل الكتاب ولا يدارسهم ولذا فهذا العلم وهذا القرآن المعجز بلاغيا لم يتعلمه من البشر ولا هو من قبل نفسه لكنه من قبل الله. وقد ذكرت سابقا أن هذه قرائن وأمارات تتضافر على كونه صادقا في دعوى النبوة وأنه لم يتلق تعليما من البشر وليس من قبيل الاستنتاج الرياضي. لأن هذه المسائل لا سبيل فيها إلى هذا النوع من البراهين.


ومن ذلك قوله تعالى آمرا إياه أن يقول: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِّن قَبْلِهِ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. وقوله: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ. وقوله: وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ ۖ إِذًا لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ.


وكل من يطالع القرآن و السنة يعلم مدى عمق إلمامها بأسفار أهل الكتاب وعلوم كتبهم.


يقول هاري فريمدان في كتابه The Talmud: A Biography: لقد كان لدى محمد دراية عميقة (أو اصطلاع واسع) باليهودية و الممارسات اليهودية وهذا واضح من القرآن نفسه. ثم أشار إلى التشابه من حيث البنية بين الشريعة و الهالاخاه (الشريعة التلمودية) – وكلتاهما بمعنى الطريقة - و اللتان ينظم كل منها بشكل شامل شئون الحياة الخاصة بأتباع الديانتين وبعض أوجه التشابه من حيث المضمون التشريعي و التأثر المتبادل – بحسب تعبيره – بينهما.


ثم يشير إلى شرح جيديون ليسبون - أستاذ القانون اليهودي و الإسلامي المقارن - لطبيعة العلاقة بينهما بأنها في سياق الفعل ورد الفعل بمعنى أن الهالاخاه أثرت في الشرع الإسلامي في البداية ليبادلها بدوره التأثير بترك بصمة على الهالاخاه. ثم يضيف فريدمان أن المفاهيم اليهودية وجدت – على حد تعبيره - طريقها في البداية للإسلام لكن الانعكاس اللاحق لعملية التأثير نجده ملحوظا في أحكام المعاملات المالية و التجارية وذلك لأن الشريعة التلمودية نضجت في بغداد في بيئة إسلامية إبان عهد الجاؤونيم وهو لقب خاص برؤساء المدارس الدينية اليهودية (اليشيفا) في صورا (بمنطقة بابل التاريخية) وبومبديتا (بالقرب من الفلوجة ) من نهاية القرن السابع وحتى منتصف القرن الحادي عشر – وهي الحقبة المعروفة في تاريخ الشعب اليهودي بحقبة الجاؤونيم.


وانطلاقا من القاعدة التلمودية التي أرساها الحبر "شموئيل" DINA DE-MALKHUTA DINA أو بالآرامية דִּינָא דְּמַלְכוּתָא דִּינָא ومعناها فيما يخص قوانين الأحوال المدنية فقانون البلد هو القانون، فقد منح ذلك الجاؤونيم مرونة في تعديل أحكام المعاملات التجارية بل و إبطالها تماما إذا لزم الأمر. ثم ضرب مثالا على ذلك بكتابة الديون وهو إشارة إلى قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ. وهذا يشمل جميع أنواع المداينات من سلم وغيره. وكانت الشريعة التلمودية لا تجيز من قبل دفع الأثمان دون تسلم السلع حتى ولو كتبت وشهد على ذلك الشهود. فأبطل الجاؤونيم هذه القاعدة وأجازوا ذلك.




والمقصود أن الإلمام الذي يظهره الكتاب و السنة بعلوم أهل الكتاب وأحوالهم وتاريخهم وقصصهم ومفاهيمهم لا يمكن أن يكون من قبيل المعرفة السطحية التي قد يتلقاها أحد من خلال مجرد الاستماع العرضي لهذا أو ذاك. وبالتالي لو كان لم يتلق القرآن و السنة من طريق الوحي فلابد أنه تعلم ودرس دراسة جادة معمقة لابد أن تظهر أماراتها و إرهاصاتها عليه قبل دعوى النبوة كما عرف ذلك عن ورقة بن نوفل وغيره في الجاهلية الذين خرجوا لطلب علوم أهل الكتاب إذ لم يكن بمكة مجال لذلك.




وأما سؤال أهل الكتاب كما في قوله تعالى: فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ۚ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. ونحوها من الآيات


فليس في هذه الآية ولا غيرها أن هؤلاء الذين يقرأون الكتاب في مكة


والقرآن لم يقل أن تعلم شىء من الكتاب متعذر بل فحوى الحجة أن تعلم الكتاب وعلومه تظهر أماراته وإرهاصاته على المتعلم بخلاف ما كان من حال النبي.


والسؤال عن صحة شىء بعينه يختلف عن تعلم علوم الكتاب. مثلما أن طلب الفتيا يختلف جذريا عن تعلم الفقه أو العلوم الشرعية بوجه عام.