التقويم الهجري والميلادي، دراسة في أصل النشأة وحساب الأشهر ومعانيها.
إعداد بوودن دحمان حذيفة.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:
يعتبر التقويم وعاء لأحداث الأمة، يساير أيامها ويربط أجيالها ويوثق حاضرها وماضيها. وهو ضرورة لا غِنى عنه لأي أمة من الأمم. فبه تنظم الحياة المدنية وتضبط الاستحقاقات الاجتماعية وتحدد الأعياد والمواسم الدراسية...وقد وضعت العديد من الحضارات تقاويمَ تناسب احتياجاتِها، فهناك التقويم العربي والفارسي والروماني...منها ما يعتمد على القمر والشمس معاً، ومنها ما يعتمد على كواكب أخرى غير الشمس والقمر، ومنها ما يعتمد على الشمس وموقع الأرض ويُعرَف بالتقويم الميلادي، ومنها ما يعتمد على ميلاد القمر ونهايته وهو ما يُعرَف بالتقويم الهجري. وعلى الرغم من اعتماد التقويم الميلادي كتقويم دولي، إلا أنّ هناك بعض الدول لا تعتمده حتّى الآن كأفغانستان، وإيران، والمملكة العربية السعودية التي تتعامل بالتقويم الهجري على المستوى الرسمي والشعبي. كما أن هناك العديد من الدول التي تستخدم التقويم الميلادي إلى جانب التقويم الهجري. وذلك كنتيجة لمخلفات الاستعمار الذي تعرّضت له تلك الدول. فكيف بدأ كل من التقويم الهجري والميلادي؟ وما هي الفوارق الفلكية والدلالات اللغوية في اعتماد كل منهما؟ وهل يمكن الاعتماد علي التقويم الهجري لإدارة أمورنا المستقبلية؟
لقد كان العرب في الجاهلية يعتمدون في حساب أيامهم على شهور السنة القمرية، ولكنّ تحديد السنوات لم يكن متعارفًا بينهم، وإنما اعتمدوا في تأريخهم على بعض الأحداث التاريخية المعروفة عندهم: كتأريخ بناء الكعبة زمن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام نحو عام 1855 ق.م. وبرئاسة عمرو بن لُحَيّ نحو عام 260م، وبوفاة العظماء منهم ككعب بن لؤي نحو سنة 60م، وبعام الفيل وهو أشهرها نحو سنة 571م، وبحرب الفِجَار التي وقعت في الأشهر الحرم نحو 585م، وبتاريخ تجديد الكعبة عام 605م، كما أرّخوا بالحروب التي سموها أيام العرب مثل حرب البسوس، وداحس والغبراء، إلى غير ذلك من الأحداث الهامة. لكن التقويم الذي عُرف في الجاهلية لم يكن تقويمًا متمكِّنًا من النفوس ومنتظمًا في حياة الناس بحيث يعوَّل عليه في تسجيل الأحداث باطمئنان.
وعقب قيام الدولة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ظلت السنة القمرية تبدأ بالمحرم وتنتهي بذي الحجة، إلا أنه لم يعيَّن للسنين مبدأ ثابت تنطلق منه؛ فقد كان المسلمون يستعملون الأشهر فقط ويسمون السنوات بأهم أحداثها، فقد سميت السنة الأولى بسنة الإذن؛ أي الإذن بالهجرة من مكة إلى المدينة. والثانية بسنة الأمر؛ أي الأمر بقتال المشركين...والثامنة سنة الفتح وكان فيها فتح مكة. والتاسعة بسنة الوفود لقدوم أفواج العرب وفودًا معلنين إسلامهم. والعاشرة بسنة الوداع؛ أي سنة حجة الوداع. وظل المسلمون يسمون السنوات بمسميات مختلفة على نحو ما تقدم ذكره في خلافة أبي بكر وسنوات من خلافة عمر رضي الله عنهما، فنسمع عن عام الطاعون؛ وعام الرمادة.
وفي السنة الثالثة من خلافة عمر بن الخطاب، تحديدا في يوم الأربعاء 20 جمادى الآخرة من عام 17 هـ حيث كتب له والي البصرة أبو موسى الأشعري يقول: "إنه تأتينا من أمير المؤمنين كتب، فلا ندري على أي نعمل، وقد قرأنا كتابا محله شعبان، فلا ندري أهو الذي نحن فيه أم الماضي" - أخرجه أبو نعيم في تاريخه- عندها جمع عمر أكابر الصحابة للتداول في هذا الأمر. وانتهوا إلى ضرورة اختيار مبدأ للتأريخ الإسلامي. وتباينت الآراء، فمنهم من رأى الأخذ بمولد النبي، ومنهم من رأى البدء ببعثته، ومنهم من رأى العمل بتقويم فارس والروم وكانوا يؤرخون بملوكهم لكنه كره ذلك. واستقر الرأي في نهاية المطاف على الأخذ برأي علي بن أبي طالب الذي أشار بجعل مبدئه من لدن هجرة الرسول من مكة إلى المدينة، فعن سعيد بن المسيب رضي الله عنه قال: "جمع عمر الناس فسألهم: مِنْ أي يوم يُكتبُ التاريخ؟ فقال علي بن أبي طالب: منْ يوم هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وترك أرض الشرك، ففعله عمر رضي الله عنه" -رواه الحاكم - فوقع الإجماع بينهم على اختيار الهجرة النبوية للتأريخ وذلك لظهور هذا الحدث واشتهاره فضلا عن اعتباره منعرجا حاسما في حياة الأمة الإسلامية، حيث انتقل المسلمون حينها من كونهم مستضعفين ومُهجرين من ديارهم إلى تشكيل دولة ذات القوة والسيادة ، فقد اعتُبرت المدينة المنورة وقتها عاصمة الدولة الإسلامية ومنها بدأ الإسلام بالتوسع والانتشار. قال ابن الجوزي: "ولم يؤرِّخوا بالبعث لأن في وقته خلافاً، ولا من وفاته لما في تذكره من التألم، ولا من وقت قدومه المدينة" – فيض القدير ص: 102-
كما أخذ عمر رضي الله عنه برأي عثمان بن عفان الذي أشار أن يكون المحرم هو مبتدأ التاريخ الإسلامي، لأنه كان بدايةً للسنة في التقويم العربي من قَبل الإسلام. وقال ابن الجوزي: "وإنما جعلوه من أول المحرَّم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان فيه، إذِ البيعة كانت في ذي الحجة وهي مقدمة لها وأول هلال هل بعدها المحرَّم، ولأنه منصرف الناس من حجهم فناسب جعله مبتدأ" – فيض القدير ص: 102- وذلك على الرغم من أن الهجرة بدأت في أواخر شهر صفر، ودخل رسول الله المدينة يوم الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول - المفصل في تاريخ العرب: ج15، ص: 292- حيث تم الحساب ورجع بالتقويم الهجري ليكون أول يوم في التقويم هو يوم الجمعة الأول من شهر محرم والموافق للسادس عشر من شهر جويلية عام 622 للميلاد.
ويعتمد التقويم الهجري على حركة القمر حول الأرض بحيث يكتمل الشهر الهجري باكتمال دورة القمر، ونظراً لكون الدورة القمرية الواحدة حول الأرض تستغرق 29 يوماً و12 ساعة و44 دقيقة و2.8032 ثانية، فإن طول الشهر القمري يكون إما 29 أو 30 يوما حسب وقت الإهلال. أما طول السنة القمرية فيكون 354 يوما و6ساعات و48 دقيقة و36 ثانية في السنة البسيطة، و355 يوم في السنة الكبيسة وتحدث كل ثلاث أو أربع سنوات حيث يضاف يوما لشهر ذي الحجة الذي يصبح بثلاثين يوما.
ويبدأ اليوم في التقويم الهجري من غروب الشمس ويمتد إلى غروبها التالي. وتُقاس نهاية وبداية الشهر الهجري بناء على رؤية هلال الشهر الجديد، حيث تشهد دورة القمر حول الأرض أشكالا مختلفة حسب كمية الضوء المنعكس، فيبدأ بهلال أول الشهر ثم البدر الذي يكتمل مع تمام منتصف الشهر ثم الأحدب المتناقص ثم التربيع الثاني ثم هلال آخر الشهر ثم يختفي ضوؤه ليبدأ بعد ذلك شهر جديد. ولكي يبدأ الشهر القمري لا بد من حصول الاقتران أي ولادة القمر وذلك بوقوع القمر على خط واحد بين الأرض والشمس، ويستغرق ذلك ما بين يوم أو يومين، وفي هذه اللحظة بالذات يكون القمر قد وقع في المحاق وهو مظلم تمامًا ولا يمكن رؤيته، وبداية الشهر لابد من ظهور القمر ورؤيته في الأفق. وتثبت رؤية الهلال سواء بالعين المجردة أو بالأدوات الفلكية بتوفر شروط ثلاثة: الأول: أن لا ينقص عمر القمر من لحظة الميلاد عن أربعة عشر ساعة لحظة غروب الشمس. والثاني: أن يبتعد القمر عن الشمس في لحظة الغروب مسافة أقلها ثمانية درجات. والشرط الثالث: وجوب غروب القمر بعد غروب الشمس بثلاثين دقيقة أو أكثر. وقد تتباين رؤية اكتمال دورة القمر بناء على الموقع الجغرافي، فقد تثبت الرؤية في مكان ولا تثبت في آخر. ولهذا يرى بعض المختصين أن الأفضل لتوحيد المسلمين أن يتم الرصد في مكة على ارتفاع يزيد عن ارتفاع الطائرات العادية مثلا 35 كم.
أما الأشهر الهجرية التي نستخدمها الآن، فقد استقرت أسماؤها في مستهل القرن الخامس الميلادي على الأرجح في سنة 412م أي قبل البعثة النبوية ب150 سنة. وذلك في عهد كلاب بن مُرَّة وهو الجدّ الخامس للرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ارتبطت أسماء الأشهر إما بالفصول التي تزامنت معها وقت التسمية لَمَّا نقَلُوا أسماء الشُّهور عن اللغة القديمة، أو لأنشطة العرب في كل منها، وهي مرتبة كالتالي:
1. محرّم: وهو أحد الأشهر الأربعة الحرم، وسمي بذلك لأن العرب قبل الإسلام كانت تحرم القتال فيه. ويذكُر الإخباريُّون أنَّ الاسم القديم للمحرَّم هو صفر الأول. وقد شاع بين المسلمين حديثًا الاحتفال باليوم الأول من هذا الشهر حتى وصل الأمر إلى اعتباره عيدًا! ولكن هذا الأمر ليس من الأمور المباحة شرعًا، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كلَّ محدثةٍ بدعةٍ وإنَّ كلَّ بدعةٍ ضلالةٌ" –رواه ابن ماجة- كما أنّ الاحتفال بهذا اليوم يُعتبر تشبّهًا بأهل الكفر من النصارى.
2. صَفَر: سُمِّي بذلك لأن ديار العرب كانت تصفر أي تخلو من أهلها للبحث عن الطعام أو هربًا من حرِّ الصيف. وقيل لأن العرب كان يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صفر المتاع والمال. ومن الضَّلالات التي اعتَقدَها العربُ؛ اعتِقاد أنَّ شهر صفر شهرٌ مشؤوم، لما يَكثُر فيه من الرَّزايا؛ ذلك أنَّ شهر صفر يقع بعد ثلاثة أشهر حرم نسقًا، وهي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم فكانوا يتجنَّبون ابتِدَاء الأعمال في شهر صفر خشية ألاَّ تكون مباركة، فنهى النبي صلَّى الله عليه وسلَّم عن التشاؤم بصفر حيث جاء في الحديث: "لا عدوى ولا صفر" -روى مسلمٌ-
3. ربيع الأول: سُمِّي بذلك لأنَّ تسميته جاءَتْ مع حلول فصل الربيع فلزمه ذلك الاسم. والرَّبيعُ عند العرَب ربيع الشهور وربيع الأزمنة، فربيعُ الشهور شهران بعد صفر: ربيع الأول وربيع الآخِر، وأما ربيعُ الأزمنة؛ فرَبيعانِ: الربيعُ الأوَّل، وهو الفصل الذي تأتي فيه الكمأةُ والنورُ، وهو ربيعُ الكلأ، والربيعُ الثاني وهو الفصل الذي تُدركُ فيه الثمارُ- الصحاح في اللغة الجوهري، ج1، ص: 238-
4. ربيع الآخر: سمي بذلك لأنَّ تسميته جاءَتْ في الربيع أيضًا فهو تبع شهر ربيع الأول. ويُقال فيه: ربيع الآخِر ولا يُقال: ربيع الثاني؛ إذ يستعمل الثاني فيما يليه ثالث ورابع...والآخِر فيما لا يتبعه شيء، ولهذا قيل في صفاته تعالى: "هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ" -الحديد: 3- ولم يقل: والثاني؛ لأنَّه ليس بعده شيءٌ - أخطاء اللغة العربية المعاصرة لأحمد مختار عمر، ص: 131، 269-.
5. جمادى الأولى: وسمي جمادى لوقوعه في الشتاء وقت التسمية، حيث تجمد الماء من شدة البرد وبالأخص شمال الجزيرة العربية فلَزِمه ذلك الاسم. وجماد يجمع على جماديات وكل الأشهر مذكرة إلّا جمادى فهو مؤنث وقد يُذَكَّرُ.
6. جمادى الآخرة: وسمي بذلك لأنه تبع جمادى الأولى حيث جاءت تسميته في الشتاء أيضًا فلزمه ذلك الاسم، وربما وقع ذلك في شهر فبراير. ويُقال فيه: جمادى الآخِرة، ولا يُقال: جمادى الثانية؛ لأنَّ الثانية تُوحِي بوجود ثالثة، بينما يُوجَد جُماديان فقط.
7. رجب: وهو أحد الأشهر الحرم، وسمي بذلك لأن الرماح كانت ترجّب من الأسنة، أي تنزع منها، فلا يحدث قتال. وقيل لأنَّ العرب كانت ترجبه أي تعظمه بترك القِتال فيه. وكان يطلق عليه في الجاهلية الأصم، حيث كان لا يسمع في هذا الشهر أصوات قعقعة السلاح- العين للخليل بن أحمد، ج1، ص478- وأطلق عليه في الإسلام رجب مضر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السَّنَةُ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْها أرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاثَةٌ مُتَوالِياتٌ: ذُو القَعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ، الذي بيْنَ جُمادَى وشَعْبانَ" -رواه البخاري- وسمي برجب مضر زيادة في تعظيم هذا الشهر لكون قبيلة مضر لا تبدله ولا تحارب فيه، بينما بقية القبائل كانت تبدله بحسب حالة الحروب، وهذا ما يسمى النسيء، وهو أن يحلّوا شهرًا من هذه الشهور الأربعة، ويحرموا مكانه شهرًا آخر. وكان من الطبيعي ألا يثبت التقويم نتيجة لهذا النسيء. إلا أن هذا حُرِّم في السنة العاشرة من الهجرة، قال تعالى: "إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ" -سورة التوبة: 37-
8. شعبان: سمي بذلك لأنَّ العرب كانت تتشعَّب فيه أي: تتفرَّق لطلب الماء والإغارة بعد قعودهم في شهر رجب. وقيل لأنه َشعَب بين رجب ورمضان، وقيل لأن أغصان الأشجار كانت تتشعب في هذا الوقت من السنة وقت تسمية الشهر- تاج العروس للزبيدي، ج4، ص:34-.
9. رمضان: وهو شهر صوم المسلمين، سُمِّي بذلك اشتقاقًا من الرمضاء، وهوَ الْحُرُّ؛ حيث كانت الفترة التي سُمِّي فيها شديدة الحر. وكان يدعى في الجاهلية باسم نافق لأن الحيوانات كانت تنفق أي تموت فيه لشدة الحر. - القاموس المحيط للفيروز آبادي، ص: 831-
10. شوال: وأول أيامه يوم احتفال المسلمون بعيد الفطر، سُمِّي بذلك لأنَّه تسمَّى في فترة تشوَّلت فيها ألبانُ الإبل، أي جفت ألبانها ونقصت بسبب حملها، وقيل لأن الإبل كانت تشول بأذنابها أي ترفعها وقت التسمية طلبا للإخصاب- الاشتقاق لابن دريد، ص: 135-.
11. ذو القعدة: وهو أول الأشهر الحرم، وسمي بذلك لأن العرب كانت تقعد فيه عن القتال والترحال تعظيمًا له - المطالع على أبواب الفقه لمحمد الحنبلي، ص: 167-
12. ذو الحجة: وهو أحد الأشهر الحرم وفيه موسم الحج وعيد الأضحى، سُمِّي بذلك لأنَّ العرب عرَفَت الحجَّ في هذا الشهر - المغرب لأبي الفتح ناصر الذين المطرزي، ج1، ص: 440- وكان يعقد في هذا الشهر الأسواق الأدبية كسوق عكاظ وسوق ذي المجاز.
هدا وقد نص الفقهاء على وجوب العمل بالتقويم القمري فيما هو مؤقتا شرعا من الأحكام، لقوله تعالى:"يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ" - البقرة: 189- قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "جعل الله الأهلة مواقيت للناس في الأحكام الثابتة بالشرع، ابتداء أو سبباً من العبادة وللأحكام التي ثبتت بشروط العبد، فما ثبت من الموقتات بشرع أو شرط فالهلال ميقات له، وهذا يدخل فيه: الصيام، والحج، ومدة الإيلاء والعدة"-مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 25/133- ولما كان من الصعب التنبؤ بتواريخ الأيام المستقبلية في التقويم القمري، فلا حرج في استعمال التقويم الشمسي كتاريخ مساعد للتقويم القمري في تنظيم أمور الناس الدنيوية، كتحديد مواعيد العمليات الجراحية وجلسات المحاكم ورحلات الطيران وحجوزات الفنادق وتحديد موعد الاجتماعات والمؤتمرات... فكل له مجاله، الهجري شرفه الله لمعرفة مواقيت أشرف العبادات كالصوم والحج والزكاة. والميلادي للأمور الدنيوية. وقد دهب بعض العلماء إلى القول بأن القرآن الكريم يُقرّ التقويم الشمسي والقمري معاً كما في آية مدة مكوث أهل الكهف، حيث قال تعالى: "وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً"- سورة الكهف: 25- وفي تفسيرها: عند أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنة شمسية وهنا ذكر ثلاثمائة قمرية، والتفاوت بين الشمسية والقمرية في كل مائة سنة ثلاث سنين، فيكون في الثلاثمائة سنة تسع سنين إضافية.
ويعتمد التقويم الميلادي في حسابه على الشمس، فالسنة الميلاديّة هي سنة شمسية تدور فيها الشمس دورة كاملة حول الأرض. وقد قام التقويم الميلادي على أساس التقويم الروماني القديم الذي بدأ بتأسيس مدينة روما سنة 750 ق م، وكان هذا التقويم قمريا يعتمد على دوران القمر حول الأرض، لكن عدد أشهر السنة فيه كانت عشرة أشهر فقط، حيث كان الرومان يستنكفون عن عد أيام الشتاء. وكانت أشهرهم تبدأ من مارس وتنتهي بديسمبر (الشهر العاشر)، حتى جاء ملك روما توما الثاني 716-673ق م فأضاف شهري يناير وفبراير وأصبحت السنة تتألف من 355 يوماً قمريا.
ومع مرور الأيام تغيرت الفصول المناخية عن مكانها تغيراً كبيراً، وفي سنة 46 ق م استدعى الإمبراطور الروماني جوليوس قيصر الفلكي المنجم المصري سوريجين من الإسكندرية طالباً منه وضع تأريخ حسابي يؤرخ به، وكانت مصر تحت احتلال الإمبراطورية الرومانية، فقام بوضع تأريخاً مستنداً إلى السنة الشمسية لتفادي تغير الفصول. وبالتالي تحول الرومانيون من العمل بالتقويم القمري إلى التقويم الشمسي، وسمي هذا التأريخ بالتأريخ الجولياني نسبة إلى الإمبراطور جوليوس قيصر. فقرروا أن عدد أيام السنة هو 365 يوماً وربع اليوم (6ساعات)، باثني عشر شهرا، وكانت الأشهر تبدأ بواحد وثلاثين يوما ثم ثلاثين بالتداول شهرا بشهر باستثناء فيفري الذي يخصم منه يوم واحد ليتم الحساب 365 يوم و6 ساعات في السنة البسيطة العادية باستثناء السنة الكبيسة التي يسترجع فيها فيفري يومه الثلاثين ليستوي الحساب على 366 يوم كل أربع سنوات استدراكا لما يضيع من ساعات الحساب بسبب تراكم أربعة 6 ساعات، حيث إنّ الكسور في السنوات الثلاث تُجمَع فيضاف يوم في السنة الرابعة.
جوليوس قيصر لم يكن ليقوم بكل هذا العمل دون أن يخلد اسمه في هذه الرزنامة، فكان يجب أن يحمل أحد الأشهر اسمه، فكرمه مجلس الشيوخ بذلك، ولأن كل الأشهر الأولى من جانيواريوس وفيبرواريوس حتى جونيوس تحمل أسماء اللآلهة المقدسة، فقد وقع الاختيار على الشهر الموالي كنتيليس أي (الخامس سابقا)، فأصبح يحمل اسم القيصر جوليوس جويلية حاليا.
وبمرور اثنا عشر عامًا تحديدًا في عام ثلاث وثلاثين قبل الميلاد وبعد انتصار القيصر أوغسطس على "كليوباترا" ملكة مصر، قرر مجلس الشيوخ أن يحمل أحد أشهر السنة اسم القيصر أوغسطس تشريفا له، ووقع الاختيار على الشهر الذي يلي جوليوس أي سكستيليس (السادس سابقا) الذي أصبح بموجب ذلك أوغسطس أي أوت. لكن المشكل أن حظ أوغسطس وقع في شهر بثلاثين يوما فقط، وهو لا يرضى لنفسه أن يكون أقل شأنا من جوليوس، فكان أن قرر مجلس الشيوخ خصم يوم من فيفري الذي أصبح بثمانية وعشرين يوما وإضافته لأوغسطس ليصبح بواحد وثلاثين يوما تماما كالشهر الذي يسبقه أي جوليوس. وحتى لا تتوالى ثلاثة أشهر ميلادية بعدد أيام بواحد وثلاثين يوم (شهر جويلية – أوت–سبتمبر) عكسوا القاعدة التي وضعها الفلكي سوريجين وجعلوا شهر سبتمبر وهو شهر فردي بثلاثين يومًا، وبعده شهر أكتوبر وهو شهر زوجي بواحد وثلاثين يومًا، وبعده نوفمبر بثلاثين يومًا ثم ديسمبر بواحد وثلاثين يومًا. وهدا يعني أن الفرق بين السنة الميلاديّة والهجريّة نحو 10 أو 11 أو 12 يوماً، أي أنها أقصر بـأحد عشر يوماً تقريباً من السنة الشمسية ويعتمد ذلك على إذا ما كانت إحدى السنوات الميلاديّة أو الهجريّة كبيسةً أو كلتاهما معاً سنتين كبيستين، وهذا ما يفسر دوران السنة القمرية حول كل الفصول خلال اثنان وثلاثين سنة، أي أنّ أول السنة الهجريّة لا يتوافق مع أول السنة الميلاديّة إلّا مرّةً واحدةً كلّ اثنان وثلاثين سنة.
واستمر النصارى على العمل بالتقويم الشمسي الجولياني حتى القرن السادس من ميلاد المسيح عليه السلام-532م- حيث نادى الراهب الروماني ديونيسيوس اكسيجونوس بأن يكون ميلاد السيد المسيح هو بداية التقويم بدلا من التقويم الروماني الذي يعتبر سنة إنشاء مدينة روما عاصمة الإمبراطورية الرومانية بداية للتاريخ وهو سنة 753 ق م. وقد نجح هذا الراهب في دعوته، حيث تم الحساب ورجع بالتقويم الشمسي لتكون بدايته من أول السنة الميلادية، نسبة إلى ميلاد المسيح عيسى عليه السلام، وأن تكون بداية هذا التأريخ 1-يناير-1 ميلادي وهو يوم ختان المسيح عليه السلام كما يقولون؛ حيث إن ميلاده عليه السلام كما يقال كان في 25 ديسمبر وعندها عرف هذا التأريخ بالتأريخ الميلادي.
وقد استمر العمل بهذا التقويم الجولياني لأكثر من سبعة عشر قرناً، وذلك إلى عهد البابا جريجوري الثالث عشر عام 1582م، الذي أدخل تعديلات على التقويم الجولياني لتصحيح الخطأ المتراكم فيه بسب عدم مطابقة السنة الحسابية مع السنة الفعلية. فقد خلصت الحسابات الفلكية الدقيقة للكنيسة الكاثوليكية بأن السنة الفعلية للشمس أطول من السنة الجوليانية الحسابية بإحدى عشر دقيقة كل 365 وربع يوم، أي أن التقويم الجولياني يتقدم عن الواقع يوماً واحداً كل 128سنة، ويتقدم 3 أيام كل 393 سنة (مع التقريب تصبح 400 سنة). ولم يكن للمصريين أو الرومان أيُ فكرة عن هذا الفارق. وقد لوحظ هذا الخطأ حيث خرج التقويم الجولياني عن مساره، بأن جاء موعد عيد الفصح في موعد متقدّم بعشرة أيام عن موعده الدوريّ، فجاء في يوم الاعتدال الربيعي وهو 11 مارس من عام 1582م. فقام البابا جريجوري الثالث بإصلاح هذا الفرق بأن أضاف أحد عشر يوماً في 4 أكتوبر 1582م. وهكذا نام الناس يوم الخميس 4 أكتوبر 1582م واستيقظوا يوم الجمعة 15 أكتوبر 1582م . وتمّ تعيين يوم الاعتدال الربيعي ليكون 21 مارس وهو التاريخ المُفترَض أن يكون لعيد الفصح. ولضمان عدم انحراف التقويم عن مساره الحقيقي مرّةً أخرى فقد أصدر جريجوري أمراً باقتطاع ثلاثة أيام من السنة كلّ 400 عام، ويُستثنى من ذلك السنوات المئوية التي لا تقبل القسمة على 400، مثل: 1700؛ 1800؛ 1900...حيث تكون كلها سنوات بسيطة، في حين تكون السنوات المئوية القابلة للقسمة على 400 هي فقط السنوات الكبيسة، مثل 1600؛ 2000؛ 2400... ولولا مكانة البابا الدينية ما كان هذا الأمر ليقبل عند مجموع الناس. وجدير بالذكر أن الكنائس الأرثوذكسية الشرقية، لم تقبل هذا التعديل واستمروا على استعمال التقويم الجولياني. وبالتالي أصبح الاحتفال بيوم ميلاد السيد المسيح وفقاً للكنيسة الكاثوليكية الغربية الخامس والعشرين من شهر ديسمبر، بينما تحتفل الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية به في السابع من شهر جانفي.
ويبدأ اليوم في التقويم الميلادي من نصف الليل ويمتد إلى نصف الليل التالي، ويعتبر يوم الأحد يوما مقدسا عند النصارى، ويبدءون الأسبوع بالاثنين. أما بالنسبة لأسماء الأشهر فتستخدم كل من مصر واليمن والسودان وليبا أسماء مستمدة من اللغة الانجليزية مثل يناير فبراير...أما دول المشرق العربي كالعراق وفلسطين ولبنان وسوريا والأردن فيستخدمون التسمية السيريانية للأشهر، مثل كانون الثاني شباط آذار...في حين تستخدم كل من الجزائر وتونس أسماء للأشهر مستمدة من اللغة الفرنسية مثل جانفي، فيفري...أما بالنسبة لسبب تسمية الأشهر الميلادية فإنها في الأصل تعود لتمجيد بعض الآلهة وبعض قادة الرومان الأسطورية، وهي بالترتيب كالتالي:
1. جانفي: ينسب تسميته إلى الإله جانوس وهو إله الشمس عند الرومان، وهو من يتولى حراسة أبواب السماء كما أنه إله الحرب والسِلم المختص بإعلان موعد الحرب وهدنة السلام.
2. فيفري: سمي بذلك نسبة إلى فيبروس إله النقاء لدى الرومان، حيث كان يأتي عيد التطهير في منتصف شهر فبراير يحتفل فيه الرومان بالخروج للشوارع وغسل أجسادهم كطقوس دينية ترمز للتطهير من الخطايا. وبالعودة إلى السنة الرومانية القديمة فهذا الشهر هو آخر شهور السنة.
3. مارس: تروي الأساطير التاريخية بأن المحارب مارس كان قائداً شجاعاً انتصر في كافة حروبه التي خاضها لذلك رمز إليه بهذا الشهر بل وأصبح أيضاً شهر مارس هو الشهر الأول من كل عام عند الرومان، فبه كانت تبدأ السنة الشمسية عندهم.
4. أفريل: سمي بذلك نسبة إلى أفروديت آلهة الجمال عند الإغريق، والذي يشير إلى بدايات الربيع وتفتح الأزهار والخضرة التي تعكس جمال الطبيعة.
5. ماي: اشتق من اسم مايا وهي آلهة الخصوبة والتكاثر في المعتقدات الرومانية، وهي والدة الإله عطارد؛ والسبب في تلك التسمية أن علماء الفلك المصريين لاحظوا قديماً ظهور كوكب عطارد بشكل شبه واضح في شهر مايو كل عام فنسب اسم الشهر إلى والدته.
6. جوان: مشتق من كلمة جونيوس والتي تعني باللاتينية الشباب والجمال والذي كانت له آلهة خاصة هي الإله جونو وهي آلهة القمر في الأساطير الرومانية وكانت جميلة جدا.
7. جويلية: سمي بدلك نسبة للإمبراطور الروماني جوليوس قيصر الذي جاء مولده في هذا الشهر 44 ق.م، وقد كان يدعى بالشهر الخامس، وذلك قبل إضافة يناير وفبراير.
8. أوت: ينسب إلى الإمبراطور الروماني أوكتافيوس 14م والذي لقب باسم أغسطس وذلك بعد انتصاره على كليوباترا ملكة مصر عام 31 ق م وكان اسم الشهر يدعى بالشهر السادس.
9. سبتمبر: مشتق من الكلمة اللاتينية سبتا والتي تعني الرقم السابع عند الرومان؛ وذلك لأن شهر سبتمبر كان الشهر السابع في التقويم الروماني ومن ثم جاء الربط بين الكلمة والمعنى.
10. أكتوبر: اشتق اسمه من كلمة أوكتو والتي تعني رقم ثمانية في اللغة الرومانية، وقد كان ترتيب هذا الشهر الثامن في الأشهر الرومانية.
11. نوفمبر: كذلك يشتق اسم شهر نوفمبر من الكلمة نوفا والتي تعني الرقم تسعة في اللغة الرومانية، وقد كان شهر نوفمبر يحتل الترتيب التاسع في الأشهر في التقويم الروماني.
12. ديسمبر: ديسمبر مشتق من الكلمة الرومانية ديسا والتي معناها الرقم عشرة في اللغة الرومانية، فقد كان شهر ديسمبر أيضًا يحتل الترتيب العاشر في التقويم الروماني.
وهكذا فقد اتضح لنا أن التأريخ الميلادي نتاج عمل بشري خالص، مولود في بيئة رومانية، وحضانة نصرانية، ورعاية القياصرة وتعديلات البابوات والرهبان، ونسبة الملوك ورهبان النصارى لميلاد المسيح عليه السلام هي نسبة جزافية لأنها وقعت بعد ميلاده عليه السلام بقرون عديدة. وقد طاله التلاعب تبعاً لما يرغب به القياصرة، فلماذا مثلا شهر فيفري يُقَوَّم بثمانية وعشرين يوما دون سائر الأشهر باستثناء عام واحد كل أربع سنوات يضاف له يوما؟ ثم لماذا شهرا جويلية وأوت يحتويان على واحد وثلاثين يوما رغم أنهما متتاليان في حين أن المنطق يقتضي بأن يكون أوت بثلاثين يوما، حسب المنهج المتبع، شهر بواحد وثلاثين يوما والذي يليه بثلاثين حتى يستقيم الحساب اثني عشر شهرا بثلاث مائة وخمسة وستين يوما في السنة، زائد يوم كل أربع سنوات؟ ورغم استقرار التعديل الجريجوري في القرن العشرين وقبوله كتقويم مدني عالمي، إلا أن تلك الإصلاحات التي قام بها لن تكون آخرها، حيث إنّ الأبحاث وجدت أن السنة الشمسيّة ليست 365.2422 تماماً؛ فهي تتغيّر بمرور الوقت، وعلى الرغم من أنّ هذا التغير بطيء جداً إلّا أنّه ربما يحتاج إلى إصلاح تقويمي آخر بعد أربعة آلاف سنة إذا كان الهدف هو المحافظة على انطباق السنة الشمسية على الفصول الأربعة.
أما التقويم الهجري فهو من أفضل التقاويم، لأنه تقويم طبيعي عملي قائم على الرصد. حيث إن الشهر القمري يحدث بنظام دقيق متكرر كل شهر وفق سنة كونية ثابتة، بل يمكن القول إنّ التقويم القمري هو تقويم ربّاني، لم يخترعه أو ينظّمه أحد من الفلكيّين، قال تعالى: "إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الذينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ" - التوبة: 36- كما أن التاريخ الهجري يمثل القلب النابض لأمتنا، فهو يذكرنا بتاريخنا المجيد في غزوة بدر، وفتح مكة، والقادسية وغيرها. ومن المعلوم أنه لم يُعْمَل بالتقويم الميلادي إلا بعد سقوط الخلافة العثمانية عام 1342هـ الموافق 1923م، والذي أعقبه دخول الاستعمار الصليبي لبلاد المسلمين. ومن ثم فالأوْلى بنا أن نعتز بتاريخنا الهجري المشرق، الذي هو جزء من هوية أمتنا الإسلامية، ولأن أول من وضعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحد الخلفاء الراشدين، وأن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على العمل به، فالإعراض عنه إعراض عما أجمع عليه الصحابة، ثم لارتباط هذا التقويم بالحدث العظيم المبارك وهو الهجرة النبوية المشرفة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.