عبادة البقر وحرق الأرامل والقول بتناسخ الأرواح، حقائق أم افتراءات على الهندوسية؟
إعداد: بوودن دحمان حذيفة.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه أما بعد:
تُعدّ الهندوسية من أقدم الديانات الحية، حيث تعود جذورها إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد. ويمثل الهندوس نحو ثمانين بالمائة من سكان الهند البالغ عددهم أكثر من مليار وثلاث مائة ألف نسمة. كما تتواجد أيضا خارج الهند بأعداد معتبرة في اندونيسيا وجنوب إفريقيا والمملكة المتحدة... الأمر الذي يمثل تحديا كبيرا أمام دعاة الإسلام إزاء هذه الفئة الكبيرة من الناس، بإبلاغهم رسالة الله وإخراجهم من ظلمات الكفر إلى نور التوحيد. فقد عرف عن الهند بأنها أرض تحرق فيها الأرامل ويُعبد فيها البقر والفئران! وأنا في هذا المقال لا أهدف إلى السخرية من الديانة الهندوسية، فكل الأديان تحمل في طياتها بعض الطقوس التي لو جردناها من قيمها الروحية لوجدناها مدعاة للسخرية. فالغاية هنا معرفية تسعى إلى معرفة الآخر، من أجل الحوار الحضاري والتعايش الإيجابي معه. فما هي الهندوسية؟ وهل حقا أن الهندوس يعبدون البقر؟ وهل صحيح ما يشاع أن المرأة الهندوسية تُحرق حية مع زوجها المتوفى؟ ثم ما مصير الإنسان بعد موته حسب المعتقد الهندوسي؟
الهندوسية في أصلها كلمة مكونة من هندو واستهان، فأما هندو فهي مشتقة من كلمة سند، أطلقه أهل فارس على القبائل التي كانت تعيش خلف نهر السند، ثم غيروا حرف السين إلى الهاء. وأما استهان فمعناها المقر، فحذفت الهاء تخفيفا، فصارت استان، فقالوا: هندوستان، أي مقر أهل الهند، وإلى ذلك نسبوا دينهم، فقالوا: الهندوسية. وسميت أيضا بالهندوكية لكن هذا الاسم مستحدث لم يستعمل في الكتب القديمة، فقد كان دين أهل الهند يسمى في الماضي بالدين الآري أو البرهمية.
وتظهر المشكلة في إيجاد تعريف موحد للهندوسية بسبب أنها تعود لأكثر من مؤسس ولا تؤمن بمفهوم فلسفي واحد، بل ولا تمتلك كتاباً مُقدساً واحداً. فالهندوسية ظهرت نتيجةً لتركيبةٍ من عدّة ثقافات وعقائد اندمجت معاً. ففي القرن الخامس عشر قبل الميلاد كان هناك سكان الهند الأصليون من الزنوج الذين كانت لهم أفكار ومعتقدات بدائية، ثم جاء الغزاة الآريون مارّين في طريقهم بالإيرانيين فتأثرت معتقداتهم بالبلاد التي مروا بها، ولما استقروا في الهند حصل تمازج بين المعتقدات تولدت عنه الهندوسية كدين فيه أفكار بدائية من عبادة الطبيعة والأجداد والبقر بشكل خاص، وفي القرن الثامن قبل الميلاد تطورت الهندوسية عندما وُضع مذهب البرهمية، وقالوا بعبادة براهما، ثم تطورت مرة أخرى في القرن الثالث قبل الميلاد عن طريق قوانين منوشاستر.
ويمكن القول أن الهندوسية هي مجموعة من العادات والعقائد التي تشكلت في الهند عبر مسيرة طويلة من القرن الخامس عشر قبل الميلاد، وهي تجمع في تعاليمها بين العقائد الوثنية الساذجة والآراء الفلسفية السامية مع قدر غير قليل من الزهد الصادق وهي ديانة موغلة في القدم لا تعرف لها بداية مضبوطة ولا مؤسس ظاهر - أبو الفتح أحمد الشهرستاني، الملل والنحل ج2 ، ص: 11.
ويعتبر الفيدا من أهم الكتب المقدسة لدى الهندوس، والفيدا كلمة سنسكريتية تعني المعرفة، وهو كتاب يجمع العقائد والعادات والقوانين، ويصف الحياة الاجتماعية للآريين في مقرهم الجديد الهند، ففيه أخبار حلهم وترحالهم ودينهم ومعاشهم ومطاعمهم ولباسهم، كما يذكر آراءهم البسيطة في الكون والإنسان، ويصور مدارج الارتقاء للحياة العقلية من السذاجة إلى الشعور الفلسفي، على امتداد قرون عديدة. ويتألف الفيدا من أربعة كتب هي: راج فيدا: ويتضمن تفاصيل دقيقة عن الطقوس الدينية للقرابين التي تقدم للآلهة. ثم ياجور فيدا: وتشتمل على العبادات القولية التي يتلوها الرهبان عند تقديم القرابين. وبعدها سآم فيدا: وتشتمل على الأغاني التي ينشدها المنشدون أثناء إقامة الصلوات وتلاوة الأدعية. وأخيرا آتور فيدا: وتشتمل على مقالات في السحر والرقى والتعاويذ لإبعاد الشياطين.
وقد ألحقت بالفيدا كأجزاء ختامية لها مجموعة من النصوص تعرف بالأوبانيشاد وهي الأسرار والمشاهدات النفسية للعرفاء من الصوفية. كما تعتبر قوانين منوشاستر شرح لمبادئ الفيدا، وقد وضعت في القرن الثالث قبل الميلاد، عصر انتصار الهندوسية على الإلحاد الذي تمثل في الجينية والبوذية.كما أن هناك كتب أخرى معتبرة عند الهندوس كالمهابهارتا وكيتا ورمايانا ويوجا..إلا أنها تعتبر كتب أدبية وتاريخية أكثر منها كتب دينية.
وتجدر الإشارة إلى أن الفيدا لا يعرف له واضع معين، اللهم إلا ما جاء في مقدمة تفسير ريج فيدا: إن هذا الكتاب يشتمل على أفكار ثلاثمائة ناسك. ويجهل الباحثون تاريخ تدوين الفيدا على وجه التحديد، الأشهر أنها تعود إلى القرن السادس عشر قبل الميلاد، وقد اكتسبت الفيدا بتقادم العهد قداسة عند الهنود، حتى صاروا يعتقدون أن الفيدا أزلي وقديم كقدم العالم. ويرجح وول ديورانت في قصة الحضارة أن بعض التجار الهنود من طائفة الدرافيديين هم من قاموا بمهمة التدوين الأولى، ما جعل هذه الكتابة في بداياتها لا تستخدم إلاَّ لأغراض تجارية وإدارية. وشجع كهنة الهندوس هذا التدوين لتكون الفيدا في أيديهم سلاحاً دينياً يضمن لهم السيطرة والموقع المتقدّم، خاصة بعد أن وطدوا أسس النظام الطبقي في الهند وأعطوه بعداً دينياً.
إن مساهمة العديد من الشعوب في صياغة الديانة الهندوسية هو الذي أدى إلى الكثير من المتناقضات والمعبودات فيها، فالهندوسية ديانة وثنية، ومنشأ الوثنية فيها يعود إلى كون معتنقيها يعبدون القوى المشاهدة المؤثرة في الكون حسب زعمهم، ولهذا فالآلهة عند الهندوس كثيرة ومتعددة، فتبدأ من كواكب السماء وتنحط إلى فئران الحقل وبقر الطرقات، يقول وول ديورانت: "ولو أحصينا هاتيك الآلهة لاقتضى ذلك مائة مجلد" - قصة الحضارة ج 3 م1 ص: 37- فحتى الأفاعي الناجا يقدّمون لها العطايا من اللبن والموز عند مداخل جحورها. ومن أشهر الآلهة التي عرفتها الهندوسية البدائية إندرا إله الرعد والعواصف والمطر، وفارونا إله السماء الليلية، وميثرا إله السماء النهارية، آغني إله النار...
ومع هذه الكثرة في الآلهة فقد اختزلها الهندوس في المرحلة البراهمية في آلهة ثلاثة أو واحد ذو ثلاثة أقانيم لكلّ منهم مهمة بعينها، ومن يعبد أحد الآلهة الثلاثة فقد عبدها جميعاً، ولا يوجد أي فارق بينها- محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، م 2، ص: 159- وهذه الأقانيم هي: بَرَاهْمَا: وهو الإله الخالق المانح للحياة، والقوي الذي صدرت عنه جميع الأشياء، وينسبون إليه الشمس التي بها الدفء وتجري عن طريقها الحياة في الأجسام، فهي مظهره المحسوس، ورغم أن براهما هو الإله الأساسي في عقيدتهم إلا أنه مهمل في طقوسهم وشعائرهم. ثم الإله سِيْفَا وهو الإله المخرب المُفْنِي، الذي يصفر الأوراق ويهرم الشباب...وينسبون إليه النار التي لا تبقى ولا تذر، فهي مظهره المحسوس. والأقنوم الثالث هو فيشنو، الإله الحافظ، حيث يعتقد الهندوس أن الإله فيشنو حل في المخلوقات ليقي العالم الفناء التام. ويحتل فيشنو موقعا متميزا في الشعائر الهندوسية فهو يتمتع بوظيفة أخرى، وهي التجسد avatar، والتي تجعله رسول الآلهة إلى عالم الأرض، وهو يتجسد في كائنات حية إنسانية وغير إنسانية سمكة، سلحفاة، أسد... ومن أشهر تجسداته البشرية: راما وكريشنا، وكريشنا هو اليوم أكثر آلهة الهندوس شعبية، حيث يعتقد الهندوس بأن آلهتهم قد حلَّت في إنسان اسمه كرشنا. وهم يتحدثون عن كرشنا كما يتحدث النصارى عن المسيح، وقد عقد الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله مقارنة بينهما مظهراً التشابه العجيب بين ما يقوله النصارى في المسيح والهندوس في كرشنا، وعلَّق في آخر المقارنة قائلاً: "وعلى المسيحيين أن يبحثوا عن أصل دينهم". فإن كانت البرهمية أسبق في الوجود عُلِم الآخذ من المأخوذ منه، وأصبح الفرق واضحاً بين الأصل وما تفرع منه. فلا غرابة أن تكون فكرة التثليث قد انتقلت من الفكر الهندي إلى الفكر النصراني بعد رفع المسيح عليه السلام.
ويلتقي الهندوس على تقديس البقرة تقديسا خاصا، فلها تماثيل في المعابد والمنازل والميادين، ولها حق الانتقال إلى أي مكان حتى في الشوارع المزدحمة، ويعتبر من حسن الحظ تقديم طعام للبقرة قبل الفطور. وإشعال النار تحت رأسها، وهي مبجلة لدرجة أنه لا يجوز للهندوكي أن يمسها بأذى أو بذبحها، وإذا ماتت دفنت بطقوس دينية. وقالت منظمة هيومن رايتس ووتش: "إن أربع وأربعين شخصا على الأقل قتلوا في الهند خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بسبب أعمال عنف ناتجة عن "ذبح البقر" في البلاد". وتعد جماعة "حراس البقر" إحدى المجموعات الأهلية الهندوسية، التي تستخدم العنف لـحماية الأبقار في الهند. ولهذا يعد تناول لحوم الأبقار أحد أبرز المشكلات التي تواجه الحكومات الهندية عموماً، فبينما يقدس الهندوس البقرة، تعد لحومها وجبة رئيسية لدى المسلمين وبعض الفئات الأخرى، نظراً إلى رخص ثمنها مقارنة باللحوم الأخرى كالدجاج والسمك... الأمر الذي أثار انقسام الهند عام 1947م إلى دولتين إحداهما هندوسية هي الهند، والثانية مسلمة هي باكستان، ونتيجة لذلك التقسيم ظهرت على مسرح الأحداث مشكلة إقليم "جامو وكشمير" المتنازع عليه بين الهند وباكستان حتى اليوم.
ولعل السر وراء تقديس الهندوس للبقر أنها كانت من أغلى ثروات الآريين، نظرًا لمنافع البقر العديدة. فقد كانت تزودهم بالحليب ومنتجات الألبان الأخرى. كما كان للأبقار أهمية بالغة في الأعمال الزراعية، فكانوا يُحمّلون بالمحاريث من أجل فلح الأرض. وكانت تُستخدم عربة الأبقار أيضًا كوسيلة للتواصل والسفر. بل حتى روث الأبقار يُستخدم في العديد من الأغراض في البيوت الريفية إلى يومنا هذا، ويُعد مصدراً ممتازًا للسماد من أجل النباتات. كما يعمل الروث المجفف كوقود جيد جدًا يستخدمه الناس في المناطق الريفية للطهي في أفران مصنوعة من الطين.
ووفقًا لأحد أشهر معتقدات الهندوس فإن الإله كريشنا غالبًا ما تم تصويره إلى جانب بقرة، فيُعتبر أنه حامي البقر، كما وضعوا في كتابهم المقدس أبياتا لتمجيدها، ووصفوها بأنها ابنة الإله، ومركز الحياة، وهي مصدر العلم... ونشرت مجلة Bhavan.s Journal لسنة 1963 التى تصدر في بومباي بالهند قولاً للمهاتما غاندي مؤسس الهند الحديثة: "عندما أرى بقرة لا أعدني أرى حيواناً، لأني أعبد البقرة، وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع، وأمي البقرة أفضل من أمي الحقيقية من عدة وجوه، فالأم الحقيقية ترضعنا مدة عام أو عامين وتتطلب منا خدمات طول العمر نظير هذا، ولكن أمنا البقرة تمنحنا اللبن دائماً، ولا تتطلب منا شيئاً مقابل ذلك سوى الطعام العادي. وعندما تمرض الأم الحقيقية تكلفنا نفقات باهظة، ولكن أمنا البقرة فلا نخسر لها شيئاً ذا بال، وعندما تموت الأم الحقيقية تتكلف جنازتها مبالغ طائلة، وعندما تموت أمنا البقرة تعود علينا بالنفع كما كانت تفعل وهى حية، لأننا ننتفع بكل جزء من جسمها حتى العظم والجلد والقرون. أنا لا أقول هذا لأقلل من قيمة الأم، ولكن لأبين السبب الذي دعاني لعبادة البقرة". وقد كتب مقطع من هذا الكلام على أشهر تماثيل غاندي في نيودلهي عاصمة الهند. ونفهم من كلامه أن البقرة تمنحنا كل شيء ولا بد أن تأخذ حقها مقابل ذلك. ولو وافقنا غاندي على صحة هذه المقارنة، فهل يصح أن نخرج بنتيجة مفادها صحة عبادة البقرة؟! إن هذا هو منطق الوثنيين منذ أقدم العصور، فالذين عبدوا الشمس نظروا إلى منافعها، والذين عبدوا الشجر كذلك ... فهلا عبدوا مسبب الأسباب؟ ولنا أن نسأل: كيف استطاعت هذه البقرة أن تقنع عباقرة الهند بعبادتها؟ بل وأن يكون على استعداد لقتل كل من يمس قداستها وهي تموت وتأكل وتتغوط، بل وتعجز أن تدفع عن نفسها حتى أسراب الذباب المحتشد على أنفها؟ حقا إن الإنسان العاقل ليعجب كيف ينزل مستوى عقل الإنسان لعبادة مخلوق ضعيف لا يقدر أن ينجو بنفسه من سكين الجزار حين الذبح!
ومن المحتمل أن تكون الوثنية في الديانة الهندوسية جاءت مع الآريين الغزاة. حيث نلمس الرؤية التوحيدية الكامنة وراء مظاهر تعدد الآلهة، كما جاء في أثارو فيدا- 13/4/16-:"الإله هو الواحد لا اثنين و لا ثلاثة ولا أربعة ولا خمسة ولا ستة ولا سبعة ولا ثمانية ولا تسعة ولا عشرة هو (الله) وحده". والحق أنه لا يوجد توحيد بالمعنى الدقيق عند الهنادكة، لكنهم إذا أقبلوا على إله من الآلهة أقبلوا عليه بكل جوارحهم، حتى تختفي عن أعينهم كل الآلهة الأخرى، وعندها يخاطبونه برب الأرباب.
ومن الطقوس الهندوسية إحراق الموتى أو الترميد، فبعد لف الجثة في ثوب ورشها بمساحيق وزيوت مختلفة الألوان والروائح، يتم حرقها إلى آخر جزء من أجزاءها باستخدام الخشب حتى تتحول إلى رماد. ثم رميها بعد قراءة مجموعة من التعويذات في ضفاف أحد الأنهار وبالأخص في نهر الغانج مكة الهندوس الذي يشهد توافد الملايين من الهندوس للحج إليه قبل الموت والتطهر من آثامهم بمياهه القذرة.
ويعلل الهندوس أن السر من وراء حرق الجثة هو تمكين الروح من التخلص من الجسم والتوجه إلى الأعلى بشكل عمودي لتصل إلى الملكوت في أقرب زمن! وتظل أسرة المتوفى تقدم وجبة أرز لروحه لمدة عشرة أيام حتى لا تظل روح المتوفى هائمة في عالم الأشباح في انتظار الميلاد الجديد. وعندما تتخلص الروح وتصعد يكون أمامها ثلاثة عوالم: إما العالم الأعلى: عالم الملائكة. وإما عالم الناس: مقر الآدميين بالحلول. وإما عالم جهنم: وهذا لمرتكبي الخطايا والذنوب.
وفي الأزمنة القديمة للهند كان هناك تقليد اجتماعي ديني يقال له "ساتي" ويقضي أن تحرق الأرملة نفسها مع جثمان زوجها. وفي العادة تقام المحرقة للموتى خلال يوم من مفارقتهم الحياة، أي إن الزوجة لديها ليلة واحدة لتقرر تطبيق الساتي أم لا! ونحن نعرف كم تلعب العوامل النفسية دورا كبيرا في هذا الاختيار، فعادة ما يتوقع منها الأقارب والجيران القيام بذلك. وفي حال وافقت الأرملة على تطبيق الساتي فإنها تتعطر وتلبس أفضل ما عندها من ثياب، ثم تؤخذ إلى المحرقة فتجلس عند الزوج ‏المتوفى ثم تبدأ بالنواح على رحيله عنها حتى تصل إلى درجة تفقد صوابها وبعدها ‏يقوم عدد من الرجال بربطها فوق جثة زوجها ويصبون فوقهما سائلا سريع الاشتعال ثم ‏تضرم فيهما النار حتى تصبح جثتاهما رمادا. وهناك قصص عن نساء حاولن الفرار فقام الرجال المتجمعين حول المحرقة بدفعهن وضربهن بواسطة العصي الطويلة حتى تمكنوا من إرجاعهن إلى النار.
وقد ارتبطت هذه العادة المخيفة بالجوانب الروحية المتعلقة بمعتقدات ما بعد الموت، حيث إن النساء كن ‏غالبا ما يرسلن إلى حتفهن لمرافقة أزواجهن أثناء الرحلة إلى عالم الأبدية لتكون قريبة منه في حياته وبعد مماته. وقال أستاذ التاريخ في جامعة دلهي فينود راجا: "إن نساء تلك الحقبة التاريخية كن يؤدين هذه العادة تعبيرًا عن الإخلاص ‏والتودد لأزواجهن وللحفاظ على شرفهن من أن يدنسه غزاة الملك كاران جوهر بعد موت ‏أزواجهن في ساحة الحرب خلال المعارك التي خاضوها ضد جنود الملك جوهر الذي غزا ‏الهند وأقام دولته في ولاية راجستان". وذكر راجا أنه لا يعرف لنظام الساتي أي أصل محدد، إلا أن جذورها تعود إلى بعض المعتقدات الهندوسية القديمة حيث ورد أن زوجة إلههم سيفا ‏ أحرقت نفسها أمام جموع الحاضرين تعبيرًا عن عدم رضاها عن أبيها داكشا الذي ‏أقام وليمة دعا إليها كبار الآلهة واستثنى منهم الإله سيفا، الأمر الذي جعلها ‏تشتعل غضبا من تصرف أبيها تجاه زوجها الذي لحق به ذل تجاهل والدها مما جعلها تضرم ‏النار بنفسها فداء لزوجها! وقيل إن النساء كانت تجبر على حرق أنفسهن تفادياً للعذاب المتوقع والفقر المدقع الذي ستعيش فيه.
ومنذ القرن السادس عشر حاول أباطرة المغول المسلمين حظر هذه العادة إلا أن جميع الجهود ذهبت ‏أدراج الرياح أمام التعصب القبلي الأعمى لهذا النظام. كما قام المصلح الاجتماعي رام موهان راي بحملات حثيثة لوقفها، وعندما جاء الاحتلال الإنجليزي للهند، فضعت الحكومة عام 1829م قانون يمنع حرق الأرملة مع زوجها المتوفى. ولكنه استمر يمارس بشكل طوعي خاصة في المناطق الريفية حتى صدر قانون يجرمه عام 1987م. ولكن وعلى الرغم من حظرها لا تزال تحدث في بعض المناطق بشكل فجائي. حيث تقوم بعض الأرامل أحيانا بالقفز إلى داخل نار فجأة قبل أن يتمكن الناس من منعهن، وأحيانا يلاقي هذا الانتحار استحسانا كبيرا من الجمهور باعتباره تجسيدا لأخلاق الزوجة الهندوسية الطاهرة والمخلصة. كما أن هناك ما يسمى بالساتي الرمزي، أي أن الأرملة تلبس ثياب العروس وتجلس قرب جثة زوجها الميت لكنها تغادر المحرقة قبل إضرام النار فيها.
وبعد إيقاف هذا التقليد بقانون منذ ما يقارب المائتي عام، فإن أثاره في نبذ الأرملة لا زالت قائمة إلى الآن، خاصة إذا كانت الأرملة من الطبقات الفقيرة، فالثقافة الهندوسية لا تجيز للأرملة الزواج مرة ثانية كما أنها تحرمها من الميراث وتجعلها تعيش على هامش الحياة. وبما أن الديانة الهندوسية تجيز عقد القران للأطفال وهم يحْبُون، فيحدث أن يموت الولد فتشب البنت أرملة ابتداء! وقد تضطر إلى ترك بيتها أو تجبر على العيش في الملاجئ الخاصة بالأرامل التي يطلق عليها آشرم والمعابد الهندوسية. كما تجبر الأرامل عن البعد عن مظاهر الحياة من ملابس زاهية، والاكتفاء بوجبة نباتية فقيرة الأرز يومياً. كما تجبر على نزع الأسارو والحلي وحلق رؤوسهن، ولبس الأبيض طوال حياتهن، وإزالة العلامة الحمراء من على جباههن - البيندي- التي ترمز لليمن والبركة والحظ الجيد.
وهكذا تبقى العديد من الأرامل على قيد الحياة بفضل بعض الروبيات التي يجنينها يوميا من الغناء في المعابد. واللواتي لم يعدن قادرات على الغناء يلجأن إلى التسول في الشوارع، والعديد من الأرامل الشابات يجبرن على العمل في البغاء مع بعض مديري هذه الملاجئ. مما يعني أن الأرامل يكن عرضة للاستغلال حتى في هذه الملاجئ التي يفترض فيها أن توفر لهن الحماية والأمان.
ومع كل هذه المعطيات فإن الجيل الجديد لديه انفتاح وإمكانية لتحسين أوضاع الأرامل لأنه بدأ يدرك حجم المشكلة والمعاناة، وتعمل الحكومة على تنظيم خطط تدريب مهني للأرامل بإنجاز مشاريع في إنتاج البخور والعطور من الأزهار لتتمكن من العمل والحصول على المال للخروج من هذه المأساة.
ولا يمكن الحديث عن الهندوسية دون الإشارة إلى الطبقية في المجتمع الهندوسي، فمنذ أن وصل الآريون إلى الهند شكَّلوا طبقات لدى الزنوج السكان الأصليون للهند، وما تزال هذه الطبقات قائمة إلى الآن، حيث يتكون المجتمع الهندوسي من أربع طبقات رئيسة، أعلاها طبقة البراهمة: يعتقدون أن براهما خلقهم من فمه وهم رجال الدين والعُلماء، ولهم يلجأ الجميع في حالات الزواج والوفاة، ولا يجوز تقديم القرابين إلا في حضرتهم، ويلاحظ هبوط المستوى الاقتصادي لهذه الطبقة، ذلك لأن العمل لا يليق بمكانتها السامية!. ثم طبقة الكشاتريا ويزعمون أن براهما خلقهم من ذراعيه وهم المحاربون والحُكام. ثم طبقة الويش وخلقهم براهما من فخديه وهم الحِرَفيين والتّجار يزرعون ويتاجرون ويجمعون المال، وينفقون على المعاهد الدينية. وأخيرا طبقة الشودر وخلقهم من رجليه وهم طبقة الخدم ويشكلون مع الزنوج الأصليين طبقة المنبوذين، وعملهم مقصور على خدمة الطوائف الثلاث السابقة ويمتهنون المهن الحقيرة.
وقد كان لهذا النظام أثر في العلاقات الاجتماعية، ومسائل الزواج، فلا يتزوج الرجل امرأة من طبقة أعلى من طبقته، لكن يجوز له أن يتزوج من طبقة هي دون طبقته، على ألا تكون من الطبقة الشودر، وهكذا بينما يتمتع أناس فيه بمقام الآلهة، يخوض آخرون أوحال الذل والمهانة، وهذا يخلق نوع من القطيعة بين أفراد المجتمع الهندوسي.
وعند إلقاء نظرة فاحصة نجد أن هذا التقسيم الطبقي بُنِي على النَسَب والحِرَف. وليس نتيجة سلطة ظالمة توشك أن تزول، بل هو بمقتضى دينهم، فقد جاء في كتابهم "منُّوسَمَرتي" أحد أسفارهم المقدسة: "لسعادة العالـم خلق براهما - إله الخلق - البراهمة من وجهه، والكشتريين من ذراعيه، والويش من فخذيه، والشودر من قدميه" ولهذا يلتقي الجميع على الخضوع لهذا النظام الطبقي بدافع ديني. ولا طريق لإزالتها لأنها بحسبهم تقسيمات أبدية من خلق الله. وهكذا فالطبقية الهندوسية هي من أشنع الطبقيات، فالطبقية ربما حصلت في بعض المجتمعات لكن كان بالإمكان التخلص منها بل والثورة عليها، لكنها عند الهندوس هي قدر إلهي وأمر رباني من يخالفه يشقى في ديناه وبعد موته! فمن ولد من الخدم يظل طيلة عمره خادما ولا يحق له أن يترفع عن هذه المهنة أو أن يكون له طموح في التحرر منها إلا أن يتحرر من الهندوسية ذاتها. ولنا أن نسأل: في أي الطبقات يكون الفرد لو أراد أن يعتنق الهندوسية؟!
إلا أن نظام المجتمع الطبقي أدى إلى ظهور ديانتين رفضتا التقاليد البراهمانية، وهما الجينية والبوذية، وكلتاهما ظهرتا تقريبًا في القرن السادس قبل الميلاد. وقد حاول الزعيم الهندي غاندي تقليص الحدة بين الطبقات وبين المنبوذين ولكن محاولاته ذهبت أدراج الرياح، بل كان هو ذاته ضحية لهذه المحاولة. كما حاولت جماعة السيخ إنشاء دين موحد من الهندوسية والإسلام لكنهم فشلوا إذ سرعان ما انغلقوا على أنفسهم وصاروا طبقات متميزة يرفضون التزاوج مع غيرهم.
وقد ظهر مؤخراً بعض التحسن البسيط في أحوال المنبوذين خوفاً من استغلال أوضاعهم ودخولهم في أديان أخرى لاسيما النصرانية أو الشيوعية التي تغزوهم. ولكن كثيراً من المنبوذين وجدوا العزة في الإسلام فاعتنقوه. لأن الإسلام لم يفرق بين البشر باعتبار الجنس أو الأصل أو الوضع الاجتماعي، ولله در الشاعر حين قال: لقد رفع الإسلام سلمان فارسٍ***وقد وضع الكفرُ النسيبَ أبا لهب.
ومن هذه الخلفية الطبقية نشأت عقيدة التناسخ – بونرجنم- عند الهندوس، وتعني أن أي كائن حي بعد موته تعود روحه للعيش في جسد آخر. فالروح عندهم خالدة لا تموت لأن مصدرها الإله براهما الذي لا يموت، كما أنها لا تختص بجسم واحد، بل ربما دخلت مئات الأجسام قبل هذا الجسم. وليس بالضرورة انتقال الروح يكون من إنسان لآخر، فقد تنتقل الروح في حياته القادمة إلى حيوان أو حشرة أو طير...وتأتي عملية الانتقال ضمن ضوابط تحدد هذا الانتقال وهو ما يعرف عندهم بالكارما" أي قانون الجزاء، حيث يقولون: جزاء المحسن أن توضع روحه في جسد صالح تتنعم فيه، وجزاء المسيء أن توضع روحه في جسد شقي تشقى به. وذلك لأن نظام الكون إلهي قائم على العدل المحض، وهذا العدل سيقع لا محالة، إما في الحياة الحاضرة، أو في الحياة القادمة. فمن عاش حياته الأولى غير صالحا فإن روحه سوف ترتكس للتكفير عن خطاياها بأن يولد في طائفة أدنى في حياته الثانية وهكذا الأدنى فالأدنى ثم يولد عليلا، ثم إذا ظل فاسدا فإنه سيولد حيوانا ويستمر في التدني حتى يولد بعوضة أو برغوثا. وإن لم تستطع تهوى درجةً درجة حتى تدخل جهنم.
أما من عاش حياةً صالحة في حياته الأولى وكان شودرياً مثلا، فعندما يموت، يموت جسده وتبقى روحه، فتجازى بأن توضع في جسد صالح، حيث تنتقل روح الميت إلى جسد طفل وليد من طائفة الحرفيين والصناع في حياته الثانية، ولو ظل رجلاً صالحاً في حياته الثانية ينتقل إلى جسد رجل من الملوك والأغنياء في حياته الثالثة، ولو ظل رجلاً صالحاً ينتقل إلى جسد براهمي أو كاهن في حياته الرابعة، حينها يكون مصيره الإتحاد مع الإله براهما وبالتالي تنتهي دورة حياته لأنه وصل إلى السعادة العظمى.
ويؤمن الهندوس بأن السبب الذي يجعل الأرواح تنتقل من جسد إلى آخر هو الرغبة في الحصول على الملذات الدنيوية، ورغم إن الهندوس لا يعتبرون الملذات الدنيوية إثما بحد ذاتها لكنهم يعتقدون بأن هذه الملذات سطحية لا تحقق السعادة والسلام للنفوس. لذلك بعد عدة مرات من الموت والولادة الجديدة تبدأ الروح تدرك محدودية السعادة التي توفرها الملذات الدنيوية وتبدأ تبحث عن السعادة عن طريق التمرينات الروحية مثل اليوغا، حتى تصل إلى مرحلة عليا تنتهي فيها كل رغبة بالملذات الدنيوية، وعند الوصول إلى هذه المرحلة الروحية السامية فإن الروح لن ترغب في الحياة مجددا وستتخلص من معاناة التناسخ وتذهب إلى الجنة الأبدية مع الآلهة حيث تتحد الروح بالخالق براهما الذي صدرت منه وتتصرف في شؤون الكون كما تشاء! وهذا ما يسمى عندهم بعقيدة النِرفانا أو مرحلة الانطلاق أي النجاة من الجولان، وهي حالة الروح التي بقيت صالحة في دورات تناسخية متعاقبة. ولكن هذا لن يحصل وفقا لمعتقداتهم إلا إذا تخلصت النفس من شرورها ونزعاتها وشهواتها ورغباتها كما ورد في كتابهم أرنيك: "من لم يرغب في شيء ولن يرغب، وتحرر من رق الأهواء، واطمأنت نفسه، فإنه لا يعاد إلى حواسه، فيتحد بالبرهما ويصير هو، ويصبح الفاني باقيا"
وتنطبق عقيدة التناسخ على كل المخلوقات، فجميعهم من الإله براهما، وبالتالي فإن الهندوس يعتقدون بوحدة الوجود وتعني أن الوجود كله مُشخّص في الإله، فلا موجود حقيقي إلا هو، وجميع من في الكون هم صور متعددة للإله. فالكل متولد عن الإله أو مساعد له أو مظهر من مظاهره، فالعلاقة بين الإنسان والآلهة كالعلاقة بين شرارة النار والنار ذاتها، وكالعلاقة بين البذرة وبين الشجرة. ولا شك بأن هذا القول أشد كفرا من قول النصارى الذين خصوا بالحلول المسيح عليه السلام.
ومن الجدير بالذكر أن عقيدة التناسخ لا وجود لها في كتاب الفيدا، وأن بونرجنم في اللغة معناه البعث بعد الموت لا تكرار المولد كما يعتقد الهندوس، ويؤكد هذه الحقيقة أقوال بعض علماء الهندوسية، حيث يقول ستي كام ويدها لانكر: "لا يوجد التناسخ في الفيدا وأنا أتحدى بذلك"- التناسخ ص 104- وتقول الدكتوراه فيرراده جوهان: "يوجد في الفيدا بونرجنم ولكن في مفهوم البعث بعد الموت لا في مفهوم التناسخ"- بونرجنم والفيدا ص13- هذا وإن عقيدة التناسخ من العقائد التي يحكم العقل ببطلانها، فلك أن نسأل أي هندوسي: هل يتذكر شيئا عن تلك الحياة التي عاشها من قبل في جسد آخر؟! قد يقال ليس بالضرورة أن كل هندوسي انتقل من جسد إلى جسد فثمة ولادات جديدة، والجواب: نعم ولكن هذا الأمر لا يشعر به كل الهندوس بما يعني ضرورة بطلان دعوى التناسخ فضلا عن دعوى الاتحاد بالإله. ولو سلمنا بالتناسخ فما هو الأصل في بداية الولادة؟ هل الإنسان أم الحيوان؟ فإذا كان إنسان فما هي الحسنة التي جاء بها في أول الولادة؟ وإذا كان حيوان فما هي السيئة التي ارتكبها؟ وإذا كانت الأشجار والحيوانات محل تناسخ الإنسان، فكأننا قلنا بلزوم الذنوب للإنسانية حتى تكثر الأشجار والحيوانات. لأن الأشجار والحيوانات كالمواشي نعمة للإنسان يستفيد منها في حياته. ثم إن الأشجار لا توجد بها روح فكيف تختار روح الإنسان صورة الأشجار ولا روح لها؟ ويلزم من هذه العقيدة إساءة الظن بالفقراء والمرضى وأصحاب العاهات بأنها سبب ارتكابهم الذنوب والمعاصي!
ختاما نقول: إن الهندوسية ليست ديانة سماوية موحى بها من عند الله، بل هي عبارة عن معتقدات وعادات ونظم وسلوكيات قوم سُجلت فاتخذها أجيالهم من بعدهم دينا يتبعونه ومنهجا يسيرون عليه. وإن عجب الإنسان لا ينقضي حين يرى عالم رياضيات مشهور تدين له البشرية بفضله في اكتشاف أعقد النظريات الرياضية ثم تجده فجأة يقف أمام بقرة يتمسح بذيلها ويمرغ ملابسه بروثها! فلا يملك الفرد إلا أن يرفع أكف الضراعة ويقول: اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
والحق أنَّ الهندوسية لا تَحرم الأرملة حق الحياة، بخلاف ما هو شائع من أنَّ حرق الأرامل من الشريعة الهندوسية، ومع ذلك فحياة الأرملة الهندوسية حياة منقوصة؛ حرمت الأرملة من كثير من حقوقها الطبيعية. فهي لا تملك حق التصرف في نفسها ومالها؛ إذ لا يسمح لها بالزواج إلَّا إذا لم يكن لها أولاد ومن أحد أقارب الزوج، ولا يحق لها أن ترث زوجها وهو يرثها.
وفي اعتقادي أن التناسخ جاء بديلاً عند مفكري الهندوسية عن الإيمان بالبعث، فالبعث لم يُذكر لديهم كحياة أخرى فيها الثواب والعقاب الخالد، وإنما يرتبط مصير النفس بموضوع التناسخ، وبالتالي يحلون أكبر معضلة لديهم وهي العدل. فإذا ما كان براهما قد خلق الناس على طبقات فالشودري يمكنه أن يكون حرفياً، ويمكنه أن يصبح غنياً من الملوك... وهكذا يتحقق العدل عندهم. فالحمد لله الذي هدانا لنعمة الإسلام وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.