بعد الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
أقول وبالله التوفيق
يقول الله تعالى: (ألَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يبَنِى ءادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَـانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِى هَـذَا صِراطٌ مُّسْتَقِيمٌ) [يس:60، 61]، وقال تعالى: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَـانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَـابِ السَّعِيرِ) [فاطر:5، 6].

ففي هذه الآيات الكريمة بيّن اللهُ -سبحانه وتعالى- عداوةَ إبليس للإنسان، وحذّر عباده منه، فأخبر -جلّ وعلا- أن الشيطان مُظهِر ومُبارِز لنا بالعداوة، فأمرنا بمعاداته أشدّ العداوة، ومخالفته أشدّ المخالفة، وتكذيبه فيما يغرّرنا به.

هذه العداوة القديمة -عباد الله- التي نشأت منذ أن خلق الله آدم -عليه السلام- ونفخ فيه الروح، قال تعالى: (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنْ الْعَالِينَ * قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ * قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ * قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ فَإِنَّكَ مِنْ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ * قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص:71-85].

فالشيطان هو العدوّ اللدُود للإنسان، فلا بد للمسلم أن يتذكّر هذه العداوة، وأن يجعلها نصب عينه، أن لا ينسى أبدًا أن هناك قَرِينًا من الشيطان مُلازِمًا له لا يفارقه، يتربّص به من يوم ولادته إلى يوم فراقه للحياة، يحاول هذا العدو هذا القَرِين إضلاله وإبعاده عن سبيل الله، وقد توعّد وأقسم بعزّة الله على إضلال بني آدم: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَـانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَـاكِرِينَ) [الأعراف: 16].

والذي ينبغي على كل مسلم أن يعلمه أنّ كل إنسان له قرينه من الشيطان، فقد أخبرنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- بذلك، ففي صحيح مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من عندي ليلاً، فغِرْتُ عليه، فجاء فرأى ما أصنع، فقال: "ما لك يا عائشة؟!"، قلت: وما لي لا يغار مثلي على مثلك؟! فقال: "أقد جاءك شيطانك؟!"، قلت: يا رسول الله: أَوَمعي شيطان؟! قال: "نعم"، قلت: ومع كل إنسان؟! قال: "نعم"، قلت: ومعك يا رسول الله؟! قال: "نعم، ولكنّ ربي أعانني عليه حتى أسلَمَ"، وفي صحيح مسلم وأحمد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منكم من أحد إلا وقد وُكِّل به قرينُهُ من الجن وقرينُهُ من الملائكة"، فأخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أن لكل إنسان عدوًّا وقرينًا من الشيطان يتربّص به جاهدًا ومحاولاً لإضلاله عن صراط الله المستقيم. ولله الحكمة البالغة في ذلك، فقد سلّطه الله على عباده ابتلاءً وامتحانًا، قال تعالى: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَـانُ إِلاَّ غُرُورًا) [الإسراء: 64].

والشيطان يستطيع أن يصل إلى فكر الإنسان وقلبه بطريقة لا ندركها ولا نعرفها، ويساعده على ذلك طبيعته التي خُلِق عليها، وقد ثبت في صحيح البخاري أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الشيطان يجري من بني آدم مجرى الدم"، فهذه هي الوسوسة إذ سماه الله تعالى بالوسواس الخنّاس الذي يوسوس في صدور الناس، قال ابن كثير: "الوَسْوَاسِ الخَنَّاسِ أي: أن الشيطان جاثِم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذَكَر الله خَنَس".

فهكذا -عباد الله- الشيطان، يستغِلّ ضعف الإنسان، فإنّ للإنسان نقاط ضعف كثيرة، وهي في الحقيقة أمراض تقع في قلبه، فتصبح مدخلاً من مداخل الشيطان، ومن هذه الأمراض: الغضب والشهوة والكِبْر والعُجْب والغرور والحسد والعَجَلة والجهل والغفلة والكذب والظلم والطغيان والحزن والفرح وحبّ المال والافتتان بالدنيا والنساء وغيرها، وكلّ هذه منافذ يدخل منها الشيطان للوسوسة.

وإن للشيطان -عباد الله- هدفين: هدفًا بعيدًا وهدفًا قريبًا، أما الهدف البعيد فهو إدخال العباد إلى النار معه، وقد توعَّدَ بذلك، وأما الهدف القريب فهو إيقاع العباد في الشرك والكفر، وإيقاعهم في الذنوب والمعاصي.

وإن للشيطان -عباد الله- مكائد ومصايد يصطاد بها الإنسان، كما أن له أساليب عديدة لإضلاله، فالشيطان لا يأتي إلى الإنسان ويقول له: اترك هذه الأمور الخيّرة، ولا يأتي إلى الإنسان ويقول له: اترك الصلاة أو اكفر بالله، فلو فعل ذلك فلن يطيعه أحد، ولكن يأتيه بأساليب ذكية ومختلفة، ويتدرّج معه بخطوات متعاقبة ومتتالية، ولو تطلّب ذلك وقتًا طويلاً وزمانًا بعيدًا.

ومن أساليبه الخبيثة أنه يأتي ويُظهِرُ النُصحَ للإنسان، فالشيطان يدعو المرءَ إلى المعصية، يزعم أنه ينصح له، ويريد له الخير، وقد أقسم لأبينا آدم أنه ناصِحٌ له، كما أخبر تعالى: (وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ) [الأعراف: 21].

وفي هذا الباب أن نذكر قصة طريفة وقعت في بني إسرائيل، وذكرها وهب بن مُنبِّه أحد التابعين، وذلك على سبيل الاعتبار والحذر من أساليب الشيطان في إضلاله للإنسان:

إن عابدًا كان في بني إسرائيل، وكان من أعبد أهل زمانه، وكان في زمانه ثلاثةُ إخوة لهم أخت، وكانت بِكْرًا ليس لهم أخت غيرها، فخرج البعث في غزوة من الغزوات على ثلاثتهم، فلم يدروا عند من يُخَلّفون أختهم، فأجمع رأيهم على أن يُخَلّفوها ويتركوها أمانة عند هذا العابد من بني إسرائيل، وكان ثقة في أنفسهم، فأتوه وسألوه أن يُخَلّفوها عنده غاية رجوعهم من الغزو، فأبى ذلك عليهم، وتعوّذ بالله منهم ومن أختهم، فلم يزالوا به حتى أطاعهم، فقال: أنزلوها في بيت تحت صَوْمعتي، بعيدًا عني، فأنزلوها في ذلك البيت، ثم انطلقوا وتركوها، فمكثت في جوار ذلك العابد زمانًا ينزل إليها بالطعام من صومعته فيضعه عند باب الصومعة، ثم يغلق بابه ويصعد إلى الصومعة، ثم يأمرها فتخرج من بيتها، فتأخذ ما وضع لها من الطعام، فبعد زمان ومدة تلطّف له الشيطان، فلم يزل يرغّبه في الخير، ويعظّم عليه خروج الجارية من بيتها نهارًا، ويخوّفه أن يتعرّض لها أحد أو يؤذيها عند خروجها، فقال له: فلو مشيت بطعامها حتى تضعه على باب بيتها لكان أعظم أجرًا وأسلم لها من الخروج، فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها ووضعه على باب بيتها، فلبث على هذه الحالة زمانًا، ثم جاءه إبليس فرغّبه في الأجر وحضّه عليه، وقال له: لو تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك، فلم يزل به حتى فعل ذلك، فلبث على ذلك زمانًا، ثم جاءه إبليس فرغّبه في الأجر وحضّه عليه، فقال: لو كنت تكلّمها وتحدّثها فتأنس بحديثك، فهي مسكينة وحيدة، وقد استوحشت وحشة شديدة، فلم يزل به حتى حدّثها زمانًا، ثم أتاه إبليس فقال: لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدّثها وتقعد هي على باب بيتها وتحدّثك لكان آنس لها، فلبث زمانًا على ذلك، ثم جاءه إبليس فقال: لو دخلت وحدّثتها بداخل البيت لكان أسلم لكما والسترة لها أفضل، فلم يزل به حتى دخل البيت فجعل يحدّثها ويأكلان الطعام معًا، فلم يزل إبليس يزيّنها له ويحسّنها في عينيه حتى لمسها ووقع بعد ذلك ما لا يحمد عُقْباه، فحملت الجارية منه، ووضعت له غلامًا، فجاءه إبليس بعد ذلك فقال له: أرأيت إن جاء إخوة الجارية وقد ولدت منك كيف تصنع؟! لا آمن عليك أن تفتضح أو يفضحوك، فقال له إبليس: الحل هو أن تعمد إلى ابنها فتقتله وتدفنه، فإنها ستكتم ذلك عليك مخافة إخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها، ففعل العابد ذلك، ثم بعد ذلك جاءه إبليس فقال له: أتظن أن الجارية ستكتم إخوتها ما صنعت بها أو أنها ستصبر على أنك قتلت ابنها؟! فالحل الوحيد لك هو أن تقتلها وتدفنها مع ابنها، فلم يزل به حتى قتلها وألقاها في الحفرة مع ابنها، وأطبق عليهما صخرة عظيمة.

وبعد فترة أقبل إخوتها من الغزو، فجاؤوا وسألوه عن أختهم، فعزّاهم في أختهم، وأخبرهم أنها ماتت بعد مرض شديد، وترحّم عليها وبكى عليها، وقال: كانت خير امرأة، وهذا قبرها، فانظروا إليه. فأتى إخوتها القبر، فبكوا أختهم، وترحموا عليها، فأقاموا على قبرها أيامًا، ثم انصرفوا إلى أهاليهم، فلما جَنّ عليهم الليل وأخذوا مضاجعهم جاءهم الشيطان في النوم على صورة رجل مسافر، فسألهم عن أختهم فأخبروه بقول العابد، فأكذبهم الشيطان، وأخبرهم أن العابد لم يصدقهم في أمر أختهم، وأنه قد أَحْبَلَ أختكم وولدت له غلامًا فقتلهما معًا خوفًا منكم، وألقاهما في حفرة خلف باب البيت، فاستيقظ الإخوة الثلاث على منام واحد متواطئ، فتعجّبوا من ذلك، فقال كبيرهم: هذا حلم ليس بشيء، فقال أصغرهم: والله لا أمضي حتى آتي إلى ذلك المكان فأنظر فيه، فانطلقوا جميعًا حتى أتوا البيت الذي كانت فيه أختهم، فبحثوا الموضع كما وصف لهم في المنام، فوجدوا أختهم وابنها مقتولين في الحفرة. فأمسكوا بالعابد وسألوه، فصدق قول إبليس فيما صنع بهما، فقدّموه ليُصلَب، فلما أوثقوه على خشبة أتاه الشيطان فقال له: لقد علمت أني أنا صاحبك الذي فتنتك بالمرأة حتى أَحْبَلتها وقتلتها وابنها، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك وصوّرك خلّصتك مما أنت فيه من محنة، فكفر العابد، فلما كفر بالله تعالى، خلّى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه وقتلوه ومات على الكفر.

فهذه القصة -عباد الله- ذكرها ابن الجوزي في كتابه تلبيس إبليس، وهي قصة يرويها المفسرون عند قوله تعالى: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) [الحشر: 16].

فهكذا الشيطان -عباد الله- فمن أساليبه أنه يتدرّج خطوة بعد خطوة، لا يكَلّ ولا يَمَلّ، ولقد رأينا من القصة السابقة مثالاً وعبرة في ذلك، فالشيطان إذا أراد من مسلم ترك الصلاة لا يأتيه ويوسوس له ويقول له: اتركها مباشرة، وإنما يسلك معه أسلوب التدرج خطوة بخطوة، يأمره بتأخيرها عن وقتها، ما زال الوقت، فيلهيه وينسيه، ثم ينشغل بأمور أخرى، فيصبح يتهاون فيها، ثم تتراكم عليه الصلوات ولم يصلها، ويأتي الليل فيحاول الإتيان بها وهو عاجز عنها، فتصبح صلاته غرامة بليل كما يسميها بعض الناس، وهكذا فبعد أيام أو أشهر يملّ الإنسان ويضعف، ويترك الصلاة وهكذا.

ومن أساليبه كذلك تزيين الباطل، وهذا هو السبيل الذي كان الشيطان ولا يزال يسلكه لإضلال العباد، فهو يُظهِر الباطلَ في سورة الحق، ويُظهِر الحقَّ في صورة الباطل، ولا يزال بالإنسان حتى يُحسّن له الحرام، ويزيّن له فعله، قال تعالى: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ) [الحجر:39، 40]، وقال الله تعالى: (وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَـانُ مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ) [النمل: 24].

الشيطان -عباد الله- يزيّن الحرامَ، ويزيّن المعاصي، أعطاه الله القدرة على تزيين المعصية، إنه زيّن لقوم نوح وعاد وثمود وقوم إبراهيم وأصحاب مَدْين وقريش الشرك والكفر وعبادة الأصنام، وزيّن لهم المعاصي، إنه زيّن لقوم لوط الفاحشة، وزيّن للقرون الخالية المتمرّدة أنواع الذنوب والمعاصي، قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النحل:63].

ومن أساليبه كذلك لإضلال الإنسان الوعد والتمنية، فالشيطان يعد الناس بالمواعيد الكاذبة، ويُعلّقهم بالأماني المعسولة، تشجيعًا لهم ليوقعهم في المعاصي والضلال، فالشيطان مثلاً يعد المُقامِر والمُرابِي والسارق وآخذ الرشوة بالربح السريع والكثير، ويعد الظالم بالعزّة والنصر، قال تعالى: (يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا) [النساء: 12

واعلم اخى انه برغم ما لهذا العدو اللدود من المكائد الخطيرة والأساليب الكثيرة لإضلال الإنسان إلا أن كيدَه ضعيف، فقد شهد بذلك ربّ العالمين، فقال -جلّ وعلا-: (فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا) [النساء:76]، فكيد الشيطان ضعيف لمن آمن بالله وأطاعه، واتبع صراطه المستقيم، ولازم التوبة والاستغفار بعد كل زلّة وخطيئة، ففي الحديث الصحيح من رواية أحمد والحاكم: "إن الشيطان قال: وعزّتك وجلالك، لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الرب -جلّ جلاله-: وعزّتي وجلالي، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني"، وقال تعالى: (إِنَّ الذِينَ اتقوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) [الأعراف: 201].

وقد أرشدنا الله إلى ما يعصمنا من مكائد الشيطان ووساوسه، ومن أهم ذلك توحيد الله والتوكّل عليه والانقطاع إليه وإخلاص كل العبادات له، قال تعالى: (إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَلَى رَبّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [النحل:99]، قال سبحانه مخاطبًا هذا المخلوق الشرّير: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَـانٌِ إلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) [الحجر:42]، وقال تعالى عن إبليس الرجيم: (قال فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ) [ص:82، 83]، وعباد الله المخلصين هم الذين أخلصوا دينهم وعبادتهم لله وحده لا شريك الله.

ومما يحصنك من مكائد الشيطان: التعوّذ بالله من شرّه: (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَاِن نَزْغٌ فَاْستَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ) [فصلت:36].

ومما يُدفَع به كيدُ الشيطان ووساوسه تلاوة القرآن وسماعه، فالقرآن له خاصّية في طرده، وكلّما أكثر العبد من التلاوة حصّن نفسه من الشيطان الرجيم، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من قرأ آية الكرسي كل ليلة لم يزل عليه من الله حافظ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح"، وقال: "من قرأهما -أي: خواتم سورة البقرة- في ليلة كَفَتَاه"، وفي رواية: "لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام". ومن ذلكم قراءة سورة البقرة في المنزل، فإنها تطرد عدو الله، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "لكل شيء سَنَام، وإن سَنَام القرآن سورة البقرة، وإن الشيطان يفرّ من البيت الذي يُسمَع فيه سورة البقرة"، فحصِّن بيتك بتلاوة سورة البقرة، فذاك خير لك.

ومما يَدفع كيدَ الشيطان مداومة ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتكبير والتهليل والاستغفار والدعاء، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا قال المؤمن: لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، مائة مرة في أول يومه، كان ذلك حِرْزًا له من الشيطان في يومه، وكانت كعتق عشر رِقاب، وكُتِب الله له مائة حسنة".

ومما يدفع شرّ الشيطان قراءة آية الكرسي و(قُلْ هُوَ اللَهُ أَحَدٌ) والمعوذتين دُبرَ كل صلاة، و"إذا دخل المسلم المسجد فقال: بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله، أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، قال الشيطان: حُفِظ مني سائر اليوم".

أعلم اخى أنه ومما يدفع مكائدَ عدوّ الله عنك في طعامك وشرابك ذكرك لربك -جلّ وعلا- عند دخول المنزل وعند الأكل والشرب، فيروي جابر بن عبد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند عشائه قال الشيطان لجنده: لا مبيت لكم الليلة ولا عشاء، فإن لم يذكر الله عند دخوله قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإن لم يذكر الله عند عشائه قال: أدركتم المبيت والعشاء"، فعدوّ الله لا يبعده عنك إلا ذكرك لربك، فهو الذي يبعده عنك، ويحصّنك من مكائده.

أعلم اخى: إن المؤمن يحصِّن نفسه ويحصِّن بيته وولده من مكائد عدو الله، وإن مما تُحَصَّنُ به البيوت لإبعاد الشياطين هو عدم اتخاذ الصور والتماثيل، فقد أخبرنا الصادق المصدوق أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه تماثيل أو صور، فأبعد -أخي المسلم- عن منزلك هذه الصور والتماثيل التي لا تُسمِن ولا تغني من جوع، وهي ذريعة للشرك، فوجود التماثيل والصور في بيتك يمنع من دخول الملائكة، وإذا لم تدخل الملائكة فمن المؤكّد أن تدخل الشياطين.

وإن مما تُحَصَّنُ به البيوت لإبعاد الشياطين هو عدم اتخاذ الكلاب؛ فإن وجود الكلب في المنزل لغير صيد ولغير حراسة يمنع الملائكة من دخول البيت، فإن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب أو صورة، ووعد جبريلُ النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يأتيه ساعة، فانتظره النبي -صلى الله عليه وسلم- حين حانت تلك الساعة، فلما تأخّر وفي يده عصا ألقاها وقال: "ما يخلف الله ولا رسله وعده"، ثم نظر فإذا جرْو كلب تحت سريره، فقال: "ما هذا يا عائشة؟!"، فقالت: ما علمت دخوله، فأمر به فأُخِرج، فجاء جبريل فقال: "انتظرتك في هذه الساعة، وجلست لك"، قال: "إنا لا ندخل بيتًا فيه كلب، منعني ذلك الكلب الذي في منزلك".

فينبغي على المسلم إذا اتخذ كلبًا أن يتخذه للحراسة وللضرورة، وأن لا يسكنه بيته، يخصّص له مكانًا خارج البيت أو في الحديقة حتى لا يمنع من دخول الملائكة، وقد تساهل الناس في أمر الكلاب في هذا الزمان، حتى أصبحنا نرى تلك الكلاب الصغيرة التي تُتّخذ من طرف النساء للفخر والزينة، وهي من عادات النصارى، وفي الحديث: "من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد نقص من أجره كل يوم قِيراط".

أيها المسلمون: هذه بعض التوجيهات المحمدية والإرشادات النبوية ينبغي على المسلم أن يأخذ بها؛ ليتحرّز بها من الشيطان، فقد أخبرنا -صلى الله عليه وسلم-: "إن المسلم إذا خرج من منزله فقال: بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال له الملك: هُدِيت وكُفِيت، وتنحّى عنه الشيطان وقال: ما لي برجل قد هُدِي وكُفِي ووُقِي"، وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا يأكلنّ أحد منكم بشماله، ولا يشربنّ بها؛ فإن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بها". فهذه نصائح لمخالفة الشيطان في طريقة أكله، وينبغي تربية الأولاد على هذا الأدب في الطعام مخالفة للشيطان.

وكما أرشد -صلى الله عليه وسلم- إلى ذكر الله حتى عندما يقرب الرجل زوجته فقال: "لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنّبني الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتني، فإنه إن يُقَدَّر بينهما ولد لم يضرّه الشيطان أبدًا".

وشرع لنا -صلى الله عليه وسلم- ذكر الله عند إرادة الخلاء، فكان -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل الخلاء قال: "بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخُبُث والخبائث"؛ لأن الحُشُوش مأوى الشياطين، فيستعيذ بالله من شرّها، وإذا خرج كان يقول: "غفرانك".

فيا أخي المسلم: اصحب الذكر في كل أحوالك تسلم من شيطانك.

وفي حديث عند مسلم عن أبي سعيد -رضي الله عنه- مرفوعًا: "إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فِيه؛ فإن الشيطان يدخل".

والشيطان قد يعترض للإنسان في المنام فيخيفه بالأحلام فيحزن بذلك، فعن قتادة –رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "الرؤيا الصالحة من الله، والحلم من الشيطان، فمن رأى شيئًا يكرهه فلينفث عن شماله ثلاثًا، وليتعوّذ من الشيطان، فإنها لا تضرّه، وإن الشيطان لا يتراءى بي"، وقال -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدّر الله وما شاء فعل. فإن "لو" تفتح عمل الشيطان"، فالمسلم دائمًا يفوّض أمره لله، وإن فاته أمر قال: قدّر الله وما شاء فعل.

فاتقوا الله -عباد الله-، واستعيذوا بالله من الشيطان، ومن هَمْزه ونَفْثه ونَفْخه، (إِنَّ الذِينَ اَّتقوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) [الأعراف:201].