دراسة تطبيقية على أشهر القواعد الفقهية وما تفرع عنها.
إعداد: بوودن دحمان حديفة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه وبعد:
لا يخفى على أحد أنه من الصعب الإحاطة بجزئيات فن واحد من فنون العلم فضلاً عن جميع العلوم. ولذلك عمد العلماء إلى استقراء الأصول الكلية الجامعة وتدوينها. تيسيراً للعلم واختصاراً للجهد والوقت. وتعد القواعد الفقهية من أعظم العلوم الشرعية فائدة، يقول الإمام القرافي في فروقه: "ومن ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات"- الفروق: 1/3- فإذا عرف طالب العلم قاعدة واحدة مثل قاعدة "لا واجب مع العجز" فسيعرف ما ينطبق تحتها من الأمثلة أو ما يسميه علماء القواعد الفقهية بالفروع. وبالإضافة إلى توفير القواعد للجهد والوقت، فإن من فوائدها أيضا: الانتقال إلى منهج الاجتهاد؛ ذلك أن الاجتهاد هو إعمالٌ منظمٌ وممنهجٌ لجملةِ قواعد. فالقواعد هي أهم أدوات الاجتهاد على الإطلاق، فمن ملك زمامها ملك ناصية الاجتهاد وعمق التفكير ودقة النظر، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في المجموع -19/203-: "لا بد أن يكون مع الإنسان أصول كلية ترد إليها الجزئيات ليتكلم بعلم وعدل" فما المقصود بالقواعد الفقهية؟ وما هي أشهر القواعد الفقهية وأبرز تطبيقاتها؟
تطلق القاعدة في اللغة على الأصل والأساس الذي يبنى عليه غيره، ومنها قواعد البناء كما في قوله تعالى: "وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ"- البقرة:127-. أما تعريف القاعدة اصطلاحا فقد عرّفها ابن السّبكي في الأشباه والنظائر-1/16- بقوله: "الأمر الكلي الذي ينطبق على جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منه"
أما فقه في اللغة فهو كما قال ابن منظور في لسان العرب- 13/ 522-: "الفقه: العلم بالشيء والفهم له. وغلب على علم الدين؛ لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم كله". وفي الاصطلاح هو: "العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسبة بأدلتها التفصيلية". أي هو علم الحلال والحرام وما بين ذلك من مراتب الأحكام.
وعليه فالقاعدة الفقهية كمصطلح مركب هي: "حكم شرعي كلي، يتناول أحكاماً فرعية متنوعة". وتجدر الإشارة هنا إلى أن معظم الكاتبين في القواعد جروا على عدم التفريق في التعريف بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية للتشابه والتداخل القائم بينهما. لكن يمكن القول أن القاعدة الأصولية هي: "أصل شرعي كلي، يستدل به على أحكام فرعية متنوعة". ويمكن أن نستنبط الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأُصوليّة بقولنا: القاعدة الفقهية تقدّم لنا من خلال تطبيقها أحكاماً جزئيّة، بخلاف المسألة الأصولية فإنها تقدم لنا أحكاماً كلية. وبعبارة أُخرى: القاعدة الفقهية يُستفاد منها في مجال التطبيق، بينما المسألة الأصولية يُستفاد منها في مجال الاستنباط.
وتعتبر القاعدة الفقهية دليلا شرعيا خصوصا إذا كانت في أصلها نصا من القرآن الكريم أو من السنة الشريفة. وقد أحصى العلماء الكثير من القواعد من هذا القبيل. فمن أمثلة القواعد المستمدة من القرآن: قاعدة "أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا" –البقرة:275- وهي تعني أن كل بيع فهو حلال وكل ربا فهو حرام. ومن أمثلة القواعد المستمدة من السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" - رواه أحمد وابن ماجة - يعني لا يجوز أن توقع الضرر ابتداء ولا أن تقابل الضرر الواقع عليك بالإضرار بالناس. كما يمكن أن تكون القواعد دليلا شرعيا إذا كانت مستخلصة بطريق الاستقراء المفيد للقطع أو الظن الغالب. ويراد بالاستقراء: أن يدرس الذهن عدّةَ جزئيات فيستنبط منها حكمًا عامًّا، وهو الغالب في أصل نشوء القواعد.
والقواعد الفقهية كثيرة جدا تصل إلى المئات، وقد اشتمل كتاب المبسوط للإمام السرخسي على ما يقارب ألف قاعدة. وقد أرجع بعض العلماء هذه القواعد جميعا إلى خمس قواعد تسمى بالقواعد الكلية الكبرى، وإليها يرجع كل الفقه، وقد حكى بعض العلماء الإجماع على الاتفاق عليها. وهذه القواعد هي: الأمور بمقاصدها. اليقين لا يزول بالشك. العادة محكمة. المشقة تجلب التيسير. لا ضرر ولا ضرار. وقد تفرع عن هده القواعد الكلية الكثير من القواعد، وفي ما يلي ذكر لأشهرها مع إيراد التطبيقات الواقعة في مصنفات أهل العلم غير أنني لم أراعي الترتيب في ذلك:
1. الأمور بمقاصدها: لو اشترى سلعة وقال: خذ هذا السيف أمانة عندك حتى أحضر الثمن، فالسيف له حكم الرهن، ولا يكون أمانة، لأن الأمانة يحق استرجاعها وقتما يشاء، وليس الرهن كذلك.
2. الأصل براءة الذمة: من ادعى أن له على شخص مال أو أي التزام فلا يقبل قوله إلا بدليل، لأن الأصل في نفس الإنسان حرمة القتل، والأصل في ماله حرمة الأخذ.
3. النية في اليمين تخصص اللفظ العام: لو حلف وقال: والله لا أكلم أحداً، ونوى زيداً قصر اليمين عليه، فلا يحنث إلا بتكليم زيد لا بتكليم غيره.
4. الأصل في الأشياء الإباحة: لو دخل برجه حمام وشك هل هو مباح أو مملوك لغيره؟ فهو أولى به وله التصرف فيه؛ لأن الأصل الإباحة.
5. من أصول المالكية مراعاة الخلاف: النكاح المختلف في فساده بين المذاهب يثبت به الميراث، ويُحتاج في فسخه إلى طلاق، مراعاة للخلاف الموجود.
6. الأصل إضافة الحادث إلى أقرب أوقاته: من رأى في ثوبه منياً ولم يذكر احتلاماً لزمه الغسل وتجب عليه إعادة كل صلاة صلاها من آخر نومه نامها فيه.
7. القديم يترك على قدمه: لو كان لرجل نهر يجري في أرض غيره لسقي أراضيه، فأراد صاحب الأرض أن لا يجري النهر في أرضه فليس له ذلك.
8. الأصل بقاء ما كان على ما كان: من أكل آخر الليل وشك في طلوع الفجر صح صومه؛ لأن الأصل بقاء الليل. وإذا شك هل بلغ أو لم يبلغ؟ فالأصل أنه لم يبلغ حتى يدل الدليل بخروج المني.
9. إذا تعذر الأصل يصار إلى البدل: كفارة القتل، واليمين، والجماع في الصوم، لا يجوز الانتقال عنها إلى البديل إذا كان يرجو القدرة عليه، بل يصبر حتى يجد الرقبة، لأن الكفارة على التراخي.
10. الأصل والبدل لا يجتمعان: المسح على الخف بدل عن غسل القدم، فلا يجمع المتوضئ بينهما. والصوم في كفارة اليمين بدل عن الإطعام، فلا يجمع صاحب الكفارة بينهما.
11. الأصل في الأمور العارضة العدم: لو اشترى فرساً، ثم ادعى أن فيه عيباً قديماً، وأنكر البائع، ولا بينة لأحدهما، فالقول قول البائع مع يمينه لأنه مدعى عليه، ولأن السلامة الأصل فيها الوجود.
12. يُغتفر تبعا ما لا يُغتفر قصدًا: من حلف لا يشتري صوفاً فاشترى شاة على ظهرها صوف، لم يحنث لأن الصوف دخل في البيع تبعاً للشاة لا قصداً فاغتفر فيه.
13. يثبت تبعا ما لا يثبت استقلالا: يجوز بيع الحمل تبعا لأمه ولا يجوز بيعه منفردا. الوقف على نفسه لا يصح ولو وقف على الفقراء ثم صار منهم استحق في الأصح تبعا.
14. التابع لا يتقدم على المتبوع: لا يصح تقدم المأموم على إمامه في الموقف ولا في تكبيرة الإحرام والسلام ولا في سائر الأفعال، فالتابع تابع.
15. التابع لا يفرد بالحكم ما لم يصر مقصودا: لا يجوز بيع الجنين في بطن أمه منفرداً ولا هبته. والدود المتولد في الطعام يجوز أكله معه تبعا لا منفردا في الأصح.
16. ينزّل المجهول منزلة المعدوم: لو أن امرأة فقدت زوجها فلم تدر أين هو فإنها تنتظر أربع سنين، ثم تعتد أربعة أشهر، ثم تحل لغيره ويصبح زوجها في حكم الميت.
17. يغتفر في البقاء ما لا يغتفر في الابتداء: لو اعترفت المرأة بالعدة، فإنها تمنع عن التزوج. أما لو تزوجت ثم ادعت العدة فلا يلتفت إليها، ويكون القول قول الزوج.
18. البينة على المدعي واليمين على من أنكر: لو ادعت امرأة على رجل نكاحها وأنكر فإنه يحلف بالله ما هي زوجة له، وإن كانت زوجه له فهي طالق بائن.
19. الحدود تسقط بالشبهات: لا قطع بسرقة مال أبيه أو ابنه وسيده، لشبهة استحقاق النفقة. وكذلك يسقط حد القذف لو كان بالكناية.
20. الثابت بالبرهان كالثابت بالعيان: فمن شُهِد عليه بسرقة مال غيره وثبت ذلك بالبينة العادلة وقضى به عليه، فلا يقبل إنكاره بعد ذلك الثبوت.
21. البينة حجة متعدية، والإقرار حجة قاصرة: من أقر بدين مشترك عليه وعلى غيره فإن إقراره هذا ينفذ في حق نفسه فقط ولا يتعداه إلى شريكه ما لم يصدقه أو تقوم البينة.
22. الإقرار سيد الأدلة: إذا جئت وقلت لشخص: أنا أقر بأن لفلان هذا عندي ألف دينار، فلا نحتاج أن نقول: ما هو الدليل على أن عليه ألف دينار؟
23. الإثبات مقدم على النفي: إذا شهد أربعة بالزنا على امرأة، وشهد النِّساء بأنها لا تزال بكراً، فتقدم شهادة المثبتين للزنا، لأن المثبت عنده زيادة علم.
24. اليقين لا يزول بالشك: من شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً؟ أتى برابعة؛ يبني على الأقل لأنه هو المتيقن، إلا إدا كان به وسواس قهري فإنه يبني على الكمال.
25. لا عبرة بالظن الْبَيِّنِ خطؤُه: لو ظن دخول الوقت فصلى ثم تبين أنه صلى قبل الوقت، أو صلى بثياب ثم تبين نجاستها، فلا اعتداد بظنه لأنه ظن تبين خطؤه.
26. ينزَّل غالب الظن منزلة اليقين: أي نقبل الظاهر كالعمل بشهادة الشهود في القضاء. ويجوز العمل بغلبة الظن في معرفة جهة القبلة وفي إزالة النجاسة غير المرئية.
27. العادة مُحَكَّمَةٌ: نفقة الزوجة على زوجها يكون بالقدر المتعارف المعتاد بين أمثالها من الناس وبحسب حالهما غنى وفقراً. فالتعيين بالعرف كالتعيين بالنص.
28. المُطلق يجري على إِطلاقه: لو أوصى شخص إلى شخص وأعطاه مالا لشراء سيارة نوعها كذا ولم يحدد له لونها، فله أن يشتري من أي لون.
29. المطلق يتقيد بدلالة العرف: من قال لآخر اشتر لي دابة، والمتعارف عندهم أن لفظ الدابة يطلق على الحمار مثلاً فليس له أن يشتري فرساً بحجة أنه من الدواب ذوات الأربع.
30. المطلق يتقيد بدلالة الحَال: لو وكل طالب علم شرعي آخر بشراء بعض الكتب، فاشترى له كتباً في الهندسة، فلا يلزمه ما اشتراه، لأن حالته تنبئ أن مراده كتب العلم الشرعي.
31. الحقيقة تترك بدلالة العادة: إذا حلف أن لا يأكل من هذا الدقيق، يحنث لو أكله بعد أن صار خبزاً، ولا يحنث له استفه، لأن أكل الدقيق دون خبز مهجور عرفاً.
32. الممتنع عادة كالممتنع حقيقة: لو ادعى معروف الفقر أموالاً عظيمة على آخر أنه اقترضها منه، لا تسمع هذه الدعوى لأنها كالممتنع حقيقة الذي يستحيل وقوعه.
33. ما حرم أخذه حرُم إعطاؤه: كالربا والرشوة وأجرة النائحة، وأجرة الزامر أي المطرب... فكل ذلك لا يجوز أخذه كما لا يجوز إعطاءه.
34. الجواز الشرعي ينافي الضمان: من حفر في ملكه، حفرة فوقع بها إنسان أو حيوان، فالحافر هنا غير ضامن؛ لأنه غير متعد، بخلاف لو حفر في الطريق مثلا.
35. الخراج بالضمان: لو اشترى سيارة فاستعملها مدة ثم عثر على عيب دلسه البائع له أن يردها ويأخذ جميع الثمن، ولا يرد ثمن استعمالها؛ لأنها كانت في ضمانه فلو هلك هلك من ماله.
36. المتسبب لا يضمن إلا بالتعمد: لو حفر حفرة في أرض ليس له الحق الحفر فيها، ثم تدهور في تلك الحفرة حيوان فهلك، فعليه الضمان لتعديه وتعمده.
37. إذا اجتمع المباشر والمتسبب يضاف الحكم إلى المباشر: لو دل سارقا على مال إنسان فسرقه، فلا ضمان على الدال بل على السارق لأنه المباشر.
38. ما يضمن بالعمد يضمن بالخطأ: من كان يتدرب على الرمي بالرصاص فأصاب حيوان غيره فقتله، فإنه يضمنه. لكن يرتفع الإثم عنه بخلاف لو كان متعمدا.
39. جناية العجماء جُبار: لو اغتالت هرة إنسان طائرا لغيره فلا ضمان على صاحبها. ولكن لو أتلفت العجماء شيئا بنفسها وكان صاحبها يراها فلم يمنعها ضمن.
40. يعمل بالقرعة عند تساوي الحقوق: لو أراد السفر وعنده زوجات فإنه يقرع بينهن فيخرج بمن خرجت قرعتها تطييبا لقلوبهن ودفعا لتهمة الميل عن نفسه.
41. من استعجل الشيء قبل أوانه عوقب بحرمانه: إذا قتل الوارث مورثة الذي يرث منه عمداً مستعجلاً الإرث، فإنه يحرم من الميراث.
42. العبرة في العقود بالمعاني: فالبيع بالمعاطاة بدون لفظ جائز وكذلك إجراء العقد باللغة الأجنبية يجوز وحتى بالكتابة، فالفعل ينوب عن القول مع القرينة.
43. إِذا اجْتمع الحقان قدم العبد: لو بلغ ماله النصاب وعليه دين يطالب به، لا تجب عليه الزكاة، فحقوق العباد مبنية على المشاححة وحقوق الله على المسامحة.
44. المسلمون عند شروطهم: لو أنه اشترى حطبا من بائع واشترط نقله وإنزاله وترتيبه في البيت فهذه الثلاثة شروط كلها تجوز ويجب على البائع الوفاء بها.
45. ما ثبت بالشرع مقدم على ما ثبت بالشرط: لو اشترطت السفر لوحدها إذا سافرت، فهنا يلغو الشرط ويصح العقد، لأن استمتاع الرجل بالمرأة من مقاصد النكاح وهو ثابت شرعاً.
46. المعروف عند التجار كالمشروط بينهم: من اشترى سيارة دخل فيها عُدّتها وعجلها الاحتياطي بدون ذكر في العقد للعرف المتداول والعادة الجارية، إلا إذا نص على خلافه.
47. كل قرض جرّ نفعا فهو ربا: لو أقرضه شيئا واشترط عليه أن يردّ له أحسن منه فهو ربا لوجود العلة وهي الفضل بلا مقابل، ولكن لو لم يشترط ورد بالزيادة فليس ربا.
48. ما حرم لذاته حرم ثمنه: الخمر حرام لذاتها، فيحرم بيعها وثمنها. الخنزير يحرم لذاته، فيحرم بيعه وثمنه. الأصنام تحرم لذاتها، فيحرم بيعها وأكل ثمنها.
49. يقدم عند التزاحم خير الخيرين: إذا تقدم لإمارة الحرب رجلان، أحدهما أعظم أمانة، والآخر أعظم قوة، يقدم الرجل القوي وإن كان فيه فجور لأنه الأنفع.
50. دلالة الحال تغني عن السؤال: ينعقد النكاح بغير لفظ التزويج؛ لأن دلالات الأحوال في النكاح معروفة من اجتماع الناس لذلك، والتحدث بما اجتمعوا له.
51. لا ضرر ولا ضرار: لو انتهت مدة إجارة الأرض الزراعية قبل أن يستحصد الزرع، تبقى في يد المستأجر بأجر المثل حتى يستحصد؛ منعاً لضرر المستأجر بقلع الزرع قبل أوانه.
52. الضرر لا يزال بمثله: لا يجوز لمن أكره على قتل غيره أن يقتله إذا كان المراد قتله مسلماً بغير وجه حق، لأن هذه إزالة ضرر بمثله، بخلاف أكل ماله.
53. الدفع أقوى من الرفع: اختلاف الدين المانع من النكاح يدفعه ابتداء، ولا يرفعه في الأثناء، بل يوقف على انقضاء العدة. والفسق يمنع انعقاد الإمامة ابتداء، ولو عرض في الأثناء، لم ينعزل.
54. تدفع أعلى المفسدتين بارتكاب أخفهما: لو أن مضطرا عنده بقرة ميتة وحمار ميت فإنه يقدم مأكولة اللحم لأن أصلها طاهر وطرأت عليه النجاسة، أما الحمار فإن أصله نجس.
55. الضرورات تبيح المحظورات: يجوز أكل الميتة للمضطر بقدر دفع الهلاك عند المجاعة، كما يجوز التلفظ بكلمة الكفر عند الإكراه.
56. الضرورة تقدر بقدْرها: يجوز كشف العورة من أجل تلقي العلاج ولكن بالقدر المطلوب، وعند الاضطرار يأكل من الميتة بقدر دفع الهلاك عن نفسه، فإذا زال المانع عاد الممنوع.
57. الاضطرار لا يبطل حق الغير: لو اضطر لأكل طعام غيره، فبعد زوال الاضطرار عليه قيمة ما أكل إن كان قيمياً، ومثله إن كان مثلياً.
58. يتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام: يجوز الحجر على العائن والمفتي الماجن حرصاً على دين الناس وسلامتهم. وكذلك يجوز التسعير على الباعة حفاظا على مصلحة العامة.
59. الحاجة تنزل منزلة الضرورة: الإجارة والسلم يجوز على خلاف القياس، لأن الإجارة والسلم بيع عدوم وبيع المعدوم باطل، ولكنه جوِّز لحاجة الناس ورفع المشقة عنهم.
60. المشقة تجلب التيسير: يجوز الطلاق عند لما في إبقاء الزوجية مع التنافر من المشقة على الزوجين والأولاد. ومن لم يستطع الصلاة قائما صلى قاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب.
61. الميسور لا يسقط بالمعسور: لو عجز عن الركوع والسجود دون القيام، لزمه القيام بلا خلاف؛ والعريان يصلي قاعدا فإن وجد شيئا يستر به نفسه لزمه بلا خلاف.
62. درء المفاسد أولى من جلب المصالح: ليس للإنسان أن يفتح نافدة تشرف على مقر نساء جاره، ويحرم الخروج على ولاة الأمر بالسيف، لأن ما يحصل بذلك من فتن أعظم.
63. تصرف الإمام على الرعية مَنُوط بالمصلحة: إذا قسَّم الزكاة عَلَى الأصناف يُحَرَّمُ عليه التفضيل مع تساوي الحاجات. وإذا عزل عامله بسبب جاز وبغير سبب لا يجوز.
64. ما لا يمكن التحرز منه يكون عفوا: ومنه صحة الصلاة بيسير النجاسة التي يعسر التحرز منها. وصحة الصوم مع ابتلاع بقايا الماء في الفم عند المضمضة.
65. الرخص لا تناط بالمعاصي: الرخص المختصة بالسفر، كالقصر، والجمع، والفطر، والمسح ثلاثا... لا تباح في سفر المعصية كالسفر للتجارة في الخمر.
66. ما كان منهيا عنه لسد ذريعة يباح للمصلحة الراجحة: يحرم النظر إلى الأجنبية لما يفضي إليه ذلك من الفساد، لكن يباح نظر الخاطب ليكون أحرى لاستمرار العشرة بينهما.
67. كل حيلة تضمنت إسقاط حق فهي محرمة: من سافر في الصيف ليتأخر عنه الصوم إلى الشتاء، لم يحصل له غرضه، بل يجب عليه الصوم في هذا السفر.
68. لا عبرة بالدلالة مقابل الصريح: لو تصدِّق على إنسان فسكت المتصدَّق عليه يثبت له الملك ولا حاجة إلى قوله: قبلتُ، لكن لو صرح بالرد والرفض لا يملك؛ لأن الصريح أقوى من الدلالة.
69. لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة: كإقرار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم للصحابة على العزل فلو كان حراما ما سكت عنه وبين لهم أنه حرام.
70. لازم المذهب ليس بمذهب: لو قال إنسان: الله في كل مكان! فإن لازم ذلك أنه لا ينزهه عن مكان طيب أو خبيث، وهذا كفر، ولكن لا يحكم عليه بالكفر ما لم يبين له ذلك ويلتزمه.
71. إذا تعذرت الحقيقة يصار إلى المجاز: لو حلف ليأكلن من هذه الشجرة، فإن حقيقة الأكل منها هو أكل خشبها وهذا متعسر، فيكون قرينة على إرادة المجاز وهو الأكل من ثمرها، فينصرف إليه.
72. الأصل في الكلام حقيقة ولا يصار إلى المجاز إلا بدليل: إذا قلت مثلا رأيت أسدا فالأصل أنك رأيت أسدا حقيقيا، ولكن إذا قال الإنسان رأيت أسدا يخطب فالمراد به المجاز.
73. التأسيس أولى من التأكيد: من قال لزوجته: أنت طالق طالق طالق، طلقت ثلاثا. فإن قال: أردت به التأكيد، صدق ديانة لا قضاء، لأن القاضي مأمور بإتباع الظاهر.
74. لا ينسب للسَّاكت قول: إذا سكتت الثيب عند الاستئذان في النكاح لم يقم سكوتها مقام الإذن قطعاً، فالواجب عليها أن تظهر موافقتها.
75. السكوت في معرض الحاجة بيان: لو حلفت البكر أن لا تتزوج فزوجها أبوها فسكتت حنثت. القراءة على الشيخ وهو ساكت ينزل منزلة نطقه في الأصح.
76. إعمال الكلام أولى من إهماله: من حلف لا يأكل من هذه النخلة شيئاً، ثم أكل من ثمرها أو جُمارها أو طلعها حنث، لأن النخلة لا يتأتى أكل عينها فحمل على ما يتولد منها.
77. إذا تعذر إعمال الكلام يهمل: كمن ادعى على إنسان أنه قطع يده فإذا هي غير مقطوعة. ففي هذا الحال يعتبر الكلام لغواً غير مفيد وغير ملزم.
78. الكتاب كالخطاب: لو كتب رجل إلى آخر: بعتك داري الكائنة في دمشق وذكر أوصافها والمبلغ الذي سيبيعها به، فكتب إليه الآخر: اشتريت منك، انعقد البيع.
79. الوصف من الحاضر لغو: إذا قال: بعتك هذا الفرس الأبيض، وأشار إليه، وكان أسود، صح البيع إذا قبل المشتري، وألغي الوصف. بخلاف الوصف من الغائب فهو معتبر.
80. النكرة في سياق النفي والشرط تعم: فإذا قلت: ما جاءني أحد حصل العموم. وإذا قلت: من يأتيني بأسير فله دينار فإنها تعم كل أسير.
81. لا حجة مع الاحتمال الناشئ عن دليل: لو أقر أحد في مرض موته لأحد ورثته بدين لا يصح ما لم يصدقه باقي الورثة. لاحتمال كون المريض قصد بهذا الإقرار حرمان سائر الورثة.
82. الخروج من الخلاف مستحب: كاستحباب الذلك في الطهارة، واستيعاب الرأس بالمسح في الوضوء، والترتيب في قضاء الصلوات، خروجا من خلاف من أوجب الجميع.
83. لا مساغ للاجتهاد في مورد النص: فلو قضى حاكم بعدم صحة رجعة الزوجة الرجعية بدون رضاها، لا ينفذ ذلك القضاء لأنه مخالف لنص صريح وهو قوله تعالى: وبعولتُهُنَّ أحق بردِّهِنَّ.
84. الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد: لو صلى أربع ركعات إلى أربع جهات لتغير اجتهاده في تحري القبلة صحت صلاته ولا قضاء عليه ولا إعادة.
85. المفضول قد يصبح فاضلا لمصلحة راجحة: صلاة النافلة في المنزل أفضل، ولكن قد يعرض للإنسان إن أجل صلاة النافلة إلى البيت شغل أو تثاقل، فالصلاة في حقه في المسجد أفضل.
86. الإيثار في الْقُرْبِ مكروه: لو دخل الوقت ومعه ماء يتوضأ به فوهبه لغيره يتوضأ به لم يجز له الإيثار لأن الغرض بالعبادات إجلال الإله وتعظيمه.
87. الإسلام يجب ما قبله: لا يجب على الكافر إذا أسلم قضاء الصلاة والصوم والزكاة وتسقط عنه الحدود. ولو أسلم في نهار رمضان لا يلزمه إمساك بقية النهار ولا قضاء ذلك اليوم في الأصح.
88. الولاية الخاصة أقوى من الولاية العامة: لو أمر الأب ابنته بأمر وأمرها الحاكم بعكس الأمر في نفس الوقت، فإنها تطيع أبيها لأن ولايته أقوى من ولاية الحاكم.
89. مراعاة المقاصد مقدمة على رعاية الوسائل: إذا خشي المصلي خروج الوقت فيما لو طلب الماء فإنه يتيمم مراعاة للمقاصد وهي الصلاة، ويترك الوضوء لأنه وسيلة عند مالك.
90. إذَا تعارض المانع والمقتضي قدم المانع: الهجرة على المرأة من بلاد الكفار واجبة وإن كان سفرها وحدها دون محرم صارت الهجرة حراماً.
91. حكم الحاكم يرفع الخلاف: لو رجل مات عن ابنين فادعى رجل عليه دينا فأقر به أحدهما وأنكره الآخر، فقضى القاضي على المقر بكل الدين نفذ.
92. الحريم له حكم ما هو حريم له: حريم المسجد – الفناء- حكمه حكم المسجد فلا يجوز الجلوس فيه للبيع ولا للجنب، ويجوز الاقتداء فيه بمن في المسجد والاعتكاف فيه.
93. ما لم يتم الواجب إلا به فهو واجب: لو اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار، فإنه يغسل الجميع ويكفنون ويصلى عليهم جميعاً، ينوي بالصلاة المسلم.
94. الواجب لا يترك إلا لواجب: قطع اليد في السرقة؛ فإنه لو لم يجب لكان حراما، كقطع الأصبع، فإن قطعها إذا كانت سليمة لا يجوز إلا إذا وجب القصاص.
95. السكران من محرم كالصاحي: فيما فيه حقوق العباد عقوبة له، فلو طلق وهو سكران وقع، أما لو أقر على نفسه بالزنا والشرب والسرقة لا يحد إلا أنه يضمن المسروق.
96. المأمور به أعظم من المنهي عنه: لو تكلم في الصلاة ناسيا وهو من المنهيات لا تبطل صلاته، أما لو ترك مأموراً به، كالركوع ناسياً أو مخطئاً، بطلت.
97. كل نجس هو محرم الأكل ولا عكس: مثل البول نجس لا يجوز أكله، والتراب محرم الأكل لكنه طاهر، والطعام المسروق أيضا.
98. العبادة التي تفوت مقدمة على العبادة التي لا تفوت: إذا سمع المسلم المؤذن يؤذن وهو يقرأ القرآن فالأفضل هو الترديد مع المؤذن لأن عبادة ترديد الأذان تفوت بمجرد سكوت المؤذن.
99. إذا اجتمع الحلال والحرام غَلَبَ الحرام: لو اشترك في الذبح مسلم وجوسي لم يحل أكله. ويحرم الثوب المنسوج من حرير وغيره يحل إن كان الحرير أكثر وزناً.
100. إذا اجتمعت عبادتان من جنس واحد دخلت إحداهما في الأخرى: غسل الجنابة والجمعة
يكفي لهما غسل واحد. ومن نوى الحج والعمرة، كفاه لهما طواف وسعي واحد على الصحيح.
ختاما: يجب التذكير بأن لكل قاعدة استثناء، ولكن ذلك الاستثناء لا يخرم كيان القاعدة، لأن العبرة بالغالب لا بالنادر. وعليه: فالتعبير الوارد في تعريف القاعدة بأنها أمر كلي صحيح ولا حاجة لاستبداله بـأغلبي. وهذا الأمر يشمل قواعد الفقه والنحو والأصول وسائر القواعد الاستقرائية. لأن الاستقراء لا يعطي حكمًا كليًّا قطعيًّا، بل يعطينا حكمًا إجماليًّا أغلبيًّا. ونحن نسلم أن قواعد الفقه لها استثناءات أكثر من غيرها، لكن هذا لا يعني أن غيرها ليس فيه مستثنيات. وفي هذا الصدد يقول الكَفَوِيّ في الكليات- ص:122-: "وتخلف الأصل في موضع أو موضعين لا ينافي أصالته" وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.