مشكلة الشر (منقول)
ديسمبر 23, 2020
مشكلة الشر

مشكلة الشر هي - بحسب موسوعة ستانفورد للفلسفة- معضلة وجود الشر والمعاناة في العالم مع فكرة وجود إله عليم، قدير، رحيم. اهـ .

وهي حجة ترمي إلى إظهار أن وجود الشر مع مثل هذا الإله أمر غير محتمل أو مستحيل.

وإشكالية الشر هي أقوى حجج الملحدين التي يستعملونها للتشكيك في وجود الله، وهي ملمح دائم في أدبياتهم.



إلا أن هذه الحجة تنطوي على مغالطة منطقية. فلو افترضنا جدلا أنه لا يمكن التوفيق بين وجود الشر مع صفات العلم و القدرة و الرحمة الكلية، فلا ينفي هذا وجود الإله، لكن غاية ذلك أنه ليس كلي العلم، كما يذهب إلى ذلك القدرية أو القائلين بالبداء، أو أنه يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات، أو ليس كلي القدرة على سبيل المثال.

إلا أنه في واقع الأمر، فوجود الشر لا يستلزم شيئا من ذلك. وفيما يلي من نقاط بيان ذلك.





أولا: الحسن و القبح ليس صفة ذاتية في الأفعال.



هناك من يذهب إلى أن للأفعال حسن وقبح ذاتيين بصرف النظر عن المآلات والعواقب أو ما يعرف "بالأخلاق الواجبة". وهذا المذهب هو مذهب طوائف من المسلمين كالمعتزلة و الشيعة الإمامية فضلا عن بعض الفلاسفة من غير المسلمين كإيمانويل كانط.

وهناك من يحكم بقبح الفعل وحسنه بناءا على مآلاته أو عواقبه، أو ما يعرف بالعواقبية. و هذا فيما يغلب على ظني مذهب عامة الفقهاء ممن يقولون بالتحسين و التقبيح العقليين، وبه يقول ابن تيمية ويقول به أيضا بعض الفلاسفة من غير المسلمين مثل جون ديوي وجون ستيورات مل. فالأفعال ليس لها قبح أو حسن ذاتي بمنأى عن العاقبة و السياق فما هو حسن في سياق ما قد لا يكون كذلك في سياق آخر وماهو قبيح في سياق قد لا يكون كذلك في سياق آخر.





ثانيا: خلق الشر يختلف عن ارتكابه.



الله يخلق الشر في محل خارج عن ذاته، ولذلك فالشر هو صفة لذلك المحل وليس لله. وفي الحديث: أعوذُ بكَ مِن شَرِّ كُلِّ شيءٍ أنتَ آخِذٌ بناصيَتِه (رواه مسلم)، وأيضا: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ في يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ ليسَ إلَيْكَ (رواه مسلم).

فالله يخلق الطاعة و المعصية في العبد وليس معنى ذلك أن الله هو فاعل الطاعة أو المعصية بل العبد هو الذي يعصي و يطيع. وكذلك العبد إذا تكلم بكلام فالله هو من خلق فيه فعل الكلام لكن نفس الكلام هو كلام العبد وليس كلام الله، وكذلك إن أكل و شرب ونام فالعبد هو الذي أكل وشرب ونام، وهلم جرا.



ثالثا: الله لا يخلق شرا محضا.



فعندما يخلق شرا في محل فهو يقترن بخير أعظم، فعلى سبيل المثال الأمراض و الآفات و الكوارث الطبيعية فهي وإن كانت من آثار العوامل الموجودة في الطبيعة فلهذه العوامل منافع ترجح على أضرارها. وهي وإن كانت سببا في إيذاء البعض إلا أنها ذات نفع أعظم للكل. فالرياح مثلا لها دور جوهري في المنظومة البيئية و المناخية لكنها قد تتحول إلى قوى تخريبية كالأعصاير التي تتسبب في معاناة البعض وفي الحديث : كانَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ إذا رأَى الرِّيحَ قالَ اللَّهُمَّ إنِّي أسألُكَ مِن خَيرِها وخَيرِ ما فيها وخَيرِ ما أُرْسِلَت بِهِ وأعوذُ بِكَ مِن شرِّها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُرْسِلَت بِهِ. والآفات التي تصيب الإنسان هي بفعل عوامل طبيعية كالميكروبات والفيروسات ونحو ذلك إلا أن هذه العوامل لها أيضا منافعها التي ترجح على أضرارها حتى وإن لم نعلم على وجه التفصيل كيفية ذلك، لأنها تشكل جزءا لا يتجزأ من التوازن البيئي، لكن العلم التجريبي كشف عن كثير من منافعها ما ينفي نفيا باتا أنها شر محض.





رابعا: بالنظر إلى أولا وثالثا فخلق الله للشر لا يعني أنه يتصف به، وخلق الشر كفعل للخالق لا يتصف بالقبح، بل بالنظر إلى السياق و المآل، فلأن خلق الشر يقترن به منفعة أعظم، فالفعل في ذاته حسن وليس بقبيح. ولذلك فأفعال الله كلها حسنة بما فيها خلق الشر لأنه لا يخلق شرا محضا. وهذا هو أيضا مفهوم الرحمة في حقه. فخلق الشر لا يتنافى مع الرحمة لأنه يقترن به منفعة أعظم. فالنار أيضا على سبيل المثال من خصائصها الإحراق و قد تتسبب في آثار كارثية إلا أن منفعتها تربو على مفسدتها. فالذي يتنافى مع الرحمة هو خلق شر محض لا يقترن به مصلحة راجحة أو بلا حكمة في الجملة لمجرد إيقاع الأذى.









خامسا: لا وجود للكليات المجردة في الخارج عن الأذهان والخلق لا أول له وخلق المعصية في المخلوق نتيجة ضرورية لصفات الله.



الكليات المجردة وتسمى أيضا في اصطلاح الفلاسفة والمتكلمين العرب "المطلق بشرط الإطلاق" - لا وجود لها إلا في الذهن. و في الخارج عن الأذهان لا يوجد إلا أشياء جزئية معينة يجرد منها الذهن مفاهيم كلية كمفهوم الحيوان على سبيل المثال. فلا يوجد في الخارج عن الأذهان كلية مجردة تسمى الحيوان، بل لا وجود في الخارج إلا لحيوان بعينه. وقياسا على ذلك فلا وجود في الخارج عن الأذهان إلا لمخلوق معين أما جنس المخلوقات ككلية مجردة لا وجود له إلا في الأذهان.







ولذلك فالقول بأن جنس المخلوقات لا أول له لا يلزم منه وجود مخلوق بعينه أزلي في الخارج عن الأذهان. ولذلك عندما نقول أن الله لم يزل خالقا لا يعني القول بقدم العالم لأنه لا يوجد شيء بعينه من المخلوقات قديم لكن جنس المخلوقات لا أول له. فوجود خلق لا أول له هو نتيجة ضرورية لكون الله لم يزل خالقا فعالا. فلا يقدر زمن في الماضي إلا ولله فيه خلق وأفعال تقتضيها صفاته. فالذي بذاته قديم وغير مسبوق بغيره هو الله دون ما سواه، و لذلك ورد في الحديث: اللَّهُمَّ أَنْتَ الأوَّلُ فليسَ قَبْلَكَ شيءٌ (رواه مسلم). فهذا معناه أن كل ما سواه مسبوق بغيره.



وكما أن الله لم يزل خالقا ووجود خلق لا أول له ضرورة من ضرورات كونه خالق فكذلك خلق المعصية ضرورة من كونه يتصف بالمغفرة والعفو. وقد روى الإمام مسلم من طريق أبي أيوب الأنصاري و أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لو لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ، وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ، فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لهمْ.







وهذا الحديث نافع جدا في معالجة إشكالية الشر. فمن لوازم الاستغفار هو ارتكاب الذنب ولذا فمن ضرورات كونه غفار للذنوب أن يخلق المعصية في خلقه. ولذلك فارتكاب المعاصي الذي هو أصل الشرور هو ضرورة لتتحقق صفة العفو و المغفرة.



وقياسا عليه فالآلام والمعاناة هي ضرورة لتحقق صفة مجيب المضطر و كاشف السوء. كما في قوله تعالى: أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ. وكذلك من لوازم كونه الشافي ابتلاء الخلق بالأمراض والآفات. وفي الحديث: أَذْهِبِ الْبَاسَ رَبَّ النَّاسِ وَاشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إِلَّا شِفَاؤُكَ شِفَاءٌ لَا يُغَادِرُ سَقَمًا. (رواه مسلم). وكذلك من لوازم كونه شديد العقاب كما في غير موضع من القرآن كما في قوله: غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. أن يعذب بعض عباده ومن هذا القبيل قوله تعالى: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ.



سادسا: الظلم هو وضع الشىء في غير موضعه.

قال ابن منظور في لسان العرب: وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ فِي الشَّبه: مَنْ أَشْبَهَ أَباه فَمَا ظَلَم؛ قَالَ الأَصمعي: مَا ظَلَم أَيْ مَا وَضَعَ الشَّبَه فِي غَيْرِ مَوْضعه وَفِي الْمَثَلِ: مَنِ اسْترْعَى الذِّئْبَ فَقَدْ ظلمَ. ذلك لأن وضع الذئب كراعي للغنم هو وضع للشيء في غير موضعه. ووفق هذا التعريف فتعذيب بعض العباد على معاصيهم وإن كان الله هو من خلق فيهم المعصية ليس وضعا للشىء فيه غير موضعه وبالتالي لا يندرج تحت التعريف الصحيح للظلم. فالله عندما يخلق عصاة ويعذبهم ويخلق طائعين وينعمهم فهذا لا ينافي العدل في شيء لأنه وضع للشىء في موضعه.



سابعا: الشر ضرورة من ضرورات الامتحان والامتحان بذاته ليس شرا.

وقد أشار القرآن لذلك بقوله: كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ. وبقوله: أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ. فمن ضرورات الامتحان أن يبتلى المرء في نفسه وأهله وماله. وكذلك من ضروراته أنه يخلق التمرد و العصيان في إبليس وقبيله ويجعلهم فتنة لآدم وذريته، بل من ضروراته أن يخلق التمرد والعصيان في بني آدم ليجعل بعضهم فتنة لبعض. قال تعالى: وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً. كما فتن بني إسرائيل بالسامري الذي صنع لهم العجل. فالله لا يحرض الناس على عصيانه أو ارتكاب الشرور لكن يخلق فعل التحريض في محل فيكون الفعل هو فعل للمحل وليس له.



ثامنا: من أسباب إشكال وجود الشر على الناس قياس الخالق على المخلوق.



وأشهر من وقع في فخ قياس الخالق على المخلوق هو إبليس. فقال إبليس لما طرد من الجنة لأجل عصيان الأمر بالسجود: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. فظن إبليس أنه يحق له أن يسعى في ضلال الخلق لمجرد أن الله فتنه وخلق فيه المعصية و التمرد. فهناك فرق بين خلق المعصية في إبليس وبين تحريض آدم و ذريته على المعصية. فالله لم يحرض آدم ولا إبليس على ارتكاب المعاصي بل أمرهما بالطاعة وحذرهما من العصيان. وكون من لوازم صفة العفو و المغفرة أن يخلق في آدم المعصية كي يتوب و يستغفر فلا يعني هذا أنه يحق لأبليس أن يحرضه على المعصية بل من لوازم أمر الله له ألا يفعل، لكن إبليس قاس نفسه على الله.