كهنة الإلحاد
١٦ أبريل ٢٠١٨ ·
زعموا أن الله تعالى تكفّل بحفظ القرآن دون السنة، واحتجّوا لذلك بقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}[الحجر :9] وقالوا: لو كانت السنة حجة ووحيا مثل القرآن؛ لتكفّل الله عز وجل بحفظها؛ كما تكفّل بحفظ القرآن الكريم ??!!
الجواب:
اقتصر فهمهم أن المراد بكلمة {الذكر} هو "القرآن الكريم" فقط، وتناسوا أن ما وعد الله به من حفظ الذكر لا يقتصرعلى القرآن وحده، بل المراد به شرع الله ودينه الذي بعث به رسوله، وهو أعم من أن يكون قرآنا أو سنة، إذا رجعنا إلى الكتب المتخصصة نجدها تعدد معاني الذكر التي وردت في القرآن، فقد وردت كلمة "الذكر" في القرآن اثنين وخمسين مرة، ولها معان كثيرة؛ فهي تأتي بمعنى القرآن، وبمعنى الرسالة والشريعة، وبمعنى الحفظ، وبمعنى السنة، وبمعنى التذكرة، وبمعنى الشرف، وبمعنى العبادة... إلخ" وفي ذلك نقل صاحب كتاب "بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز" عن أحد العلماء قوله: "ذكر الله الذكر في القرآن على عشرين وجها، وفيها الذكر بمعنى رسالة الرسول".
ومما يدل أيضا على أن الله عز وجل قد تكفل بحفظ الشريعة كلها: كتابها وسنتها قوله عز وجل: {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبـى الله إلا أن يتـم نـوره ولـو كـره الكافرون} [التوبة:32]، ونور الله: شرعه ودينه الذي ارتضاه للعباد وكلفهم به وضمنه مصالحهم، والذي أوحاه إلى رسوله من قرآن أو غيره ليهتدوا به إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، إذا فالمعنى المناسب "للذكر" في قوله عز وجل: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}هو رسالة الرسول بصفة عامة بما في ذلك الكتاب والسنة, وذلك أن القرآن والسنة وحي من الله عز وجل، ولم يكن النبي ليقول شيئا من عنده: {إن هو إلا وحي يوحى} [النجم:4]. فلماذا يتكفل الله تعالى بحفظ القرآن، ولا يتكفل بحفظ السنة مع أن كليهما وحي من عنده سبحانه وتعالى؟!
وفي ذلك يقول ابن حزم: "ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله عز وجل فهو ذكر منزل, فالوحي كله محفوظ بحفظ الله عز وجل له بيقين, وكل ما تكفل الله بحفظه؛ فمضمون ألا يضيع منه, وألا يحرف منه شيء أبدا تحريفا لا يأتي البيان ببطلانه... فوجب أن الدين الذي أتانا به محمد محفوظ بتولي الله عز وجل حفظه, مبلغ كما هو إلى كل ما طلبه مما يأتي أبدا إلى انقضاء الدنيا, قال عز وجل: {لأنذركم به ومن بلغ}[الأنعام: 19]، فإذا كان ذلك كذلك فبالضروري ندري أنه لا سبيل ألبتة إلى ضياع شيء قاله رسول الله في الدين ولا سبيل ألبتة إلى أن يختلط بباطل موضوع اختلاطا لا يتميز عند أحد من الناس بيقين؛ إذ لو جاز ذلك لكان الذكر غير محفوظ, ولكان قوله عز وجل: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، كذبا ووعدا مخلفا, وهذا لا يقوله مسلم، ثم يرد على من زعم أن حفظ الذكر مقتصر على القرآن وحده قائلا :
"هذه دعوى كاذبة مجردة من البرهان وتخصيص للذكر بلا دليل... فالذكر اسم واقع على كل ما أنزل الله على نبيه من قرآن أو من سنة وحي يبين بها القرآن, وأيضا فإن الله عز وجل يقول: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} [النحل: 44] فصح أنه مأمور ببيان القرآن للناس, فإذا كان بيانه غير محفوظ ولا مضمون سلامته مما ليس منه, فقد بطل الانتفاع بنص القرآن فبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه, فلم ندر صحيح مراد الله عز وجل منها, وما أخطأ فيه المخطئ أو تعمد فيه الكذب الكاذب, ومعاذ الله من هذا"، وهذه بعض أدلة حفظ رب العزة ما صح من حديث رسوله، من الكتاب الكريم، والسنة النبوية الصحيحة، والعقل، والتاريخ
أولا: أما الدليل من كتاب الله عز وجل على تكفل الله بحفظ السنة كما تكفل بحفظ كتابه الكريم:
1 -قوله تعالى: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}، يقول فضيلة الأستاذ الدكتور محمد السيد ندا في الآية الكريمة إخبار من الله تعالى: بأن السنة مبيّنة للقرآن، وقد تكفل الله بحفظه في قوله تعالى: {نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، فيلزم من هذا أن يكون قد تكفل أيضا بحفظ السنة؛ لأن حفظ المبين يستلزم حفظ البيان للترابط بينهما.
2 -وقال تعالى: {علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرءانه ثم إن علينا بيانه} [القيامة:17-19]، فإنه نص صريح يدل على أن الله قد تكفل بحفظ السنة على وجه الأصالة والاستقلال لا على طريق اللزوم والتتبع؛ لأنه تكفل فيه ببيان القرآن في قوله تعالى: {ثم إن علينا بيانه}، أي بيان القرآن، والبيان كما يكون للنبي يكون لأمته من بعده. وهو يكون للنبي بالإيحاء به إليه ليبلغه للناس، وهو المراد في الآية السابقة: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}، وقوله تعالى: {أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه} [النحل:64]، فالسنة النبوية على هذا منزلة من عند الله عز وجل (بوحى غير متلو) وفى هذا رد على ما زعمه إسماعيل منصور؛ بأن البيان للذكر لم ينزل مع الذكر (القرآن) وإلا لكان النص على نحو: "وأنزلنا إليك الذكر وبيانه". ويكون البيان للأمة من بعده صلى الله عليه وسلم بحفظ السنة التي بلغهم النبي صلى الله عليه وسلم إياها.
ولو شغب مشاغب بأن هذا الخطاب: {علينا بيانه} متوجه إلى الله عز وجل فقط دون الأمة وإلا قال عز وجل: "عليكم بيانه" لما أمكنه هذا الشغب في قوله عز وجل: {علينا جمعه وقرآنه} فمن الذي جمع القرآن الكريم؟! الله عز وجل بذاته المقدسة؟ أم قيض لذلك رجالا من خلقه وعلى رأسهم من أنزل عليه صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام فمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين؟!
فإن أجاب بالأولى، استغنى بجهله هذا عن مناظرته، وإن أجاب الثانية؛ بطل قوله بأن بيان الكتاب متوجه إلى الله عز وجل في كتابه فقط وليس إلى نبيه صلى الله عليه وسلم وإلى الأمة من بعده. وفى ذلك رد على ما زعمه الدكتور إسماعيل منصور بأن حفظ الرجال للسنة يجعلهم يتساوون مع الله عز وجل في القدرة بحفظه كتابه عز وجل، فتستوى بذلك قدرة الله وقدرة المخلوقين .
"فهذان دليلان على أن الله تكفل بحفظ السنة كما تكفل بحفظ القرآن، وتحقيقا لهذا الوعد الكريم من الله عز وجل هيأ الأسباب لحفظها، والذود عن حياضها؛ فأثار في نفوس المسلمين عوامل المحافظة عليها، والدفاع عنها؛ فكانت موضع اهتمامهم ومحل تقديرهم ورعايتهم منذ أن أشرقت شمسها إلى يومنا هذا، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
3 -ويذكر الإمام ابن حزم دليلا ثالثا من كتاب الله على تكفله جل علاه بحفظ السنة في قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا}[لنساء:59]، يقول: "هذه الآية الكريمة جامعة لجميع الشرائع أولها عن آخرها، وذكرت أصولا ثلاثة وهى قوله تعالى: {يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله}، فهذا أصل وهو القرآن، ثم قال تعالى: {وأطيعوا الرسول}، فهذا ثان وهو الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال تعالى: {وأولي الأمر منكم}، فهذا ثالث وهو الإجماع المنقول إلى رسول الله حكمه، وصح لنا بنص القرآن، أن الأخبار هي أحد الأصلين المرجوع إليهما عند التنازع، قال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر}، والبرهان على أن المراد بهذا الرد؛ إنما هو إلى القرآن، والخبر عن رسول الله؛ لأن الأمة مجمعة على أن هذا الخطاب متوجه إلينا، وإلى كل من يخلق ويركب روحه في جسده إلى يوم القيامة من الجنة والناس؛ كتوجهه إلى من كان على عهد رسول الله، وكل من أتى بعده عليه السلام وقبلنا ولا فرق، وقد علمنا علم ضرورة أنه لا سبيل لنا إلى رسول الله وحتى لو شغب مشاغب بأ هذا الخطاب إنما هو متوجه إلى من يمكنه لقاء رسول الله، لما أمكنه هذا الشغب في الله عز وجل، إذ لا سبيل لأحد إلى مكالمته تعالى؛ فبطل هذا الظن، وصح أن المراد بالرد المذكور في الآية التي نصصنا إنما هو إلى كلام الله تعالى، وهو القرآن وإلى كلام نبيه المنقول على مرور الدهر إلينا جيلا بعد جيل، وأيضا فليس في الآية المذكورة ذكر للقاء ولا مشافهة أصلا، ولا دليل عليه، وإنما فيه الأمر بالرد فقط، ومعلوم بالضرورة؛ أن هذا الرد إنما هو تحكيم أوامر الله تعالى وأوامر رسوله دون تكلف تأويل ولا مخالفة ظاهر.
والقرآن والخبر الصحيح بعضٌ من بعض وهما شيء واحد في أنهما من عند الله تعالى، وحكمها حكم واحد في باب وجوب الطاعة لهما للآية المذكورة ولقوله تعالى في الأنفال: {يا أيها الذين ءامنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون (20) ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون}، وكلام النبي صلى الله عليه وسلم كله وحى لقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى}[النجم:3-4]، والوحى ذكر بإجماع الأمة كلها، والذكر محفوظ بالنص قال تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}، فصح أن كلام رسول الله كله في الدين وحى من عند الله عز وجل؛ لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحى نزل من عند الله تعالى فهو ذكر منزل.
عن كتاب ( السنة النبوية وحي، مناقشة لدعاوى أعداء السنة النبوية) ص: 107 وما بعدها وهذا رابط الكتاب: https://www.mediafire.com/.../%D8%A7...D8%B3%D9%91%D9