كتبه الدكتور ابو الفداء ابن مسعود


والله يا أخي الكريم لا أرى أنه من المصلحة أن يوضع مصنف على هذا النحو الذي وصفته في أي علم من العلوم التجريبية (سواء كانت طبيعية أو إنسانية)، فالعلوم التجريبية الإجماع فيها ليس نهائيا وليس حجة في نفسه (معرفيا). فمعلوم عند فلاسفة العلم أن استقراءات التجريبيين ونظرياتهم ناقصة مهما كملت، لذا كان لزاما على التجريبيين أن يتحلوا في جميع قضاياهم النظرية وأسئلتهم البحثية بمنهج "الشك العلمي" الذي يقتضي أن تظل جميع النظريات المشتهرة حاليا بين أصحاب تلك العلوم مفتوحة في ذهن من يعتنقها - دائما وأبدا - للسقوط لصالح نظريات أخرى تكون أكثر "معقولية" في تفسير مجموع المشاهدات والتجارب المتحصلة لدى الباحثين. والقصد أن الباحث المجيد في العلوم الطبيعية أو الإنسانية لا يبحث عن الإجماع على أي دعوى من الدعاوى النظرية في مجال اختصاصه لأنه غير ممكن ولا قيمة له كما تقدم، وإنما يبحث عن الخلاف وعن مستند صاحبه فيه (سواء كان المخالف من المنتمين أكاديميا لذلك التخصص أم من المنتسبين لغيره من التخصصات العلمية والنظرية). ومن أعظم الغلط أن يتعصب الباحث التجريبي لنظرية من النظريات - أيا ما كان موضوعها - يزعم أنها محل إجماع وأن الأمر فيها منته لا رجعة فيه! العلوم التجريبية لا تقوم على أدلة منتهية (قياسا واستقراء) كما هو الشأن في المسائل الشرعية المجمع عليها! يجب أن ندرك أن مصادر التلقي المعرفي (أو بعبارة أخرى: أنواع ودرجات الأدلة) في العلم التجريبي ليس منها شيء قطعي منته على الإطلاق! حتى المشاهدات والتجارب لا تورث دلالة قطعية منتهية كما يتوهم كثير من الناس، لأن نظريات العلوم التجريبية (سواء كانت طبيعية أو إنسانية) قد بلغت قدرا من التعقيد والإجمال المركب Ambiguity في فرضياتها وفي بنائها التنظيري (سواء كان فلسفيا أو رياضيا) ما يجعل الاستدلال بالمشاهدة والتجريب استدلالا ظنيا احتماليا محضا على أحسن أحواله! حتى عمل الباحثين في تحليل أو تفكيك الظاهرة الطبيعية أو الإنسانية محل البحث إلى متغيرات (كما في العلوم الإنسانية) أو عناصر أولية (كما في العلوم الطبيعية) يدخله هذا الإجمال ويرد عليه المراجعة، كما رأينا مرارا في تاريخ العلوم الطبيعية، إذ لا تجد نيوتن - على سبيل المثال - يحلل المكونات الأساسية للظواهر الطبيعية إلى نفس الوحدات الأولية التي استعملها أينشتاين من بعده! بل حتى ما استعمله أينشتاين من منطق كلاسيكي في النمذجة وتفكيك الظواهر الطبيعية يختلف اختلافا جوهريا عن منطق الباحثين في ميكانيكا الكم (القائم على نظرية الاحتمالات)، بما جعل من مشكلة الجمع بين المنهجين التنظيريين في إطار نموذج نظري موحد = مشكلة في غاية الصعوبة والخطورة كما هو معلوم لدى دارسي الفيزياء الحديثة.



ولهذا يجب أن يدرك عامة المسلمين (لا سيما من كان له اشتغال بالعلوم التجريبية) أن دعوى الإجماع إن أطلقها أحدهم على نظرية ما أو على دعوى معرفية معينة أو على نموذج نظري معين في أي علم من العلوم التجريبية، يريد بها قطع الطريق على مطلق المخالفة أو الاعتراض، فهو جاهل أو متعصب لا محالة! فالتنظير التجريبي ليس إلا محاولة بشرية لتوصيف وتفسير النظام السببي الحاكم للظواهر الطبيعية والإنسانية. هذه المحاولات البشرية كلما تراكمت طبقاتها بعضها فوق بعض، تعاظمت الإشكالات وتراكمت هي الأخرى بالضرورة، واشتدت صعوبة استخراج محل الخلل في هذه النظرية أو تلك، وازددنا - بالتالي - بعدا عن اكتمال المعرفة في الواقع وليس قربا إليه كما يتوهم كثير من الناس! ولولا أن بعض الناس قد أساء فهم كتاب "توماس كون" "بنية الثورات المعرفية"، وخرجوا منه بنسبية الحقيقة وامتناع الوقوف على معرفة أي حقيقة موضوعية، وغير ذلك من هراء ما بعد الحداثة، لنصحت الباحثين المسلمين بقراءة ذلك الكتاب، لما فيه من تفسير سوسيولوجي وبيان تاريخي محكم لسبب قولنا بأن الإجماع في العلوم التجريبية غير ملزم!
ولا يعترض على هذا الكلام بدعوى حصول الإجماع على ما تشاهده الحواس مشاهدة مباشرة، كالقول بأن الأجسام إن قذفت إلى أعلى فستسقط إلى أسفل لا محالة، وأن الشمس ستطلع غدا من الشرق لا محالة، وأن الإبصار البشري لا يعمل في الظلام، ونحو ذلك من حقائق استقرائية لا يتطرق إليها خلاف العقلاء، لأنها في الحقيقة لا توصف بأنها دعاوى نظرية من الأساس، أي أنها لا تفتقر عند أحد من البشر الأسوياء إلى دليل أو نظر حتى يعرفها! سقوط الأجسام الحرة إلى جهة الأرض ليس دعوى إجماعية طبيعية! أما عندما نقول بأن هذا السقوط يحصل على أثر شيء اسمه "الجاذبية"، يربط بين السرعة والتعجيل والكتلة بالعلاقة الرياضية كذا، فهذه دعوى نظرية متفق على قبولها - حتى الآن - بين الطبيعيين. فإن سميناها إجماعا، لزمنا أن ندرك طبيعة ذلك الإجماع وأنه ليس قطعا نهائيا، وإنما هو اتفاق على قبول نموذج تحليلي ورياضي معين لتصور العلاقة بين مكونات تلك الظاهرة الطبيعية التي سميناها بالجاذبية، فقد نزول عنه غدا لنموذج أفضل منه ولا إشكال.


حتى زعم الطبيعيين اليوم أن الإجماع منتهي على القول بأن الأرض هي التي تدور حول الشمس، يريدون تسفيه من يخالفهم فيما اعتنقوه في هذا الشأن على سبيل الاعتقاد الجازم، هذا زعم فاسد منهجيا ولا قيمة له، لأن الإجماع في الحقيقة إنما حصل على قبول نموذج رياضي معين في توصيف نظام حركة الأفلاك والأجرام بالنسبة إلى بعضها البعض، يتخذ (بالاختيار الحر Arbitrary choice) الشمس مركزا لتنسيب حركات الأجرام الأخرى، بخلاف النموذج السابق عليه الذي كان يتخذ الأرض مركزا للقياس والتنسيب! أما الزعم بأن الإجماع قد حصل - بسبب ذلك التحول من نموذج رياضي ما إلى نموذج آخر أسهل منه في الحساب والقياس - على أن الأرض ليست ثابتة في مركز الكون أو أن الشمس هي الثاتبة والأرض هي التي تدور حولها، فهذا كلام من لا يدري عن أي شيء يتكلم!


والملاحدة المعاصرون على وجه الخصوص يحلو لهم التعلق بهذا التلبيس والدندة حول تلك المسألة في كل مناسبة لأنها أصل ثورتهم الكوبرنيقية التي أطاحت بسلطان الكنسية على قضايا البحث الأكاديمي في بلاد الغرب قبل بضعة قرون خلت! هم أصحاب مطمع فلسفي ديني في الإطاحة بمركزية الأرض جملة واحدة، وهي قضية لا علاقة لها بمحل الإجماع أو النزاع الفعلي في علم الفلك!

نعم نحن نقبل النموذج الرياضي المتمركز حول الشمس Heliocentric ولا إشكال على الإطلاق (وإن كان من حق النابغين منا أن يفترضوا نموذجا أفضل منه إن استطاعوا، دون أن يعترض عليهم بدعوى الإجماع)، فهو النموذج الأسهل والأوفق - حاليا - لجهود الفلكيين في نمذجة وتوصيف الظواهر الكونية، ولكننا لا نقبل استغفال العامة والجهلاء وإيهامهم بأن الاتفاق أو الإجماع على قبول هذا النموذج الرياضي يساوي الإجماع على سقوط دعوى مركزية الأرض وثباتها بالنسبة إلى حدود الكون!
ونظير ذلك زعم الدراونة بأن "الارتقاء" Evolution (هكذا) حقيقة قطعية إجماعية منتهية، فنعم نحن نسلم بأن ثمة تحولات وتكيفات جينية تجري على بعض الكائنات الحية تحت ظروف معينة (بما يظهر بجلاء في الميكروبات ونحوها من الكائنات الميكروسكوبية)، هذه حقائق شاهدناها عيانا! ولكن لا تلازم بين التسليم بها، والتسليم بعقيدة الدراونة في تفسيرها (وهو ما يسمونه بالارتقاء)!

فعلى الباحث المسلم أن يكون حذرا للغاية عند تناول دعوى الطبيعيين حصول الإجماع على هذه الدعوى التجريبية أو تلك، وأن يدرك أن هذه الإجماعات كلها لا تعدو أن تكون اتفاقا صناعيا على قبول أحسن ما بين أيدينا حاليا من صور التنظير التجريبي، وإلا فلا قطعية ولا حجية للإجماع نفسه في تلك العلوم، وإنما يؤخذ من القول به: توصيف للوضع السائد أكاديميا في هذا الزمان فيما يتعلق بالنماذج النظرية والرياضية المعتمدة عند أصحاب هذا التخصص أو ذاك.


ولا شك أن التعليم الأكاديمي في أي تخصص من التخصصات يرسخ تلك النظريات والنماذج المعتمدة حاليا - لا محالة - في ذهن الباحث المتخصص، فلعله يمكنك أن تعتبر أن الكتب الجامعية والأكاديمية التقديمية لأي تخصص من التخصصات، التي يدرسها الطلبة الجامعيون كل منهم في تخصصه، تقوم بهذا المقام الذي أشرت أنت إليه، ولكن دون أن يكون في طيات الكلام ما يوحي بانغلاق الباب أمام البحث والتحري والمراجعة ومخالفة تلك الإجماعات بدليل أو بحث جديد، والله أعلم