سورة الكوثر
قال تعالى : إنا أعطيناك الكوثر ( ١ ) فصل لربك وانحر ( ٢ ) إن شانئك هو الأبتر ( ٣ )
الكوثر لغة مشتق من الكثرة من الفعل "كَثُرَ " على وزن "فَوْعَل" مثل نَوْفَل من الفعل نَفَل بمعنى أعطى هبة أو غنيمة. والمقصود لغة من الكوثر هو الشيء البالغ في الكثرة حد الإفراط، والعرب تسمي كل شيء كثير في العدد، أو كثير القدر:كوثرا. وهو اسم يطلق على نهر في الجنة كما في الحديث في صحيح البخاري وفيه: لما عُرِجَ بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم إلى السَّماء قال: أتيت على نهرٍ حافَّتاهُ قبابُ اللؤلؤ المجوَّف فقلتُ ما هذا يا جبريلُ؟ قال: هذا الكوثر. وفي رواية: قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربُّكَ. الحديث
ونظير ذلك لفظ "الفرات". فإن الفرات لغة هو العذب ويقال فرت الماء أي اشتدت عذوبته. وهو أيضا علم على النهر المعروف الذي يجري بتركيا وسوريا والعراق والذي يسمى بنهر الفرات. و كذلك نهر "سَيْحَان" - بمحافظة أضنة التركية- من ساح الماء أي جرى.
وقد ذهب المفسرون أيضا إلى أن المقصود من الكوثر هو معناه اللغوي وليس فقط المعنى الاصطلاحي أي الخير الكثير فيندرج تحت ذلك النهر وغيره من وجوه الخير التي امتن بها المولى عز وجل على نبيه، وتفسيره في الحديث بالنهر إنما هو من باب التمثيل.
ولا صحة لما زعمه المدعو لوكنسبرج دجلا وجهلا من أن الكوثر من الفعل السرياني ܟܬܪ ktr بمعنى ثابر وأن الكوثر قراءة خاطئة في زعمه لكلمة مشتقة من هذا الفعل بمعنى المثابرة وكأنه يقول إنا أعطيناك المثابرة! أو كما أضاف هو من كيسه لفظة "فضيلة" المثابرة. ثم إن السريانية لا تعرف فيها الكلمات بالألف واللام والكلمة المشتقة التي ذكرها تبدأ بحرف الكاف. Kutar/kutara/kuttara لا بالألف واللام مثل الكوثر في قوله: إنا أعطيناك الكوثر.
فلا يخفى على عاقل ما في تلك المزاعم من هذيان وهذر. والمثير للعجب أن يزعم بعض المحسوبين على البحث الأكاديمي أن تلك القراءة العربية السريانية الهجينة للنص تعطي معنى أوضح للنص!
ومن الواضح أنه يستغل التشابه بين بعض الكلمات العربية والسريانية لأن اللغتين منحدرتان من أصل واحد – وهذه الكلمات تسمى في علم اللسانيات cognates أي ذات أصل مشترك - في الزعم أن الكلمات القرآنية آرامية سريانية وأخطأ فقهاء اللغة العرب عندما فسروها وفق المفاهيم العربية!
ويتضح ذلك أيضا في زعمه بخصوص كلمة "وانحر" فالفعل هنا في صيغة الأمر على وزن افعل فزعم أن الحاء هي تصحيف للجيم وأنها في الأصل "وانجر" بمعنى ثابر ودم في السريانية من الفعل ܢܓܪ ngr والذي يعني إلى جانب ثابر أو دم نحت أو عمل كنجار. إلا أنه في العربية فإن الفعل نجر لا يأتي بمعنى دام أو ثابر بل بمعنى نحت أو عمل كنجار فقط ثم إن صيغة الأمر في السرياينة لا تأتي بإضافة ألف على الكلمة كما في العربية . فهو يريد خليطا من وزن عربي للفعل ومعنى سرياني وهذا هو الهذيان بعينه.
وعلى هذا يقاس الأبتر من الفعل بتر ويقابله في زعمه في السريانية فعل ܬܒܪ tbr إلا أن التاء في السريانية تأتي قبل الباء. وهو يأتي بمعنى غلب أو كسر في السريانية. لكن معنى المغلوب في السرياينة لا يأتي على تلك الصورة "أبتر" كما هو وزن الكلمة في العربية. فهذا أيضا خليط من وزن عربي ومعنى سرياني!. فأبتر صفة مشبهة على وزن أفعل ومؤنثه فعلاء مثل أعرج وعرجاء وأحمر و حمراء وكذلك أبتر وبتراء. والصواب أن ܬܒܪ tbr يقابله في العربية "تبر" ويعني في العربية هلك وأهلك ويقال تبَّر العدوَّ :أهلكه ودمَّره. وفي القرآن: وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ ۖ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا.
وكذلك شنأ يقابله في السرياينة ܣܳܢܶܐ sane بنفس معناها في العربية أي كره أو أبغض.
وعلى زعمه الأخرق فالمعنى العام للسورة إنا أعطيناك (فضيلة) المثابرة فصل لربك وثابر أو دم - أي على الصلاة - إن كارهك أو عدوك هو المغلوب أو المكسور. ولا أدري كيف يشكل ذلك معنى أوضح للنص!. لكن واقع الأمر أن هؤلاء حفنة من المنصرين ولا يمتون للبحث الأكاديمي بصلة.
وقوله" فصل لربك وانحر" أي دم على الصلاة لربك وحده دون غيره وقم بذكر اسمه دون غيره على الذبائح ولا تتقرب بذبحها لغيره كما في قوله تعالى: إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ. فقوله أهل به لغير الله من الإهلال وهو رفع الصوت وكان المشركون يرفعون أصواتهم بذكر آلهتهم عند ذبح البُدْن أو الأنعام فاستعمل اللفظ في الدلالة على ذبح البدن. وكذلك قوله تعالى: وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ۗ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَىٰ أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ ۖ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ.
وقوله: إن شانئك هو الأبتر. الشانىء وهو الكاره أو المبغض من الفعل "شنأ" أي أبغض.
و"هو الأبتر" يفهم منها نفي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ونسبته إلى مبغضه. والأبتر من الفعل "بتر" أي قطع وفي الأصل تستعمل في مقطوع الذنب أو الذيل ثم استعملت في من لا عقب له ولا نسل.
والمقصود لا يبقى له ذكر. فإن هذا المذكور قد عاب النبي صلى الله عليه وسلم لما مات ولده بالقول أنه أبتر أي لا عقب له، أي لا يبقى له ولد يحي ذكره. فرد المولى عز وجل بأن هذا الذي عابه وسماه أبترا – هو وأشباهه- هو الأبتر في حقيقة الأمر. فهو الذى يُنسى ويتلاشى ذكره حتى ولو كان له ولد. وهذا بخلاف النبي صلى الله عليه وسلم فيبقى حسن ذكره وآثار فضله إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ومن هذا الباب قوله تعالى: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ. أي: أعلينا قدرك، وجعلنا لك الثناء الحسن العالي، الذي لم يصل إليه أحد من الخلق، فلا يذكر الله إلا ذكر معه رسوله صلى الله عليه وسلم، كما في الدخول في الإسلام، وفي الأذان، والإقامة، والخطب، وغير ذلك من الأمور التي أعلى الله بها ذكر رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وله في قلوب أمته من المحبة والإجلال والتعظيم ما ليس لأحد غيره، بعد الله تعالى. وهذا وجه من وجوه الإعجاز في هذه السورة القصيرة حيث أخبر بأمر من أمور الغيب وهو دوام ذكره وأثره.