النباتية والنباتية الصِرفة، دراسة نقدية في ضوء العلم والشرع.
إعداد: بوودن دحمان حذيفة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه، وبعد:
في كل عام وقبل عيد الأضحى المبارك، يخرج علينا البعض ممن يسمون أنفسهم بالنباتيين ليصفوننا بالوحشية والدموية لأننا نذبح الحيوانات ونأكل من لحومها! معتبرين أن الحيوان كائن يحظى بحقوق الإنسان تماما! وعلى هذا يُطالبون الناس بأن يكونوا نباتيين مثلهم، وربما استدل بعضهم بقوله تعالى: "وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ" – الأنعام:38 – وللأسف، فقد انخدع الكثير من المسلمين بهذا المذهب بسبب طيبتهم الزائدة غير المتزنة. صحيح لا توجد نسبة كبيرة من النباتين في البلدان المسلمة إلا أنهم حاضرون بقوة على الانترنت ومواقع التواصل ونسبتهم في تزايد. وتعتبر ألمانيا اليوم جنة النباتيين، حيث يبلغ عددهم حوالي ثمانية ملايين شخص. بينما تبلغ نسبتهم في الهند ما يقارب نصف سكانها. فإذا كانت النباتية مذهب يقوم على الابتعاد عن أكل اللحوم، فما هي مبرراته؟ وما قيمة تلك المبررات في ميزان العلم؟ وإذا كان النباتي الصِرف يهتم فعلا بالحيوانات، فهل سيبقى على مبادئه التي يصف فيها تناول اللحوم بالأمر الوحشي؟ أم أنه يمارس العنصرية تجاه كائنات أخرى؟ ثم هل تتعارض النباتية مع تعاليم الدين الإسلامي؟
النباتية هي نظام غذائي ذو توجه صحي يعتمد على النباتات ويستثني أكل اللحوم من الهرم الغذائي، بما في ذلك الأسماك، والدجاج، والرخويات وغيرها. ولكنه يسمح بأكل بعض منتجات المملكة الحيوانية كالحليب، اللبن، والزبدة، البيض والعسل. وأول ما ظهرت كلمة النباتية كان في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بواسطة تأسيس المجتمع النباتي البريطاني.
ويوجد قسم آخر من النباتية ذو توجه أخلاقي يسمى "بالنباتية الصرفة" الذي سكه البريطاني دونالد واتسون، وهم لا يرفضون تناول منتجات الحيوانات فقط، بل يرفضونها في كل الأغراض الحياتية الأخرى مثل الأغطية أو الألبسة والصوف...بالإضافة إلى الامتناع من زيارة الأماكن التي تستغل الحيوانات لتسلية البشر، مثل السيرك وحدائق الحيوانات، وذلك تضامنا مع حقوق الحيوانات!.
يقول النباتيون: إن الاستغناء عن اللحوم والمنتجات الحيوانية له فوائد صحية على جسم الإنسان، حيث يقي من الأمراض والنوبات القلبية، لكون الغذاء الحيواني مفخخا بالأمراض والسرطانات. ففي دراسة حديثة نشرتها منظمة الصحة العالمية ربطت بين ازدياد خطر الإصابة بالسرطان وتناول اللحوم الحمراء بكثرة لاسيما المصنعة منها. فما العمل غير أنك تذهب لأحد السوبر ماركت وتشتري أسمن دجاجة مغطاة ببلاستيك أو لحم لا تدري مصدره وأين كان يعيش؟ وبعدها، تطبخها وتأكلها ولا تعلم أنك بأكلك لها تكون قد أكلت الهرمونات التي حُقنت بها تلك الدجاجة المسكينة لتكون كبيرة في عينيك فقط. حتى إن الكثير من الأطفال اليوم مصابون بالسمنة الغير طبيعية وتظهر عليهم علامات البلوغ مبكرا بسبب تسرب تلك الهرمونات الخبيثه في اللحوم لأجسامهم.
وبالرغم من صحة هذا الادعاء نسبيا، إلا أن النباتيين أنفسهم معرضين لمشاكل صحية أكثر. ويمكن أن تأتي المشاكل الصحية في النظام النباتي بسبب عدم معرفة كيفية تعويض المغذيات المفقودة من المنتجات الحيوانية. حيث عزت دراسة لمنظمة الصحة العالمية بأن أعراضا مثل التعب والصداع المتكرر سببها هو نقص الحديد في الجسم. إذ أنه وبالرغم من توفر الحديد في المأكولات النباتية، إلا أن نسبة امتصاص الجسم للحديد يكون أسرع في المأكولات الحيوانية عنه في النباتية. لذلك فالنباتيين لديهم نسبة أكبر بالإصابة فقر الدم بعوز الحديد، مما يؤدي إلى التعب وضيق التنفس.
كما أن النباتيون لديهم خطر تزايد نقص فيتامين ب 12، حيث إن المصادر الرئيسية لهذا الفيتامين هي المنتجات الحيوانية، ويسبب نقصانه الخرف ومشاكل في الذاكرة والمخ. ومن جهة أخرى، يمكن أن يؤدي النظام النباتي إلى ضعف وتقلص في العضلات، حيث تتكون العضلات في الأساس من البروتينات والأحماض الامينية، ومعلوم أن جسم الإنسان يمتص البروتين الحيواني بشكل أسرع وأكثر نجاعة من البروتين النباتي. كما أن اتباع النظام النباتي يجعل طعم الأشياء مختلفاً: حيث يعتبر الزنك أحد أهم العناصر المسؤولة عن حاسة الذوق، ومعلوم أن المصادر الأساسية للزنك هي اللحوم الحمراء والمحار والماكولات البحرية.
أما النباتيون الذين اختاروا هذا المذهب لأسباب أخلاقية بدعوى الدفاع عن حقوق الحيوان! فنقول لهم: إذا كانت الحجة في ترك أكل الحيوان أنه كائن حي يشعر ويحس! فكل الكائنات الحية من ذات الخلية الواحدة: كالبكتريا إلى كائنات قاع المحيط، إلى البر، والصحراء، والهواء، كلها تشعر وتحس وتستجيب لما حولها! وتشمل طبعًا النباتات، فهي أيضًا كائنات حية تشعر، وترصد، وتستجيب للحركة بل وتتألم. حيث أثبت العلم أنّ النباتات تفرز موادًا كيميائية متنوعة فوق الأرض في أجسامها، أو تنثرها في الهواء، عند الافتراس أو قضم الحشرات لها، وهي بذلك تحاول أن تدافع عن نفسها ضد الأكل! بل وعند مرضها تفرز النباتات مادة تشبه "الأسبرين" المسكن للألم مما يساعدها على المقاومة. بل نزيدك من الشعر بيتًا أن هناك نبات يسمى "المستحية" وذلك لردة فعله الاستشعارية بالإغلاق لحماية نفسه عند لمسه. فإذا كان النباتيون فعلًا بهذه الأخلاق التي تجعلهم ينظرون للحيوانات التي نأكلها على أنها ذات شخصيات، فلماذا إذن يمارسون التناقض مرة أخرى، فيستخدمون هذه الحيوانات ومنتجاتها في حياتهم؟! هل سمحت لهم الحيوانات أن يركبوها أو يستخدمونها في الزراعة؟! هل سمحت لهم بالغذاء على ألبانها والاستفادة من جلودها؟ هل سمحت لهم بأخذ هرموناتها في الأدوية؟! ولماذا لا يطالبون بتوقيف تجارب الأدوية على الحيوانات؟ ففي كل عام يموت عشرات الآلاف من حيوانات التجارب في معامل الباحثين والعلماء، بل وحتى طلاب الطب والصيدلة. فمعظم الأدوية اليوم قائمة على موت، ومعاناة هذه الحيوانات دون إذن منها ولا موافقة! بل طريقة موتها أبشع بكثير من ذبحها الذي لا يستغرق ثوانٍ معدودة، فهم يستخدمون الحقن، والحرق، والتجويع..!
فلماذا هذا التناقض والكيل بمكيالين عندما لا نسمع صوت النباتيين لإيقاف هذه التجارب التي تعود بالنفع على ملايين البشر؟! والغريب أن كل الطرق الجديدة التي يتحدث عنها الباحثون للتجارب بعيدًا عن الحيوانات لن تغني عن تجارب الحيوانات أيضًا، حيث أن عددًا كبيرًا من الأدوية يتطلب دراسة تفاعل الجسم كله مع الدواء بما فيه الجهاز المناعي، والعصبي وغيره، وهذا لا يتحقق في مزرعة خلايا محدودة معزولة عن بقية الجسم!
فإذا كان النباتي يلعب على وتر العاطفة بعرض مشاهد الذبح على الناس مع وصفه لها بالوحشية، فلم يجبرك الدين على أن تذبح بنفسك! ويمكننا بالمثل عرض فيلم عن آلام ومعاناة حيوانات التجارب حتى الموت! بل ويمكن لشخص آخر أن ينتج فيديو عن معاناة النباتات وقت التقطيع والأكل! فهل سيتجاوب معها كذلك مثلما يطلب من الناس التجاوب مع فيديوهاته؟
بل قد أثبتت بعض الإحصائيات التي أُجريت في أستراليا على حقول القمح والبقوليات أن عدد الحيوانات المقتولة بسبب الزراعة يزيد عن مثيلتها المذبوحة في المزارع الحيوانية بخمس وعشرون ضعفًا. حيث يضطر الفلاحون من أجل زراعة المحاصيل التي يعتمد عليها النباتيون في نظامهم الغذائي، إلى زيادة نسبة الأسمدة والمبيدات لتكثيف زراعة المحاصيل، مما يقضي على كثير من الفصائل النباتية والحيوانات المختلفة من الحشرات والعناكب والثعابين والسحالي... فمن أجل تجهيزها للزراعة، يُضرم الفلاحون النار في الغابات ويحرقون أعشاش الطيور بقاذفات اللهب، وبعد إعداد الأراضي ينثرون الحبوب السامة لقتل الطيور التي تأتي باحثةً عن الغذاء، ويضعون الأسلاك الشائكة المُكهربة لمنع الحيوانات البرية من دخول الحقول، أو يصطادونها بالبنادق. إذًا فالنظام النباتي ليس خاليًا من الوحشية، ولا يؤدي غرضه الأساسي بحماية الكائنات الحية.
ولمعرفة نسبة البروتين التي تصل إلينا من اللحوم ومقارنتها بالبروتين النباتي، نحتاج إلى إجراء عملية حسابية بسيطة. حيث يبلغ الوزن المتوسط للذبيحة الواحدة قرابة 288 كيلوغرامًا، تصل نسبة اللحم الصافي فيها إلى 68%، وتحتوي كل مئة غرام من اللحم على نحو 23 غرامًا من البروتين، لذا نحصل على 45 كيلوغرامًا من البروتين من كل ذبيحة، أي أننا نحتاج إلى ذبيحتين فقط أو ثلاثة على الأكثر لاستخلاص مئة كيلوغرام من البروتين. في المقابل، يضطر الفلاحون للحصول على نفس كمية البروتين إلى قتل أعدادًا كبيرة من الحيوانات التي تعيش على هذه الأراضي، مثل الثعابين والسحالي والفئران، تمهيدًا لزراعة المحاصيل التي تمد النباتيين بالبروتين، فأي الغذائين أكثر رحمة بالحيوانات؟
وأما النباتيون الذين يرفضون فكرة أكل الحيوانات استنادا إلى معتقدات دينية، كما في الديانة الهندوسية، حيث يعتقد الهندوس بتناسخ الأرواح، أي أن البشر السيئين تنتقل أرواحهم إلى أجساد الحيوانات بعد الموت، فيخشى الواحد فيهم إنْ أكل اللحم أن يكون قد أكل أبوه أو أخوه! فلا شك أن عقيدة التناسخ من العقائد التي يحكم العقل ببطلانها، فلك أن تسأل أي هندوسي: هل يتذكر شيئا عن تلك الحياة التي عاشها من قبل في جسد آخر؟! قد يقال: ليس بالضرورة أن كل هندوسي انتقل من جسد إلى جسد فثمة ولادات جديدة، والجواب: نعم، ولكن هذا الأمر لا يشعر به كل الهندوس بما يعني ضرورة بطلان دعوى التناسخ. ولو سلمنا بالتناسخ، فما هو الأصل في بداية الولادة؟ هل الإنسان أم الحيوان؟ فإذا كان إنسان فما هي الحسنة التي جاء بها في أول الولادة؟ وإذا كان حيوان فما هي السيئة التي ارتكبها؟
ولو نظرنا إلى الموضوع من الناحية الشرعية، فلا خلاف بين الفقهاء في جواز أكل اللحم، وقد قال الله تعالى عندما تحدّث عن موسم الحج في القرآن الكريم: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ" - الحج: 28- وقد ذبحَ النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه عشرات الذبائح في الحج وغيره كما ورد في الأحاديث الصحيحة. فالله تعالى خلق لنا هذه الحيوانات لنأكلها وننتفع بها، هكذا بلا تنطع أو إنسانية زائفة! فشرع لنا أكلها في غذائنا اليومي شرط طهارتها، وشرع لنا الذبح منها كأضاحي في العيد، أو كفِدية عن أخطاء الحج والعمرة.. وشرع لنا ذبحها كهدي إلى بيته المحرم، وشرع لنا ذبحها كعقيقة عن كل مولود، وشرع لنا ذبحها كوليمة عند الزواج والنذور... أما رحمة الإسلام الحقيقية فتظهر في تعاملنا الراقي مع الحيوانات. فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن وضع الحيوان للتصويب عليه، لما يصيبه من الذعر، ونهى عن وسم الحيوان في وجهه. ولما فجعت أنثى طائر صغير بأخذ بيضها الحامل لفراخها منها، أمر النبي بردِّه إليها. وقد حكى لنا النبي صلى الله عليه وسلم عن دخول امرأة النار بسبب هِرّة حبستها، ولم تطعمها حتى ماتت، كما حكى لنا عن رجل آخر دخل الجنة بسبب سقيه لكلب كاد أن يموت من العطش.
وكذلك أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإحسان في ذبح الحيوان، فأرشدنا إلى حد الشفرة جيداً، وعدم ذبح الحيوان أمام أمثاله من الحيوانات حتى لا يفزع، وأن يريحها على جنبها ولا يتجاوز ضربتين عاجلتين في موضع الذبح تُرِحها من طول الألم. فالذبح يتم في ثوان معدودة، وذلك بقطع الحلقوم، وقطع طريق الدم إلى الدماغ، وأما باقي التشنجات التي يمكن أن نراها بعد الذبح فهي استجابات عصبية لا إرادية وليس لها وعي من حيوان مات بالفعل. وهي ظاهرة معروفة يمكن رؤيتها في ساق ضفدع مفصولة عن جسده تمامًا أو في سمكة بلا رأس! فالذبح هو أرحم وسيلة لإماتة الحيوان الذي نحن مضطرون لاستهلاكه، وكون الأمر نسكا يعطيه مهابة ورهبة لا بد من إطالة الوقوف عندها.
إلا أن الامتناع عن أكل اللحوم جائز بشرط عدم اعتقاد تحريمها، لأنّ الله تعالى قال: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" - المائدة:87- كما يشترط في جواز ذلك أيضا عدم الاعتقاد أنّ ترك أكل المنتجات الحيوانية يُثاب عليه الإنسان! أو أنّ الشّخص النّباتي أقرب إلى الله من غيره! فالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أفضل البشر وأقربهم إلى الله أكل اللحم وشرب اللبن والعسل، وليس لأحد أن يدعي أنه أرحم منه. ولمّا أراد بعض أصحابه أن يتعبّد بترك اللحم خطّأه صلى الله عليه وسلم كما في حديث أَنَسٍ رضي الله عنه: "أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَعْضُهُمْ لا أَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لا آكُلُ اللَّحْمَ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لا أَنَامُ عَلَى فِرَاشٍ وَقَالَ بَعْضُهُمْ أَصُومُ فَلا أُفْطِرُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ:"مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُونَ كَذَا وَكَذَا لَكِنِّي أُصَلِّي وَأَنَامُ وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي"- رواه النّسائي والقصّة في الصحيحين-
ولكن قد يقول قائل: أليس أكل اللحم الحلال حلالاً؟ ألا يترتب عن تركه كراهة؟ أولا: لنتفق على أمر مهم من البداية: ما هو الحلال شرعا؟ الحلال هو كل ما أجاز الشرع فعله أو قوله، فلا عقاب في تركه كما أنه لا ثواب في فعله إلا إذا قصد به التقوّي على طاعة الله سبحانه فهو مثاب بهذه النية. وأكل اللحم لا يستوجب بالضرورة مدحا كما لا يستوجب بالضرورة ذماً. وتركه اختياراً لا يترتب عنه أي أثر شرعي لذات الفعل.
وليس كل حلال جيد ومحمود، فمن الحلال ما هو مبغض. فها هو الطلاق حلال ولكنه ليس محمودا بل يبغضه الله، فقد روي في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق" -رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الحاكم ورجح أبو حاتم إرساله- وها هو القصاص حلال ولكن العفو أرقى منه خُلُقاً لمن استطاع ووفق إليه.
فإباحة الشريعة للشيء لا يعني دائما استحسانه من الشارع جل وعلا، فمن المعلوم أن الرق ورد التعامل به في القرآن الكريم في غير ما موضع، ولم يرد النص على تحريمه ولو مرة واحدة، علماً أن الرق لا يتفق وجوهر الدين الذي جاء بالحرية والانعتاق من كل أشكال الذل. ورغم ذلك نجد أنه الرسول صلى الله عليه وسلم قد تعاطى مع الرق وملك اليمين، وكذلك من دونه من الصحابة والتابعين، واستمر عبر الأجيال إلى أن اندثر متأخراً منذ قرن تقريبا. لكن الفهم السليم لتعاطي الشريعة الإسلامية مع الرق لا يستقيم على أنه شرعنة له، وإنما يجب أن يفهم في إطار فقه التدرج والتعامل مع وضع لم يكن ممكنا أبدا تغييره بمجرد حكم شرعي منزل، وإنما بأسلوب إجرائي تدرجي يحفظ المجتمع من صدمة التغيير الفجائي الذي لا يواكبه تغييرٌ في العقلية والسلوك. ولذلك فقد عمل الدين على تجفيف منابع الرق من جهة، وفتح تصريفات له من جهة أخرى. فجعل تحرير الرقبة كفارة من ذنوب عدة، وقربة إلى الله وصدقة محمودة، وعمد إلى تقييد السبي في الحروب، وجعل في امتلاك العبد عبئا في الإحسان إليه وعدم إرهاقه وتحميله ما لا يطيق، تمهيدا لاكتسابه باقي الشروط الإنسانية.
وهكذا، فكون أكل اللحم حلالاً، فليس في الإعراض عنه أي قدح شرعي خاصة إذا كان السبب وجيها، كمن يختار هذا المذهب مثلا لأسباب بيئية، من أجل خفض مستوى انبعاثات الكربون والغازات السامة في الهواء بسبب الصناعة الحيوانية والمشويات التي تساهم في الاحتباس الحراري أكثر من قطاع المواصلات.
وعلى هذا فالنباتي الذي لا يحرم على نفسه وعلى غيره أكل اللحوم ولكن يمتنع بشكل فردي مبني على أسس ومبررات صحية، فهذا لا بأس به. فقد أمرنا الله تعالى بالمحافظة على أبداننا، كما في قوله تعالى: "وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ" - البقرة: 195- لكن يعتبر التوسط في أكل اللحوم سواء في عدد المرات أو في الكمية التي نتناولها هو الأفضل للصحة كما يشير الموقع الالكتروني "أون ميدا" الذي يُعنى بالمواضيع الصحية والطبية، حيث قال الموقع إن الأفضل للصحة بأن يكون الإنسان نباتيا لفترة أسبوع على الأقل كل شهر إن أمكن، وذلك من أجل التخفيف من كميات اللحوم، ومن أجل تعويد الجسم على تناول الأطعمة النباتية المفيدة.
وفي ختام هذا البحث: نورد حادثة تبين توازن خلق الله عز وجل في الحيوانات، فعندما أراد بعض الأمريكان ممارسة هذه الروح الزائفة للإنسانية، فمنعوا الذئاب من التواجد في متنزه "يالستون" الوطني للحيوانات حتى لا تأكل الأيائل، فقد تكاثرت هذه الأيائل لمدة سبعون عامًا بصورة مخيفة حتى صارت ضررًا على التوازن البيئي بالمنطقة، حيث أن النباتات التي يدعو النباتيون للاكتفاء بها تعرضت للاختفاء، مما اضطرهم في النهاية إلى إعادة الذئاب عام 1995م، ليعود بذلك التوازن في المتنزه مرة أخرى. فسبحان الله الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى، وصلى اله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره إلى يوم الدين.