العلم بوجود الله
مايو 23, 2021
العلم بوجود الله


الجميع بما في ذلك من يسمون أنفسهم بالملاحدة يعلمون وجود الله ولكن تساورهم الوساوس. لأن العلم بوجوده حالة سيكولوجية قائمة بالنفس و الجدل حول الأدلة على وجود الله في حقيقة الأمر هو محاولة لتفسير لماذا هذه الحالة قائمة بنفوسنا بمعنى لأي سبب تشكلت هذه الحالة السيكولوجية. ولو افترضنا جدلا أن جميع الأدلة لا تسلم من نقد أو طعن فهذا لا يعني أن النقد أوالطعن معتبر تماما مثل طعن المتشككة على الدليل المستمد من الاستقراء أو الاستدلال الاحتمالي وهو ما يعرف بمشكلة الاستقراء. فالبرغم من هذه الطعون نجد أنفسنا مدفوعين للتصديق بنتائج الاستقراء و الاحتمال الاستدلالي كحالة سيكولوجية قائمة بالنفس وإن كنا لم نفلح في إيجاد حل شافي لمشكلة الاستقراء كمشكلة نظرية أما عمليا فلا تؤخذ هذه المشكلة بعين الاعتبار ولا يلتفت إليها. ولابد أن نفرق هنا بين العلم بوجود الإله و العلم بصحة دين من الأديان.
فلا أحد يشك في وجود الإله بمعنى أن يستوى عنده احتمال وجوده وعدم وجوده بل احتمال وجوده عند الجميع في واقع الأمر راجح رجحانا بيناً على عدم وجوده حتى وإن كان الرجحان يتفاوت من شخص لآخر والفرق بين المؤمن و الكافر هو استبداد الوساس بالكفار و المشركين واطمئنان نفوس المؤمنين.
و المقصود أن البحث عن الأدلة على وجود الإله هي محاولة لتفسير العلم بوجود الإله وليس أن العلم بوجوده معتمد على تلك الأدلة ولذا فقد يكون هناك تفسيرات خاطئة لوجود هذا العلم ووجود التفسيرات الخاطئة لا ينفي العلم نفسه كحالة سيكولوجية قائمة بالنفس. لكن هؤلاء يخلطون بين انكار تفسيرات الظاهرة – بافتراض أن جميعها خاطىء وهو غير صحيح - و انكار الظاهرة نفسها.
الحجة الوجودية مفادها أن العقل يمكنه أن يتصور كائن لا شيء أعظم منه فهذا يلزم منه أن الكائن الذي لا شيء أعظم منه له وجود في الواقع لأن الذي له وجود في الواقع زائد على مجرد وجوده في الذهن أعظم من الذي لا وجود له إلا في الذهن. لكن في تقديري هذا دليل على إمكانية الوجود لا ضرورة الوجود باعتبار أن كل ما يتصوره العقل ممكن ولا سبب لنفي إمكانية وجوده.
أما برهان ابن سينا المعروف ببرهان الصديقين فمفاده أن الأشياء التي يتصورها العقل إما أنها ممكنة الوجود وإما أنها ضرورية واجبة الوجود. فإن كان كل ما يتصوره العقل فقط ممكن فالممكن لابد له من مرجح لوجوده على عدم وجوده وبالنظر إلى "مجموعة كل الممكنات" هل هي ممكنة أم ضرورية؟ إن كانت ممكنة فلابد لها من مرجح ولابد لهذا المرجح ألا يكون ممكنا فلزم أنه ضروري لأنه لو كان ممكنا فهو ضمن "مجموعة كل الممكنات" ولا يصح أن يكون مرجح لنفسه. ولو كانت المجموعة ككل شئ ضروري فهو بحد ذاته اثبات أن الضروري له وجود سواءا قلت أن الضروري هو "مجموعة الممكنات" وفي هذه الحالة الإله أو واجب الوجود ليس بائنا من مجموع الممكنات وهذا هو تصور أصحاب مذهب وحدة الوجود، أو ضروري آخر غير مجموع الممكنات بائن منها وهذا الأخير هو الإله في تصور الأديان الإبراهيمية. لكن اعتبار ذلك دليل على وجود الإله وفق تصور الأديان الابراهيمية يتضمن أن مجموعة الممكنات لها نفس حكم الممكنات كل على حدة بمعنى إن كانت الممكنات كل على حدة لابد لها من مرجح فمجموعة الممكنات لابد لها من مرجح وهو افتراض لا يقبله البعض على الأقل.

العلم بوجود الله يعتمد على أمور من جملتها الاستقراء و قياس التمثيل التي يعتمد عليها العلم التجريبي. لكن لا حل لمشكلة الاستقراء لان المعرفة القائمة على الاستقراء تفترض ان نتائج التجارب السابقة ضامن لنتيجة نفس التجربة مستقبلا في حين أنه لا يوجد شىء في صريح العقل يضمن ذلك إلا ان نسلم بلا دليل ان الطبيعة تتصرف على نحو متجانس في الماضي و الحاضر و المستقبل أي هناك قاعدة او قانون يحكم سلوكها في الماضي و الحاضر و المستقبل وهذا القانون هو نفسه ما نحاول ان نثبت وجوده و استنباطه بالاستقراء !
فصحة الاستناد للاستقراء قائمة على صحة وجود قانون
وصحة وجود القانون تعتمد على صحة الاستناد للاستقراء
فهذا دور او منطق دائري. وهذه مشكلة شهيرة في الفلسفة لا حل شافي لها باعتراف المختصين حتى قال بعضهم وهو دانبار برود ان الاستقراء مجد العلوم و عار الفلسفة.
وبالرغم من ذلك الاستقراء يشكل لدينا معرفة بالأشياء كحالة سيكولوجية قائمة بالنفس. كمعرفتنا ان المعادن تتمدد بالتسخين مثلا أو أن النار تحرق الخشب.
لكن بافتراض ان طعن المتشككة في الاستقراء له وجاهة فهذا لا ينفي علمنا بوجود الله فقط ينفي ان علمنا مبني على الاستقراء او قياس التمثيل. او ان الاستقراء وقياس التمثيل هو التبرير لوجود هذا العلم. لانه قد يكون ذلك العلم هو افكار فطرية مثل قواعد اللغة الكلية التي تحدث عنها ناعوم تشومسكي.
فالفلاسفة انشغلوا بوجود تبرير او قالب فلسفي للعلم التجريبي بمعنى لماذا تتكون لدينا المعرفة كحالة سيكولوجية بناءا على وسائل العلم التجريبي. واختلفوا في ذلك هل هو استقراء induction ام احتمال abduction أو حتى غير ذلك وبصرف النظر هل تبريراتهم صحيحة ام لا فهذا لا ينفي ان وسائل العلم التجريبي تحصل بها المعرفة أو العلم كحالة سيكولوجية.