بسم الله الرحمن الرحيم
يبرز المستشرق الألماني الشهير «تيودور نولدكه» صاحب كتاب «تاريخ القرآن» كواحد ممن قدموا دراسات جديدة حول القرآن الكريم يتناول فيها بعض القضايا التي تخص القرآن ويحاول وضع تحليل جديد لها، والتي كان من ضمنها إثارة شبهة حول قصة «ذي القرنين» التي جاءت على ذكرها «سورة الكهف»، حيث ادعى اقتباس القرآن القصة من رواية أسطورية نسبت للإسكندر المقدوني ودُونت بداخل مخطوطات سُريانية، وفيها نجد قصة بناء السد على يأجوج ومأجوج بنفس طريقة سرد القرآن لها، مع فارق السبق الزمني لهذه القصة عن الرواية القرآنية ووجود تشابه كبير بينهما يصل لحد التطابق.

وأتناول في هذا المقال مناقشة هذه الفرضية التي ما زال البعض يرددها حتى الآن ضمن برامج إثارة الشبهات حول الإسلام والقرآن الموجودة على اليوتيوب، بالإضافة لبعض المقالات التي لم أجد لها ردًا علميًا قويًا يتناولها من جميع زواياها مع القيام بنقضها نقضًا تاريخيًا بالأدلة وإثبات نقاء القصة القرآنية عن الاقتباس من خرافة أو أسطورة.

الإسكندر المقدوني في مخيال العصور الوسطى
تعتبر شخصية «الإسكندر المقدوني» (356 ق.م – 323 ق.م) من أكثر الشخصيات ذائعة الصيت التي تركت أثرًا كبيرًا في تاريخ العصور القديمة والوسطى، وذلك بهزيمته لجيوش إمبراطورية فارس، وامتداد زحفه شرقًا وصولًا إلى الهند وأفغانستان ناقلًا معه آثار الحضارة الإغريقية إلى هذه المناطق الشرقية، وكانت النظرة تجاهه نظرة انبهار لرجل خارق للعادة خاصة في «العصر الهلنستي»، إذ نجد له ذكرًا في قصص العهد القديم وفي بعض قصص الأساطير المسيحية واليهودية، كما امتد ذكره أيضًا إلى التراث الإسلامي عبر ربطه بذي القرنين المذكور في القرآن الكريم.

نجد أن كثيرًا من القصص المنتشر في هذه الأحقاب تصور حياته وغزواته بشكل أسطوري يبعد عن الحقيقة التاريخية التي حدثت ودونها مؤرخو عصره.
ونتيجة لهذه الشهرة التي حازها الرجل نجد أن كثيرًا من القصص المنتشر في هذه الأحقاب تصور حياته وغزواته بشكل أسطوري يبعد عن الحقيقة التاريخية التي حدثت ودونها مؤرخو عصره، حيث برزت مجموعة من القصص التي ضُمنت في كتاب عُرف باسم «قصة الإسكندر» لرجل مجهول الهوية انتحل اسم «كاليسثينيس الأولينثوسي» المؤرخ الذي صحب الإسكندر بصفته مؤرخًا رسميًا لحملاته، فأطلق عليه المؤرخون اسم «كاليسثينيس المزيف» تمييزًا له عن المؤرخ الحقيقي، وقد حولت قصة الإسكندر المزيفة الرجل إلى بطل خارق، ولاقت رواجًا كبيرًا في أواخر العصور القديمة وبدايات العصور الوسطى

تم كتابة النسخة الأصلية من «قصة الإسكندر» باليونانية بمدينة «الإسكندرية» بمصر إلا أن هذا الأصل فُقد ولم يصل إلينا. أما عن تاريخ كتابتها فهو موضوع نقاش بين الباحثين، فهناك إجماع على أنها كُتبت في «مصر الرومانية» في القرن الثالث الميلادي، إلا أن أجزاء منها يجب أن تعود للعصر البطلمي (305 ق.م – 30 ق.م) السابق عليه، ومنذ بداية القصة وهناك تصوير للإسكندر على أنه من نسل وذرية آخر فراعنة مصر الملك «نخت نبو الثاني» لذلك فله الحق هو ومن أتى بعده من البطالمة في حكم مصر، كما هناك شواهد مقنعة تدل على ترجمة أجزاء من القصة من الخط الديموطيقي المصري القديم.

تم إعادة كتابة القصة بأشكال ولغات مختلفة عبر القرون المتتابعة، وصلت لأكثر من 80 نسخة وبترجمة إلى لغات غربية وشرقية وصل عددها إلى 24 لغة [3][4]، رغم أن العمل نفسه من الناحية الأدبية لا يوجد به ما يستحق الإشادة.

كاليسثينيس المزيف والأسطورة السُريانية و يعقوب السروجي
يبدأ الادعاء بأن القرآن قد اقتبس قصة «ذي القرنين» من نص سُرياني عبر الفرضية التي ذكرها المستشرق الألماني «تيودور نولدكه» (1836 – 1930)، وفيها قال بأن القرآن قد اقتبس القصة من قصيدة عرفت باسم «نشانا» [5]، أو اختصارًا بـ «قصيدة عن الملك الورع الإسكندر الأكبر والبوابة التي قام ببنائها ضد يأجوج ومأجوج» وهي تُنسب إلى القديس «يعقوب السروجي» الذي توفى عام 521م وفيها نفس القصة الموجودة عن ذهاب ذي القرنين إلى يأجوج ومأجوج، وبناء سد عليهم كما وجدت في النص القرآني، ولكن بفترة سابقة عن القرآن بقرن من الزمان تقريبًا، كما أن ذا القرنين هنا هو الإسكندر المقدوني.

سورة «الكهف» التي بها قصة ذي القرنين هي سورة «مكية» نزلت جملة واحدة على قلب الرسول وأخَبر بها تقريبًا في العام «الخامس» بعد البعثة؛ أي أن رواية «القرآن» تتقدم على الأسطورة السريانية.
نجد كذلك نفس القصة في نص سُرياني آخر عُرف لاحقًا باسم «أسطورة الإسكندر» وكان يُتوهم بأنه الترجمة السُريانية لقصة الإسكندر لكاليسثينيس المزيف، كما نجد نفس القصة أيضًا في نسخ «قصة الإسكندر» المزيفة التي تسبق ظهور الرسول بقرون.

ونحن هنا أمام ذكر للقصة في ثلاثة نصوص مزيفة تسبق القرآن:

1- «قصة الإسكندر» لكاليسثينيس المزيف ويعود تاريخ كتابتها إلى القرن الثالث الميلادي.

2- «قصيدة يعقوب السروجي» وأرخها نولدكه بأنها تعود إلى منتصف القرن السادس الميلادي.

3- العمل السُرياني الذي عُرف باسم «أسطورة الإسكندر» وهو سابق على القرآن كذلك، وعمل منفصل تمامًا عن سابقيه.

ونتيجة للأبحاث التي تمت على امتداد القرن العشرين ودارت حول تحليل هذه النصوص الثلاثة ظهرت مجموعة من الحقائق الجديدة قلبت الأمر رأسًا على عقب والتي نستطيع أن نلخصها ونعقب عليها في النقاط الآتية:

أ- لا نجد في أقدم النسخ المخطوطة «لقصة الإسكندر» سواء كانت اليونانية التي تعود للعهد البيزنطي [6] [حيث إن الأصل اليوناني مفقود كما ذكرنا] أو اللاتينية وتعود للقرن «الرابع الميلادي» أو النسخة الأرمينية وتعود للقرن «الخامس الميلادي» (مع الترجيح بأن هذه النسخة تسبق هذا التاريخ) لا نجد ذكرًا للبوابة أو الجدار الذي قام الإسكندر ببنائه على شعب «يأجوج ومأجوج»، بل أول ما نجد لها ظهورًا وللمرة الأولى في العمل المعروف باسم «أسطورة الإسكندر» السُريانية «Syriac Alexander Legend» [ثم نُقلت بعد ذلك إلى نسخ القصة الأخرى]، وهو عمل مختلف تمامًا عن قصة الإسكندر، كُتب في القرن السابع بين العامين 629م و 630م [7][8]، بعد هزيمة الشاه الساساني «خسرو الثاني» علي يد الإمبراطور البيزنطي «هرقل» عام 628م كنوع من الدعايا المناصِرة للدولة البيزنطية عبر استخدام صورة الإسكندر لتصوير «هرقل» في حربه ضد الشاه الساساني. [9][10]

وهنا قد يتبادر سؤال لذهن القارئ: كيف توقع الباحثون كتابة هذا النص في تلك الفترة؟

وُجد بالبحث والمقارنة أن «أسطورة الإسكندر» هي المصدر لقصيدة «يعقوب السروجي» التي لم يرها الرجل ولم يكتبها ونُسبت إليه زورًا، وهي مفقودة الأصل.
والإجابة أن هذا النص ينتمي لأدب يعُرف باسم أدب «الأبوكاليپس»، وهو نوع من الأدب لاقى انتشارًا مع التهديد الذي شهدته الدولة البيزنطية بالفتح العربي الإسلامي لمصر والشام وبلاد الرافدين، وارتبط في اﻷذهان بالأمل من الخلاص من السيد الآتي، وللتعبير عن حلم بات من الصعب تحقيقه على أرض الواقع، مما دفع كُتَّابه لنسج سيناريوهات عن رؤاهم المستقبلية لمصير العالم ونهاية الزمان، وذلك عبر مزج هذه التوقعات بسلسلة من الرؤى المستوحاة من التوراة والإنجيل، كالحرب المقبلة مع قبائل الشمال المسماة «يأجوج ومأجوج» وظهور «المسيح الدجال» [11]. بمعنى آخر أن هذه الكتابات كانت تُكتب بعد وقوع الأحداث التي تؤرخ لها ويقوم كُتَّابها بنسب هذه الكتابات إلى رجل دين مسيحي أو إلى مؤلف مات من زمن كبير قبل هذه الأحداث ليوحي للقارئ بأنها نبوءة مستقبلية وبالتالي يضفي مصداقية على أحداثها.

ب- وُجد بالبحث والمقارنة أن «أسطورة الإسكندر» هي المصدر لقصيدة «يعقوب السروجي» التي لم يرها الرجل ولم يكتبها ونُسبت إليه زورًا، وهي مفقودة الأصل وقد وصلَنا منها ثلاث نسخ أقربهم للأصل في 698 بيت، وبها أحداث مختلفة من ضمنها وصف بناء الإسكندر سد على قوم يأجوج ومأجوج إلا أن بها اختلافات عن القصة القرآنية واختلافات أيضًا عن الأسطورة، وقد تم تأليفها بواسطة شخص مسيحي مجهول الهوية يُعتقد أنه سكن شمالي العراق [12][13] وقد ادعى «تيودور نولدكه» بأن هذه القصيدة قد كُتبت حوالي منتصف القرن السادس الميلادي، إلا أنه تم التوصل إلى أنها كُتبت في القرن السابع بين العامين 630 و 640 [14] أو بعد فترة بسيطة من فتح المسلمين للشام وبلاد الرافدين [15]، وقد كُتبت في الأساس تعقيبًا على «أسطورة الإسكندر» وهي تقوم برسم مستقبل تشاؤمي للإمبراطورية البيزنطية تتنبأ بوقوعها بعد حروب عظيمة يتبعها نهاية العالم.

والسؤال الذي لابد من معرفة إجابته بعد التوصل لهذه النتائج: متى ظهرت الرواية القرآنية لقصة ذي القرنين؟.

يُجمع المفسرون أن سورة «الكهف» التي بها قصة ذي القرنين هي سورة «مكية» نزلت جملة واحدة على قلب الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأخَبر بها تقريبًا في العام «الخامس» بعد البعثة، وهو تاريخ يقابل بالميلادي عام 615م؛ أي أن رواية «القرآن» تتقدم على الأسطورة السريانية وعلى القصيدة اللتين كُتبتا بين العامين 629 و 640 بـ 14 عامًا على أقل تقدير، وهي نتيجة سنقوم بالاعتماد عليها لاحقًا في تحليل كيفية وجود هذا الشبه بين القصة القرآنية والقصص السُريانية.

تاريخ ظهور القصة القرآنية مقارنة بالنصوص السريانية
وجد ذُكر قوم يأجوج ومأجوج في «العهد القديم» في سفر «التكوين» ضمن سلاسل النسب الموجودة في الكتاب كما ذُكروا في سفر «حزقيال» بتفصيلات أكثر، ونجد ذكرهم أيضًا في «العهد الجديد» في سفر «الرؤيا»، وهم محور من محاور قصة ذي القرنين القرآنية ونقطة الالتقاء الأساسية التي تسببت في هذا اللبس الكبير. وقد نطرح سؤالًا مفاده: كيف تم الربط بين الإسكندر وبين قوم يأجوج ومأجوج كما ظهر في القصص السرياني ورواية القرآن عن ذي القرنين؟.

لم يرد أي نص من مؤرخين عاصروا الإسكندر ودوّنوا سيرته ذكر لبنائه بوابات أو سدود على هذا الشعب، ويعتقد باحثون بأن قصة بناء السد قد جلبها يوسيفوس من أصل روماني أو فارسي.
والإجابة أن هناك باحثين يذكرون بأن المؤرخ والعسكري اليهودي الروماني الذي يُعرف في تاريخ القرن الأول الميلادي باسم «يوسيفوس فلافيوس» أو «يوسف بن ماتيتياهو» هو أول من جمع بين الإسكندر و نبوءة يأجوج ومأجوج التوراتية بشكل تلفيقي في القصص المتداول عن الإسكندر، فالإشارات التي ذكرها في تأريخه لليهود تأخذنا إلى عهد اليهودية في فلسطين في زمن الإسكندر نفسه، والأساطير الهيلنستية الأخرى تذكر بأن الإسكندر قد زار «القدس» وحرر اليهود الموجودين فيها وقَبِل دين اليهود بالاستحسان، وقام بنقل رفات النبي إرميا [650 – 585 ق.م] إلى الإسكندرية، وقد صُور الإسكندر بناء على ذلك بأنه مدافع عن اليهود [16]، وهو أمر يشكك فيه معظم المؤرخين لأن هذا الخبر لم ينفرد به سوى يوسيفوس الذي دَوَّن هذا الأمر بعد وفاة الإسكندر بُزهاء ثلاثة قرون، فيوسيفوس هنا يستحضر الإسكندر كبطل حرر اليهود وأعطاهم حقوقهم دون دليل على حدوث هذا الأمر في الماضي، وهو أمر يُفسر سبب ذكره أن الإسكندر أغلق الطريق الذي مر منه في الشمال ببوابات حديدية على شعب السكوثيون [شعب بدوي ينحدر من سهوب أوروپا الشرقية] مع ذكره بأنهم ينحدرون من نسل يأجوج ومأجوج الذين يُذكرون في النبوءة التوراتية بأنهم أعداء بني إسرائيل، وهو تأريخ مزيف ولا شك [17]، إذ لم يرد أي نص من مؤرخين عاصروا الإسكندر ودونوا سيرته ذكر لبنائه بوابات أو سدود على هذا الشعب، ويعتقد باحثون بأن قصة بناء السد قد جلبها يوسيفوس من أصل روماني قديم وقام بدمجها بنبوءة يأجوج ومأجوج، إلا أني أعتقد أنه جلبها من أصل فارسي وليس رومانيًا.

فكيف ظهر هذا التشابه بين القصة القرآنية والقصص السُّرياني؟.

هناك ثلاث فرضيات تفسير ظهور نفس قصة الأسطورة السُريانية في القرآن الكريم:

1- إما أن القرآن أخذها من «الأسطورة» و«قصيدة الإسكندر» وهو شيء ثَبُت بطلانه، فالقرآن متقدم على الأسطورة بأربعة عشر عامًا على أقل تقدير، علمًا بأن النُسخ المكتوبة من «قصة الإسكندر» والتي وصلت إلينا لم تذكر اسم «ذي القرنين» بداخلها من قبل، وظهر اللقب لأول مرة في «أسطورة الإسكندر» السُريانية التي ظهرت بعد عقد ونصف تقريبًا من الرواية القرآنية.

2- إما أن الأسطورة أخذت القصة من القرآن وهذا فرض بحاجة إلى مزيد من الأدلة، فالقرآن في بيئة شبه الجزيرة العربية من الصعب أن تصل قصصه بتفاصيلها إلى الخارج قبل احتكاك المسلمين بالأمم غير الإسلامية في الشام والعراق بعد عمليات الفتح، وهو فرض أستبعده أيضًا.

3- أن يكون القرآن حدثنا بالفعل عن قصة حقيقية كانت معروفة ومتداولة «شفويًا» إلا أنها نُسبت زورًا إلى الإسكندر، وهذا ما أذهب إليه وأؤيده عبر كثير من الأدلة؛ لأن السياق الإسلامي للقصة يُخبرنا بأن اليهود سألوا النبي في امتحانهم له على لسان المشركين عن رجل معروف لديهم طاف المشرق والمغرب والسؤال بالطبع سيأتي من مصادرهم وليس من أي مصدر آخر؛ أي أن القصة معروفة لهم.
https://www.ida2at.com/did-the-quran...a-syriac-myth/