هل من العدل أن يخلق الله الناس على غير الإسلام ثم يحاسبهم؟ (الفطرة وشاهدها العلمي).
قد يبدو السؤال للوهلة الأولى وجيها وباعثا على الراحة النفسية عندما يحاول من يسأله التملص من قبول الحق ، ولكن ستُصدم اخي السائل عندما تعلم أن الجواب هو نعم من العدل ان يخلق الله الناس على غير الإسلام ثم يحاسبهم !!
لا تستغرب فالله لم يهمل جواب سؤالك لتتملص من حسابه ، فهو لم يخلقك هملا ولا عبثا ولكن خلقك لتوحده وتعبده، ولذا حتما سيأخذ بعقلك إليه ويدلك عليه لأنه عادل.
ستقول ولكني ولدت على غير الإسلام فكيف يحاسبني على شيء لم أقم باختياره وهو قدره علي؟
فأقول وبالله التوفيق عندما يُقدر الله على عباده شيء فسبحانه وبرحمته يعينهم عليه وييسره لهم فإذا وقعت عليهم المشقة رفع عنهم التكليف كما في حال الصيام والحج بل وفي الصلاة قد يصليها المريض بعينيه.
أسمعك تقول وما علاقتي بذلك وأنا غير مسلم؟ أين تيسير الله لأهتدي للإسلام؟ وأين عدله؟
فأقول لك وبالله التوفيق تيسير الله لك في الفطرة التي تولد عليها (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه او ينصرانه ......الحديث)، هذه الفطرة هي البوصلة التي تأخذ بناصيتك لله مهما كانت الديانة التي زرعها فيك أبويك، ومهما كان الباطل الذي يحيط بك، حدث ذلك من أول ولد لآدم وسيظل الى قيام الساعة.
ستقول ولكن الأمر قد تم وولدت على غير الاسلام وتشربت بهذه الديانة، فلماذا يحاسبني الله؟
فأقول لك صدقت في أنك تشربت بها ولكن أجب بصدق هل اقتنعت بها ١٠٠ %؟
هل تركتك فطرتك لتستمتع بديانتك دون أن تنغص عليك حياتك بكم هائل من الأسئلة التي أقلقت منامك وأجهدت عقلك للبحث عن جواب؟
هنا يظهر عدل الله المطلع على ما بداخلك من الحيرة وعلى نظرتك لدينك ومحاكمتك له، فإن وجدت به باطل أنكرته فقد أرشدتك فطرتك، فإن أعجبك ما أنكرته فطرتك واتبعته لهوى في نفسك فقد رسبت في الإختبار فليس لك على الله حجة، أما إن تركت الباطل وبحثت عن الحق فقد نجحت في الإختبار حتى لو لم تصل للحق ولم تستطع الوصول لمن يدلك على الحق، فكفاك شرفا أنك أنكرت الباطل وبحثت عن الحق، ألم أقل لك ان الله إذا أمر العباد بشيء يسره لهم وعليهم، فإن وجدوا المشقة رفع عنهم هذه المشقة، فكيف لك أو لأي أحد بعد ذلك أن يتهم الله بأنه غير عادل.
فالفطرة يوم الحساب هي حُجة الله على خلقه الذين رفضوا الإسلام في كل زمان من لدن آدم إلى قيام الساعة.
هي الهادي العقلي الذي يرفض الباطل مهما كان شكله.
الفطرة تأبى ان يكون للخالق القدير ابن او شريك من نار أو شجر او حجر او قمر، او ان يكون ضعيف فيضرب ويهان ويقتل عاجزا عن فعل شيء لنفسه على قطعة خشب ثم يعظمها الناس، أو انه يتعب فيستريح او ان يُنزِل كتاب مليء بالأخطاء ويبدو عليه التحريف.
الفطرة تأبى أن يكون هناك خلق بلا خالق، صنعة بلا صانع، أسباب بلا مُسبب، أثر بلا مؤثر.
الفطرة ستعذب عقلك يوميا وتدفعك دفعا للبحث عن الحق كما تفعل الان، فانت ما سألت إلا لأنك مُتعب من داخلك بسبب فطرتك التي تأبى عليك إتّباع دين باطل وتخشى أن تلقى الله فيحاسبك ويعذبك لذا أنت تبحث وتسأل بدافع من هذه الفطرة أو البوصلة الداخلية التي ستأخذك للحق إن تركت نفسك لها كما تفعل في بحر لُجي إن تاهت سفينتك في ظلمات البحار فلكي تنجو ستتبع البوصلة أو نجوم السماء لتهديك الى بر الأمان، ومن داخلك ستتبع فطرتك فتدعو خالق الأرض والسماء لينجيك من هذا البحر اللجي.
قال تعالى آمرا عباده بالبحث عن الدين الحق بهذه الفطرة أو البوصلة {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم : 30]
(فأقم)
أي لا تغادر هذا الهدف حتى يتحقق فليس هناك اسمى منه في الوجود لتقيم حياتك كلها لأجله، فبه النجاة في الدنيا والآخرة
(وجهك)
أي كل حواسك الموصلة لعقلك والتي ترى بديع صنع الله في ملكه والتي تدل على عظمته واستحالة أن يكون المخلوق خالق او حتى شريك للخالق أو يكون ضعيف او مهان، فهو حتما اول بلا ابتداء آخر بلا انتهاء، قدير حكيم عليم قادر مقتدر ليخرج صنعته بهذا الجمال والكمال والاتقان والإحكام، فإقامة الوجه بلا كلل او ملل ستدلك على خالقك وتجعلك قادر على ترك ما سواه من باطل والبحث عن الحق ولذا قال الله بعد أقم وجهك
(للدين)
فالله لم يخلقنا بفطرة تدل على وجوده ثم نكتفي بذلك دون أن نتعرف عليه، فضابط المعرفة ليس عقلي وعقلك ولكن الدين الذي أنزله الله على رسله وهو دين التوحيد الذي يحترم كل العقول ويقدم لهم علم صحيح عن الخالق يحترم الفطرة وما دلت عليه من بديهيات لا يختلف عليها البشر، ولن تجد ذلك إلا في الإسلام تراه جليا واضحا في كل سطر من القرآن بل وفي كل كلمة وحرف، فالقرآن كله ينطق بالتوحيد وتوقير الخالق الذي خلقني وخلقك وخلق الكون كله، القرآن لا يدعوك الا لعبادة الأول الآخر، لا يدعوك الا لعبادة القوي المقتدر الواحد الاحد الحكيم العليم مالك الملك والملكوت الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السماوات والارض، القرآن يبين لك كيف خُلقت ولماذا خُلقت ولماذا خلق الله الكون ولماذا أنت موجود فيه، وما هي علاقتك بهذا الكون وما هو المطلوب منك وما هي نهايتك ونهاية العالم وما سيحدث لك بعد نهاية العالم من حشر ونشور وحساب فإما ثواب وإما عقاب، إما جنة وإما نار.
وأنت عندما تدرك بفطرتك أن هذه هي صفات الدين الحق، الدين القيم فلن تملك إلا إتباعه طالما عرفت به واطلعت على رسالته، لن تملك إلا ترك الباطل الذي أنت عليه، ولذا قال الله بعد (أقم وجهك للدين)
(حنيفا)
والحنيف هو المائل عن الباطل إلى الحق بعد أن أقام وجهه لمعرفته، هو كل من ترك الشرك وأهله ودخل في الدين القيم وهو دين الإسلام، قال الله
{وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يونس : 105]
(فطرت الله التي فطر الناس عليها)
فإقامة الحواس والعقل للبحث عن الحق، عن الخالق، عن الدين القيم الذي نعبد به الخالق، تلك هي الفطرة التي ركبها الخالق فينا لنستدل بها عليه ونعود بها للحق ونترك الباطل، هي الفكرة والسؤال الذي يؤرقك، من انا ومن خالقي، وماذا يريد مني ولماذا خلقني، وما هو المصير والمآل؟ تلك هي بوصلتك للحق في ظلمات الدنيا وجهالات البشر التي اختلقوها ليخلقوا الإله الذي أرادوه بأهوائهم ليعبدوه بدلا من ان يعبدوا الإله الذي خلقهم طلبا لمنافع الدنيا.
نعم اخي السائل الله فطر الناس للبحث عنه بآليات عقلية موثوق بها قادرة على الوصول اليه مهما أحاط بك من الباطل ومهما زرعت اسرتك فيك من ديانات باطلة.
وكيف لا نثق بهذه الفطرة وقد كانت في السابق خير هادي لنا للبقاء على قيد الحياة ولتعلم ما يلزمنا من اساسيات التعامل في هذه الحياة.
أليست هذه الفطرة هي التي جعلتك تلتقم ثدي أمك لأن في غذاءه أسباب بقائك على قيد الحياة، من علمك ذلك؟
أليست هذه الفطرة هي التي جعلتك تدرك البعيد عنك والقريب منك، الجدار لا نعبر منه فنبحث عن الباب، هذا قليل وهذا كثير، هذا كبير وهذا صغير، كل ذلك وأنت تحبو ولا لغة بينك وبين أهلك ليعلموك ومع ذلك أدركت ذلك كله بهذه الفطرة أو البديهيات التي ركبها الله فيك.
فطرتك كانت الأساس في تعلم علم الحساب، وفطرتك هي التي جعلتك تكتسب اللغة التي تتكلم بها دون ان يعلمها لك أحد؟ فالسماع وحده لا يكفي لتعلم اللغة دون فطرة او بديهيات سابقة تجعلك قادر على التفاعل مع اللغة فتربط بين الإسم ومسماه، وبين الكلمة والحرف لتفصح عما تريد، وأيضا قبل أن تجادل هذا ليس قولي ولكن قول العلماء فأرجو الإطلاع على أبحاثهم.
فهذا الدليل الفطري الحسي البديهي دلت عليه علوم هذا الزمان فقالوا بأنه لوﻻ المعرفة الغريزية او البديهية أو الفطرة (Innate Knowledge) التي نولد بها لما استطاع اﻻنسان تعلم المعارف المكتسبة (Acquired knowledge)، ويكفي ان نبحث على العم جوجل عن جهاز الغريزة في مخ الطفل المولود (innate brain system of infants) لنحصل على العديد من المقالات والكتب العلمية التي تتناول دور العلم الغريزي او الفطري في المعرفة المكتسبة مثل تعلم الحساب (Innate Mathematical Ability) واللغة (innate language ability) ومعرفة الاتجاهات (innate direction ability)، وغيرها الكثير مما يصعب حصره في مثل هذا المقال الصغير.
ويمكن مراجعة المقالات العلمية الآتية للتثبت من ذلك، مع الوضع في الحسبان ان العلم مازال يحبو في مجال الكشف عن جهاز الغريزة والفطرة في عقل الانسان ودوره العظيم في النظر والاستدلال وحتى في مسألة إتباع الأديان:
1. A critical review of the evidence on infant numerical abilities
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC3708991/
2. Number sense in infancy predicts mathematical abilities in childhood
http://m.pnas.org/content/110/45/18116
3. Brain Mechanisms in Early Language Acquisition
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC2947444/
4. Physics for infants: characterizing the origins of knowledge about objects, substances, and number
http://onlinelibrary.wiley.com/doi/10.1002/wcs.157/full
5. Evidence That Sense of Direction Is Innate
https://www.scientificamerican.com/.../sense-of.../
6. New evidence for innate knowledge
http://actu.epfl.ch/.../new-evidence...e-knowledge-5/
7. Babies: Born to be Good?
babies are hardwired with an innate sense of good and bad.
http://www.cbc.ca/.../m/features/res...nfant-morality
8. Babies are born with an intuitive knowledge of physics
http://munews.missouri.edu/.../0124-...mu-researcher/
(لا تبديل لخلق الله)
أي أنه لا سبيل لتبديل هذه الفطرة أو نزعها من الإنسان مهما زرع فيه الآباء من تعاليم الدين الباطلة لأنها البوصلة التي ترفض الباطل والتي تدل على الحق وعلى الخالق. وربما كان المعنى أي لا تبدلوا خلق الله، اي لا تبدلوا هذه الحالة العقلية التي تدلكم على خالقكم لأن في ذلك هلاككم، فلا يجوز تغييب العقل بالمسكرات أو بأي مادة يمكنها التلاعب بالعقل او التحكم في اختياراته وإلا كان ذلك جرما في حق البشرية لكون ذلك يحرم الإنسان من الوصول إلى خالقه وقبول شريعته.
ولعل إكتشاف العلم لما يسمى بجهاز الغريزة يكون سببا فيما بعد للتحكم في هذا الجهاز وتغيير فطرة الناس بما يجعلهم غير قادرين على البحث عن الخالق فجاء نهي الله عن ذلك صريحا (لا تبديل لفطرة الله)، اي لا تغيروها فتُضلوا الناس بغير الحق والله تعالى أعلى وأعلم.
اللهم ما كان من توفيق فمنك وحدك وما كان من خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء.
د. محمود عبدالله نجا
أ.م. بكلية طب القنفذة - جامعة أم القرى