الإشارات البلاغية في قوله تعالى: مَثَلُ ٱلَّذِینَ ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوۡلِیَاۤءَ كَمَثَلِ ٱلۡعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتۡ بَیۡتࣰاۖ وَإِنَّ أَوۡهَنَ ٱلۡبُیُوتِ لَبَیۡتُ ٱلۡعَنكَبُوتِۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ
الإشارة الأولى: تأنيث العنكبوت
لغة العنكبوت كما في المعاجم اسم يدل على دويبة أو حشرة معروفة تنسج نسجا رقيقا مهلهلا، ولفظ العنكبوت هو اسم جنس أي أنه يدل على نوع العنكبوت بصرف النظر عن كونه أنثى أو ذكر وهل هو مفرد أم جمع.
وقد يؤنث كما في الآية وقد يذكر كما في قول الفراء:
عَلَى هَطَّالِهِمْ مِنْهُمْ بُيُوتٌ ... كَأَنَّ العَنْكبُوت هو ابْتَنَاهَا
قال ابن عادل في اللباب: وهذا مطرد في أسماء الأجناس يذكر ويؤنث.
ولكن اختيار القرآن لصيغة التأنيث لا يخلو من لفتة بلاغية إذ أنه من المعروف عند علماء الحشرات أن إناث العنكبوت هي التي تنسج بيوت العنكبوت أو المصائد دون الذكور (وإن كانت الذكور لديها القدرة على الأقل في بعض الأنواع ولكنها في العادة لاتفعل). لذا ناسب أن يشير إليها بصيغة التأنيث.
الإشارة الثانية: بيوت العنكبوت ليست فعالة كبيوت
وإن كانت تلك البيوت وسيلة ناجعة لاصطياد الحشرات إلا أنها ليست كذلك كحرز آمن تأوي إليه العناكب لدرجة أن العناكب تلجأ إلى القفز منها إذا شعرت باقتراب الدواب التي تقتات على افتراسها. هذا إن نجحت بالشعور بالذبذبات التي تحدثها تلك الدواب في خيوط الحرير الذي تنسجه، لأن بعضها لديه وسائل تمويه وتخفي تمكنها من الاقتراب من فريستها دون أن تشعر. فضلا عن ذلك فإن بيوتها سريعة التلف بفعل عومل التعرية لدرجة أنها (النوع المشهور المنتشر منها على الأقل Orb-weaver spiders) تلجأ لإعادة بنائها كل ليلة بعد أن تقوم بالتهاما وقد تلجأ أيضا إلى تغيير الموضع إذا شعرت بأن المفترسات تعرفت على الموضع السابق.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض المفسرين نبه على أن قوله تعالى: وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت هو جملة اعتراضية بين ما قبلها وقوله تعالى: لو كانوا يعلمون. وتقدير الكلام على هذا أن المقصود هو مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا لو كانوا يعلمون. أى لو كانوا يعلمون أن مثل اتخاذهم للأولياء من دون الله كاتخاذ العنكبوت للبيت أي الذي لا يقيها ولا يدفع عنها الضرر إلا كما ينفع بيت الكنعبوت العناكب ويدفع عنها. والمعنى أنهم لا يعلمون ولا يدركون ذلك ولهذا يتخدون من دون الله أولياء.
وقد يشكل على هذا أن خيوط الحرير التي تنسجها العناكب أكثر متانة من الفولاذ لكن المقصود من ذلك أن خيط الكنعبوت أكثر متانة من خيط الفولاذ الذي بنفس السمك وهو حوالى 0.003 مليمتر أي أنه أدق من شعرة الرأس بعشرين مرة. أما في نفس الأمر فخيط العنكبوت في غاية الضعف وهذا لدقته. فخيط من الفولاذ بهذا السمك سيكون أشد وهناً. إلا أنه لا يوجد دواب تتخذ بيوتا من خيوط بهذه الدقة ولا بهذا الوهن لا من الحرير ولا غيره.