مناهج الغربيين في الحديث النبوي.
قرأت مؤخرا كتابا للباحث جوناثان براون أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة جورج تاون بعنوان "الحديث النبوي: تراث محمد في العصور الوسطى والعصر الحديث "Hadith: Muhammad's legacy in the medieval and modern world يتحدث فيه عن الحديث النبوي وأشهر المؤلفات فيه، ومصطلح الحديث، وتطبيقاته في مجال الفقه و العقيدة، وكذلك الحديث عند الشيعة. وقد عقد فيه فصلا للحديث عن الاتجاهات الغربية في الأحاديث النبوية وكتب الآثار وتصور كل اتجاه منها بدءا بمدرسة الاستشراق orientalist school التي يمثلها جماعة من المستشرقين على رأسهم " إجناس جولدتسيهر" و "جوزيف شاخت" مرورا باتجاه التنقيحيين أو المراجعين revisionist من أمثال جون وانسبرو و باتريشيا كرونه، وهم أكثر تطرفا في آرائهم من اتجاه الاستشراق، انتهاءا بمدرسة إعادة التقييم western revaluation وعلى رأسهم "هارلد موتزكي"، والذي يرى المؤلف أن رؤيتهم للأحاديث النبوية أقرب ما يكون لرؤية نقاد وعلماء الحديث المسلمين.
وقبل استعراض أفكار هذا الفصل من الكتاب أنوه إلى أن ما بين قوسين فيما يلي هو من كلامي إلا في موضع واحد.
في بداية الفصل أشار المؤلف إلى أن أساليب النقد التاريخي في الغرب لها تقاليدها traditions الخاصة بها القائمة على جملة من الفرضيات كما هو الحال بالنسبة لأساليب النقد لدى علماء الحديث المسلمين أو المحدِّثين.
وينبه على أن ما ينبغي التسليم به - جدلاً - قبل الشروع في مزيد من النقاش هو أن كون الكتاب لا يفترض أن الله يتدخل في شئون البشر، أو أن محمد (صلى الله عليه وسلم) نبي، أو أن الأحاديث بوجه عام صحيحة، يعني أن الكتاب يفترض أن الله لا يتدخل بشكل مباشر في شئون البشر، وأن محمد (صلى الله عليه وسلم) مجرد بشر، وأن هنالك شكوك حقيقة حول الموثوقية التاريخية historical authenticity لمتون الحديث.
فقليل من القراء الغربيين للكتاب سيقبل الطرح القائل بأن الأحاديث هي تسجيل دقيق لكلام محمد (صلى الله عليه وسلم) بناءا على أن الله لا يمكن أن يترك دينه الذي ارتضاه دون أن يتكفل بحفظه (وهو تفسير إسلامي نموذجي). فلك أن تتخيل أن النقاش الدائر عن الأحاديث في الغرب يختلف بدرجة كبيرة عن نظيره لدى المسلمين.
فهذا الفصل من الكتاب يتناول البحث الغربي الأكاديمي للتاريخ الإسلامي المبكر ونقده الجذري للتراث السني.
"مسألة الموثوقية" authenticity question، كما يدعو المؤلف قراءه للاصطلاح على تسميتها في غضون تناوله لهذا الفصل من الكتاب، يرى المؤلف أنها تنطوي على مسألتين يجب أن نضعهما نصب أعيننا، أولاهما: أن البحث النقدي الغربي للأحاديث وطرق المحدِّثين لفزر صحيح الأحاديث من سقيمها يمكن النظر إليه كوسيلة تعين على تطوير فهمنا أو استيعابنا لأصول الإسلام، وجزء لا يتجزأ من مساعي الإنسانية بشكل عام لتوسيع أفق المعرفة في كافة المجالات. وثانيهما: أنه على الرغم من ذلك، يمكن النظر للبحوث النقدية الغربية للأحاديث على أنها عمل استعلائي تحاول من خلالها رؤية (وهي الرؤية الغريية ) أن تفرض نفسها على أخرى (وهي نظيرتها الإسلامية) عن طريق إملاء المعايير التي تتحقق بها المعرفة وتثبت بها الحقائق.
ومن هذا المنظور، يضيف المؤلف، لنا أن نتسائل لماذا ما سلطه الباحثون الغربيون من ضوء على الأحاديث هو بالضرورة أكثر قيمة لأجل تقدم "الفهم أو الاستيعاب البشري" مما قدمه التقليد الإسلامي بالفعل؟
وكما بيَّن أمثال "إدوارد سعيد" "فالمعرفة قوة"، و القيام بدارسة أمر من الأمور هو سعي للسيطرة عليه. فلم يكن من قبيل الصدفة أن أربعة من جملة خمسة مسالك سلكتها الدراسات الغربية عن العالم الإسلامي هي بالأساس نابعة من المصالح والاهتمامات الاستعمارية والدبلوماسية الأوروبية (على سبيل المثال الدراسات الفرنسية للفقه والثقافة الإسلامية في مستعمرات شمال أفريقيا، ونظيرتها الهولندية في جنوب شرق آسيا، والدراسات البريطانية للثقافة الفارسية الإسلامية في الهند إلخ ..)
والمسلك الخامس والذي ثبت أنه ذو أهمية قصوى للموضوع الذي يتناوله هذا الفصل من الكتاب هو الدراسات السامية semitic studies النابعة بدورها من الدراسات الكتابية biblical studies (التي تخص الكتاب المقدس). فالدراسات الغربية حول الحديث - يضيف المؤلف - إذاً لا تتسم بالحيادية وآثارها تتجاوز أغراض البحث الأكاديمي. فالدبلوماسيون الغربيون في نهاية القرن التاسع عشر خططوا لترويج نسخة "تقدمية" من الإسلام بين الشعوب التي استعمروها كما فعل لاحقا خلفاؤهم الأمريكون في القرن الحادي والعشرين. ويصف المؤلف كيف أن الصحافة الغربية صفقت لخبر عن نية الحكومة التركية عام 2008 للمضي في مشروع مراجعة جذرية للأحاديث وهو ما اتضح لاحقا أنه مجرد شائعة!
فمسألة الموثوقية هي جزء من نقاش أشمل أو جدل أوسع عن ميزان القوى power dynamic بين الدين والحداثة أو الإسلام والغرب.
وبديلا عن مقاربة مسألة الموثوقية من منطلق أن الرؤية التقليدية الإسلامية المتعلقة بالحديث خاطئة وأن البحث الأكاديمي الغربي أيقظها من سبات ظلت فيه لألف عام ويقودها تدريجيا نحو الأمام. يطرح المؤلف نهجا أو مقاربة approach، يراها أكثر دقة، مفادها أن متون الحديث hadith corpus هائلة وأن محاولات الغربيين لتقييم موثوقيتها بالضرورة تقتصر على عينات محدوة ما يجعل أي توجه حيال موثقيتها مبناه بشكل أكبر على رؤيتهم النقدية من كونه على حقيقة تجريبية. لأنه في نهاية المطاف – يضيف المؤلف – بناءا على أسس تجريبية لا يمكن معرفة إذا ما كان محمد (صلى الله عليه وسلم) نبيا أم شخصية صنعها التاريخ أو أن الله تكفل بحفظ كلامه للأجيال القادمة أم لا.
ويضيف المؤلف أنه لن ينظر لمسألة الموثوقية من منظار أنها سؤال يمكن الجواب عليه بنعم أو لا. وبديلا عن ذلك سينظر في جملة الفرضيات التي تبنتها المدارس الفكرية المختلفة وكيفية بنائها على تلك الفرضيات. وكذلك سينظر في تفاعل تلك المدارس الفكرية مع بعضها البعض وكيف أن جملة الفرضيات الخاصة بإحداها تلقي بظلال من الشك على جملة الفرضيات الخاصة بأخرى.
بعد ذلك ينتقل المؤلف للحديث عن نهج الباحثين الغربيين ويقتبس من المؤرخ المعروف بـ "اللورد أكتون" قوله أن المؤرخ الحداثي modern historian لا يجب أن يفترض حسن النوايا. وأن رد الفعل المبدئي تجاه أي رواية ذات طابع تاريخي هو الشك فيها.
ثم شرع في الحديث عن منهج الدراسة الغربية الحديثة للتاريخ والتي عادة ما يشار إليها بالمنهجية النقدية التاريخية historical critical method HCM، وأنها مقاربة للماضي نابعة من المنهج الإنساني المرتبط بعصر النهضة الأوروبية renaissance humanism والمقاربة النقدية للمصادر التاريخية والدينية والتي تطورت لاحقا في ألمانيا في القرنين الثامن والتاسع عشر.
فتبني نظرة نقدية تجاه الماضي يعني ألا نقبل بما تخبر به المصادر التاريخية دون تمحيص بل نقوم بفحص تلك المصادر ونحاول التحقق من موثوقيتها استنادا إلى جملة من الفرضيات عن الكيفية التي تعمل بها المجتمعات الإنسانية. وترجع أصول النظرة النقدية التاريخية باختصار إلى ثلاثة أمور ألا وهي: إعادة اكتشاف التراث الإغريقي والروماني القديم، وعصر الاستكشاف خاصة اكتشاف العالم الجديد، والإصلاح البروتستاني.
فإعادة اكتشاف التراث القديم منح الدارسين الأوروبيين إحساسا بالفجوة التاريخية historical distance التي تفصلهم عن الماضي. وكشفت عن التغيرات التاريخية التي أحدتثها نصوص طالما وُضعت موضع التبجيل كالكتاب المقدس. وفي نفس الوقت فقد أكدت على عدم تغير الطبيعة البشرية. وهي وسيلة أساسية للكيفية التي يوثق بها الدارسون الغربيون الأخبار المتعلقة بالماضي. فلقد أبدى المؤرخون الأغريق والرومان تشككا شاملا لم تستطع العقلية الأوروبية أن تقاومه، وقدمت المؤرخ النموذجي على أنه محلل يتسم بالموضوعية detached analyst في مقابل الأخباري المسيحي christian chronicler.
وفي نفس الوقت فقد أدى اكتشاف الأمريكتين إلى تغيير خريطة العالم المستمدة من علم الأنساب biblical genealogy والجغرافيا الكتابية. كما أدى الإصلاح البروتستانتي إلى تقويض احتكار الكنيسة لتفسير الكتاب المقدس وهو ما نجم عنه في نهاية المطاف تصور عن الكتاب المقدس على أنه منتج تاريخي historical product متقيد بسياقه، لا أنه ينبوع للحقيقة المطلقة لا تشوبه أخطاء وغير متقيد بزمان.
ولم يكن الإحساس بالفجوة التاريخية أوضح في جانب من الجوانب كوضوحه في اللغة اللاتينية.
فالمذهب الإنساني المرتبط بعصر النهضة هو في مبدئه إدراك لحجم التباين بين لاتينية الكنيسة في العصور الوسطى ولاتينية كاتب روماني كشيشرون cicero على سبيل المثال. وقد أدى هذا الافتتان باستعادة اللغة اللاتينية في صورتها النقية كما كان يتحدث بها الرومان القدماء بأحد فقهاء اللغة وهو لورنزو فالا lorenzo valla إلى إدراك كيف أن كثيرا من الكلمات أصبحت تؤدى معنى غير الذي كانت تعنيه في الأصل.
وفي خلال فحصه لإحدى الوثائق المنسوبة للإمبراطور قسطنطين والتي من المفترض أنه يمنح فيها للبابا حق التصرف في بعض الأراضي في الغرب، أوضح أن وجود بعض المفارقات اللغوية linguistic anachronisms كذكر مصطلح الإقطاعات fiefs أو منح الأراضي land grants (أي أشياء خارج سياقها الزماني والمكاني ويذكر المؤلف مثالا على ذلك برسالة منسوبة للمسيح مثلا يرد فيها ذكر الهواتف الذكية) يدل على أن تلك الوثيقة هي نتاج عملية تزوير أو وضع لاحقة. ويشير المؤلف إلى أن التعرف على وجود المفارقات هو أحد أعمدة المنهج التاريخي النقدي.
وقد قام أحد خلفاء لورنزو في مجال فقه اللغة philology وهو الفيلسوف واللاهوتي الكاثوليكي إرازموس erasmus باستنساخ تجربة لورنزوا لكن في مجال اللغة الإغريقية. حيث كرّس جهوده في انتاج نسخ دقيقة وموثوقة من النصوص الإغريقية القديمة وذلك من خلال الاستعانة بأقدم المخطوطات المتاحة لتلك النصوص ومن ثم قام بتنقية تلك النصوص من كل ما طرأ عليها من أخطاء النساخ أو سوء فهم أو إضافات زيدت عليها لاحقا. وعندما قام بإنتاج نسخة جديدة من النص اليوناني الأصلى للعهد الجديد اكتشف وجود فقرة لطالما كنت جزءا من النسخة اللاتينية من العهد الجديد وتستخدم كدليل قاطع على عقيدة الثالوث لم يكن لها وجود في الأصل اليوناني وتمت إضافتها لاحقا. (هذه إشارة إلى رسالة يوحنا الأولى الإصحاح 5 الفقرات 7- 8 وهي لم ترد سوى في أربعة مخطوطات يونانية وكلها متأخرة ترجع للقرن الرابع عشر- انظر حاشية الإصحاح في النسخة الدولية الحديثة NIV).
لقد عاصر إرازموس أحداثا جساما كاكتشاف الأمريكتين والتغيرات الدينية الكبرى. فقد أضيف لخريطة العالم في حياته قارتان. ولم يقتصر الأمر على أنه لم يتنبأ أحد في الماضي بوجودهما بل إن قاطنيهما ليس لهم مكان في علم الأنساب الكتابي.
بالإضافة إلى ما تقدم - أشار المؤلف - قام اللاهوتي البروتستانتي إسحاق دي لابيريري Isaac de la Peyrère بطرح تصور أن الكتاب المقدس يتسم بالمحلية لا العالمية، فآدم لم يكن أول البشر بل مجرد سلف لقبيلة ضمن قبائل كثيرة استنادا إلى أن قابيل لما أقدم على قتل أخيه استطاع الفرار ومن ثم قام بالزواج في موطن آخر (التكوين 4 : 16). وقد أفسح الإصلاح البروتستانتي المجال للتأمل الفلسفي في المناطق التي هيمنت فيها البروتستانتية كإنجلترا و هولندا. وقد أدى إعادة إحياء الفلسفة أو تصور أن الحقائق الماورائية يمكن إدراكها بالعقل وحده إلى ازدهار اتجاه أو حركة الربوبية Deism في إنجلترا في القرن السابع عشر. وفي تناغمٍ مع الشعور بالإزدراء تجاه منصب البابوية واكتشاف الدور البشري في إعطاء الأسفار المقدسة الشكل التي هي عليه، فقد طرح الربوبيون من أمثال جون تولاند john toland فكرة أن المسيحية كانت في الأصل ديانة عقلانية محضة لكن الكنيسة أفسدتها بخلطها بالأساطير الرومانية.
ويشير المؤلف إلى أنه قد أدت دراسات العهد الجديد بالدارسين الألمان إلى استنتاج مفاده أن مؤلفي أناجيل متى ولوقا كونهم بعيدين عن أن يكونوا شهود عيان على حياة المسيح فقد كتبوا نسخهم من الأناجيل استنادا إلى إنجيل مرقس.
ويضيف المؤلف أن أحد المبادىء الحاسمة للمنهجية التاريخية النقدية هو القول بأن مؤسسي الأديان ليسوا مسئولين عن تعاليم تلك الأديان في صيغتها التقليدية اللاحقة. وقد ظهرت هذه الفكرة في ملاحظة فولتير أن آباء الكنيسة الأوائل كانوا يعتمدون على أناجيل غير قانونية. non-canonical
لكن هذا التصور تبلور في أطروحات عالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر والذى قدم أطروحة مفادها أن الصيغة الرسمية أو المعتقد التقليدي orthodoxy للأديان شكلته الأجيال اللاحقة في إطار عملية لإضفاء الطابع المؤسسي institutionalize على النفوذ الديني religious authority الخاص بالشخصية الكاريزمية المؤسِّسة للدين. charismatic religion’s founder
قارن هذا مع التصور السني عن دور علماء الحديث الذي ينحصر في حفظ تعاليم النبي (صلى الله عليه وسلم) الأصلية وتنقيحها من الأكاذيب.
لقد كانت إحدى الفرضيات التي فرضتها تلك المدرسة التاريخية الألمانية في دراسة أي نص هي الشك في صحته ومحاولة تحديد مدى موثوقيه. أو بعبارة أخرى الأصل عندهم هو الشك في صحة المتون المنقولة من الماضي. وما يعنيه ذلك أنهم كما يتضح من نقدهم للسلامة النصية لملاحم هوميروس أو الصحة التاريخية للأسفار المقدسة فهم على استعداد أن ينخرطوا في شكوك جوهرية تتعلق بأسس التاريخ الغربي والدين استنادا لما يعتبرونه مفارقات أو تباين في الأسلوب يعتري النصوص. وفضلا عن الشك ابتداء في صحة النصوص والقول بأن الصيغة التقليدية للأديان هي صياغة بشرية فقد ارتكزت المنهجية التاريخية النقدية على أسس منهجية ثورية جديدة أخرى. فقد أدت الثورة العلمية إلى ترسيخ الفرضية القائلة بأن المعجزات والتدخل الإلهي المباشر لا يمكن أن يعول عليه في تفسير ظواهر التاريخ و الأسفار المقدسة. فقد اعتنق المؤرخون الأوربيون مقالة الشاعر الروماني هوراس " دع الآلهة لا تتدخل" فما أعطى للتاريخ البشري صورته هو السنن الحاكمة للطبيعة والمجتمع البشري والتي لا تتبدل.
ويضيف المؤلف أن أحد المبادئ الأساسية للمنهجية التاريخية النقدية هو مبدأ التشاكل أو التناظر anology principle والذي ينص على أنه بالرغم من أن الثقافات تتباين بشكل كبير من مكان لآخر ومن حقبة لأخرى إلا أن طريقة عمل المجتمعات الإنسانية بشكل أساسي متجانسة.
ولذا وفق هذا المبدأ يمكننا إعادة بناء الأحداث التي حصلت في اليونان قبل ألف عام مثلا بناءا على فهمنا لكيفية سلوك الأفراد والجماعات في مجتمعاتنا اليوم.
فإذا كان الناس اليوم بشكل عام يعطون الأولوية لمصالحهم ويسعون لتطبيق أجنداتهم الخاصة فقد كانوا يتصرفون على هذا النحو فيما مضى سواءا عصور اليونان القديمة أو عصر المسيح. فلا أحد بشكل واقعي يمكن اعتباراه يمثل استثناءا من تلك الدوافع.
قارن ذلك مع وجهة النظر السنية عن التاريخ التي يمثلها حديث منسوب للنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول فيه " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". فمن منظور نقاد الحديث المسلمين فعصر النبي (صلى الله عليه وسلم) كان خاليا من الشرور، فأصحابه لم يكن بوسعهم تعمد الكذب عليه وبالتأكيد فهم لا نظير لهم.
وبالإضافة إلى مبدأ التشاكل واكتشاف المفارقات للتعرف على الأخبار التي لا تتسم بالصحة فإن المنهجية التاريخية النقدية ترتكز على مبدأ آخر يعرف بمبدأ التباين dissimilarity principle والذي صاغه الباحث في تراث العصور القديمة چاكوب پيريزونيوس والذي ينص على أن الخبر الذي يتنافى مع أو يناقض المعتقد التقليدي يغلب على الظن صحته لأنه من غير الراجح أن يقوم من يقوم بصياغة هذا المعتقد التقليدي أو يتصدى للدفاع عنه باختلاق هذا الخبر. (وهذا يفسر تشبث المستشرقين ومن حذا حذوهم برواية الغرانيق بالرغم من أنها لا تروى بطريق صحيح متصل كما بين ذلك الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه الذي جرده لهذا الغرض)
ثم يضيف المؤلف أنه في دراسة الكتاب المقدس أدى ترابط تلك الأفكار إلى تطوير منهج اصطلح على تسميته نقد الصيغ form criticism في ألمانيا خلال العقود الأولى من القرن العشرين. فقد جمعت هذه المنهجية في النقد ما بين الشك المفترض في سلامة النصوص أوصحتها وثقة الناقد الحداثي في أن صياغة تلك النصوص ليست بمنأى عن تأثير المصالح الدنيوية.
فقد حدد نقاد الصيغ مقاطع أصغر ضمن نصوص الكتاب المقدس تتألف منها الرواية الكلية لتلك النصوص. وكل من هذه المقاطع الجزئية والتي يطلق عليها مصطلح "الصيغ" قد أدى وظيفة محددة في موقف معين في تاريخ الكنيسة المبكر. وكان الغرض الأساسي من خلق تلك الصيغ و ترويجها ليس حفظ تاريخ المسيح ولكن تعزيز وضع الكنيسة.
ثم يختم المؤلف مقدمة الفصل بالقول بأن الفرضيات والأساليب الأساسية ذات الأهمية التي تشكل في مجموعها المنهجية النقدية التاريخية هي كالتالي:
- افتراض الشك في موثوقية وصحة النصوص والأخبار التاريخية.
- الارتياب بشكل عام في الروايات التقليدية الواردة في تلك النصوص والأخبار.
- القناعة بأن تحليل المصادر التاريخية من خلال الوسائل المذكورة آنفا يمكّن الباحث من فرز الصحيح من غير الصحيح عن طريق تحديد أي جزء من النص يخدم أيا من الأجندات التاريخية.
ولقد كان لتطوير المنهجية النقدية التاريخية تبعات فورية ذات تعلق بمسألة الموثوقية الخاصة بالتقليد الإسلامي. فلقد شهد القرن التاسع عشر على وجه الخصوص بدايات دراسة الباحثين البريطانيين والفرنسيين لحياة محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصول الإسلام كجزء من مساعي السيطرة على الشعوب الإسلامية المستعمرة.
أما بالنسبة للدارسين الألمان المتخصيين في مجال الشرق الأدني القديم فقد كانت دراستهم للإسلام نتيجة ثانوية للدراسات المتعلقة بالكتاب المقدس. ففي سياق جهوده لفهم التطور التاريخي للعهد القديم فقد رأى المؤرخ يوليوس فلهاوزن في دراسة الإسلام السبيل الأمثل لمحاكاة السياق السامي semitic context للعهد القديم.
لكن في محاولة هؤلاء الدارسين الألمان لاستكشاف أصول الإسلام ونصوصه المقدسة فقد انخرطوا بوعي، ولو بحسن نية، في عمل ٍ استعلائي أو سعي للهيمنة act of domination. فكما قال أحد الدارسين، فكتاب تيودور نولديكه الشهير الذي صدر عام 1860 عن أصول القرآن يضرب المثل لثقة أوروبا التي حققتها حديثا بتفوق معرفتها بالنصوص والتقاليد الشرقية.
ثم يضيف الكاتب ما يعنينا في هذا السياق هو أن هؤلاء المستشرقين قاموا بتقديم دعوى عريضة مغزاها أن ما ثبت أنه صحيح بخصوص المسيحية والكتاب المقدس فهو كذلك بالنسبة لسائر الأديان والنصوص.
ثم شرع المؤلف في استعراض تلك المدارس الغربية على النحو التالي.. (يتبع)
Bookmarks