النتائج 1 إلى 10 من 10

الموضوع: مناهج الغربيين في الحديث النبوي

  1. افتراضي مناهج الغربيين في الحديث النبوي

    مناهج الغربيين في الحديث النبوي.
    قرأت مؤخرا كتابا للباحث جوناثان براون أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة جورج تاون بعنوان "الحديث النبوي: تراث محمد في العصور الوسطى والعصر الحديث "Hadith: Muhammad's legacy in the medieval and modern world يتحدث فيه عن الحديث النبوي وأشهر المؤلفات فيه، ومصطلح الحديث، وتطبيقاته في مجال الفقه و العقيدة، وكذلك الحديث عند الشيعة. وقد عقد فيه فصلا للحديث عن الاتجاهات الغربية في الأحاديث النبوية وكتب الآثار وتصور كل اتجاه منها بدءا بمدرسة الاستشراق orientalist school التي يمثلها جماعة من المستشرقين على رأسهم " إجناس جولدتسيهر" و "جوزيف شاخت" مرورا باتجاه التنقيحيين أو المراجعين revisionist من أمثال جون وانسبرو و باتريشيا كرونه، وهم أكثر تطرفا في آرائهم من اتجاه الاستشراق، انتهاءا بمدرسة إعادة التقييم western revaluation وعلى رأسهم "هارلد موتزكي"، والذي يرى المؤلف أن رؤيتهم للأحاديث النبوية أقرب ما يكون لرؤية نقاد وعلماء الحديث المسلمين.

    وقبل استعراض أفكار هذا الفصل من الكتاب أنوه إلى أن ما بين قوسين فيما يلي هو من كلامي إلا في موضع واحد.

    في بداية الفصل أشار المؤلف إلى أن أساليب النقد التاريخي في الغرب لها تقاليدها traditions الخاصة بها القائمة على جملة من الفرضيات كما هو الحال بالنسبة لأساليب النقد لدى علماء الحديث المسلمين أو المحدِّثين.

    وينبه على أن ما ينبغي التسليم به - جدلاً - قبل الشروع في مزيد من النقاش هو أن كون الكتاب لا يفترض أن الله يتدخل في شئون البشر، أو أن محمد (صلى الله عليه وسلم) نبي، أو أن الأحاديث بوجه عام صحيحة، يعني أن الكتاب يفترض أن الله لا يتدخل بشكل مباشر في شئون البشر، وأن محمد (صلى الله عليه وسلم) مجرد بشر، وأن هنالك شكوك حقيقة حول الموثوقية التاريخية historical authenticity لمتون الحديث.

    فقليل من القراء الغربيين للكتاب سيقبل الطرح القائل بأن الأحاديث هي تسجيل دقيق لكلام محمد (صلى الله عليه وسلم) بناءا على أن الله لا يمكن أن يترك دينه الذي ارتضاه دون أن يتكفل بحفظه (وهو تفسير إسلامي نموذجي). فلك أن تتخيل أن النقاش الدائر عن الأحاديث في الغرب يختلف بدرجة كبيرة عن نظيره لدى المسلمين.

    فهذا الفصل من الكتاب يتناول البحث الغربي الأكاديمي للتاريخ الإسلامي المبكر ونقده الجذري للتراث السني.

    "مسألة الموثوقية" authenticity question، كما يدعو المؤلف قراءه للاصطلاح على تسميتها في غضون تناوله لهذا الفصل من الكتاب، يرى المؤلف أنها تنطوي على مسألتين يجب أن نضعهما نصب أعيننا، أولاهما: أن البحث النقدي الغربي للأحاديث وطرق المحدِّثين لفزر صحيح الأحاديث من سقيمها يمكن النظر إليه كوسيلة تعين على تطوير فهمنا أو استيعابنا لأصول الإسلام، وجزء لا يتجزأ من مساعي الإنسانية بشكل عام لتوسيع أفق المعرفة في كافة المجالات. وثانيهما: أنه على الرغم من ذلك، يمكن النظر للبحوث النقدية الغربية للأحاديث على أنها عمل استعلائي تحاول من خلالها رؤية (وهي الرؤية الغريية ) أن تفرض نفسها على أخرى (وهي نظيرتها الإسلامية) عن طريق إملاء المعايير التي تتحقق بها المعرفة وتثبت بها الحقائق.

    ومن هذا المنظور، يضيف المؤلف، لنا أن نتسائل لماذا ما سلطه الباحثون الغربيون من ضوء على الأحاديث هو بالضرورة أكثر قيمة لأجل تقدم "الفهم أو الاستيعاب البشري" مما قدمه التقليد الإسلامي بالفعل؟

    وكما بيَّن أمثال "إدوارد سعيد" "فالمعرفة قوة"، و القيام بدارسة أمر من الأمور هو سعي للسيطرة عليه. فلم يكن من قبيل الصدفة أن أربعة من جملة خمسة مسالك سلكتها الدراسات الغربية عن العالم الإسلامي هي بالأساس نابعة من المصالح والاهتمامات الاستعمارية والدبلوماسية الأوروبية (على سبيل المثال الدراسات الفرنسية للفقه والثقافة الإسلامية في مستعمرات شمال أفريقيا، ونظيرتها الهولندية في جنوب شرق آسيا، والدراسات البريطانية للثقافة الفارسية الإسلامية في الهند إلخ ..)

    والمسلك الخامس والذي ثبت أنه ذو أهمية قصوى للموضوع الذي يتناوله هذا الفصل من الكتاب هو الدراسات السامية semitic studies النابعة بدورها من الدراسات الكتابية biblical studies (التي تخص الكتاب المقدس). فالدراسات الغربية حول الحديث - يضيف المؤلف - إذاً لا تتسم بالحيادية وآثارها تتجاوز أغراض البحث الأكاديمي. فالدبلوماسيون الغربيون في نهاية القرن التاسع عشر خططوا لترويج نسخة "تقدمية" من الإسلام بين الشعوب التي استعمروها كما فعل لاحقا خلفاؤهم الأمريكون في القرن الحادي والعشرين. ويصف المؤلف كيف أن الصحافة الغربية صفقت لخبر عن نية الحكومة التركية عام 2008 للمضي في مشروع مراجعة جذرية للأحاديث وهو ما اتضح لاحقا أنه مجرد شائعة!

    فمسألة الموثوقية هي جزء من نقاش أشمل أو جدل أوسع عن ميزان القوى power dynamic بين الدين والحداثة أو الإسلام والغرب.

    وبديلا عن مقاربة مسألة الموثوقية من منطلق أن الرؤية التقليدية الإسلامية المتعلقة بالحديث خاطئة وأن البحث الأكاديمي الغربي أيقظها من سبات ظلت فيه لألف عام ويقودها تدريجيا نحو الأمام. يطرح المؤلف نهجا أو مقاربة approach، يراها أكثر دقة، مفادها أن متون الحديث hadith corpus هائلة وأن محاولات الغربيين لتقييم موثوقيتها بالضرورة تقتصر على عينات محدوة ما يجعل أي توجه حيال موثقيتها مبناه بشكل أكبر على رؤيتهم النقدية من كونه على حقيقة تجريبية. لأنه في نهاية المطاف – يضيف المؤلف – بناءا على أسس تجريبية لا يمكن معرفة إذا ما كان محمد (صلى الله عليه وسلم) نبيا أم شخصية صنعها التاريخ أو أن الله تكفل بحفظ كلامه للأجيال القادمة أم لا.

    ويضيف المؤلف أنه لن ينظر لمسألة الموثوقية من منظار أنها سؤال يمكن الجواب عليه بنعم أو لا. وبديلا عن ذلك سينظر في جملة الفرضيات التي تبنتها المدارس الفكرية المختلفة وكيفية بنائها على تلك الفرضيات. وكذلك سينظر في تفاعل تلك المدارس الفكرية مع بعضها البعض وكيف أن جملة الفرضيات الخاصة بإحداها تلقي بظلال من الشك على جملة الفرضيات الخاصة بأخرى.

    بعد ذلك ينتقل المؤلف للحديث عن نهج الباحثين الغربيين ويقتبس من المؤرخ المعروف بـ "اللورد أكتون" قوله أن المؤرخ الحداثي modern historian لا يجب أن يفترض حسن النوايا. وأن رد الفعل المبدئي تجاه أي رواية ذات طابع تاريخي هو الشك فيها.

    ثم شرع في الحديث عن منهج الدراسة الغربية الحديثة للتاريخ والتي عادة ما يشار إليها بالمنهجية النقدية التاريخية historical critical method HCM، وأنها مقاربة للماضي نابعة من المنهج الإنساني المرتبط بعصر النهضة الأوروبية renaissance humanism والمقاربة النقدية للمصادر التاريخية والدينية والتي تطورت لاحقا في ألمانيا في القرنين الثامن والتاسع عشر.

    فتبني نظرة نقدية تجاه الماضي يعني ألا نقبل بما تخبر به المصادر التاريخية دون تمحيص بل نقوم بفحص تلك المصادر ونحاول التحقق من موثوقيتها استنادا إلى جملة من الفرضيات عن الكيفية التي تعمل بها المجتمعات الإنسانية. وترجع أصول النظرة النقدية التاريخية باختصار إلى ثلاثة أمور ألا وهي: إعادة اكتشاف التراث الإغريقي والروماني القديم، وعصر الاستكشاف خاصة اكتشاف العالم الجديد، والإصلاح البروتستاني.

    فإعادة اكتشاف التراث القديم منح الدارسين الأوروبيين إحساسا بالفجوة التاريخية historical distance التي تفصلهم عن الماضي. وكشفت عن التغيرات التاريخية التي أحدتثها نصوص طالما وُضعت موضع التبجيل كالكتاب المقدس. وفي نفس الوقت فقد أكدت على عدم تغير الطبيعة البشرية. وهي وسيلة أساسية للكيفية التي يوثق بها الدارسون الغربيون الأخبار المتعلقة بالماضي. فلقد أبدى المؤرخون الأغريق والرومان تشككا شاملا لم تستطع العقلية الأوروبية أن تقاومه، وقدمت المؤرخ النموذجي على أنه محلل يتسم بالموضوعية detached analyst في مقابل الأخباري المسيحي christian chronicler.

    وفي نفس الوقت فقد أدى اكتشاف الأمريكتين إلى تغيير خريطة العالم المستمدة من علم الأنساب biblical genealogy والجغرافيا الكتابية. كما أدى الإصلاح البروتستانتي إلى تقويض احتكار الكنيسة لتفسير الكتاب المقدس وهو ما نجم عنه في نهاية المطاف تصور عن الكتاب المقدس على أنه منتج تاريخي historical product متقيد بسياقه، لا أنه ينبوع للحقيقة المطلقة لا تشوبه أخطاء وغير متقيد بزمان.

    ولم يكن الإحساس بالفجوة التاريخية أوضح في جانب من الجوانب كوضوحه في اللغة اللاتينية.

    فالمذهب الإنساني المرتبط بعصر النهضة هو في مبدئه إدراك لحجم التباين بين لاتينية الكنيسة في العصور الوسطى ولاتينية كاتب روماني كشيشرون cicero على سبيل المثال. وقد أدى هذا الافتتان باستعادة اللغة اللاتينية في صورتها النقية كما كان يتحدث بها الرومان القدماء بأحد فقهاء اللغة وهو لورنزو فالا lorenzo valla إلى إدراك كيف أن كثيرا من الكلمات أصبحت تؤدى معنى غير الذي كانت تعنيه في الأصل.

    وفي خلال فحصه لإحدى الوثائق المنسوبة للإمبراطور قسطنطين والتي من المفترض أنه يمنح فيها للبابا حق التصرف في بعض الأراضي في الغرب، أوضح أن وجود بعض المفارقات اللغوية linguistic anachronisms كذكر مصطلح الإقطاعات fiefs أو منح الأراضي land grants (أي أشياء خارج سياقها الزماني والمكاني ويذكر المؤلف مثالا على ذلك برسالة منسوبة للمسيح مثلا يرد فيها ذكر الهواتف الذكية) يدل على أن تلك الوثيقة هي نتاج عملية تزوير أو وضع لاحقة. ويشير المؤلف إلى أن التعرف على وجود المفارقات هو أحد أعمدة المنهج التاريخي النقدي.

    وقد قام أحد خلفاء لورنزو في مجال فقه اللغة philology وهو الفيلسوف واللاهوتي الكاثوليكي إرازموس erasmus باستنساخ تجربة لورنزوا لكن في مجال اللغة الإغريقية. حيث كرّس جهوده في انتاج نسخ دقيقة وموثوقة من النصوص الإغريقية القديمة وذلك من خلال الاستعانة بأقدم المخطوطات المتاحة لتلك النصوص ومن ثم قام بتنقية تلك النصوص من كل ما طرأ عليها من أخطاء النساخ أو سوء فهم أو إضافات زيدت عليها لاحقا. وعندما قام بإنتاج نسخة جديدة من النص اليوناني الأصلى للعهد الجديد اكتشف وجود فقرة لطالما كنت جزءا من النسخة اللاتينية من العهد الجديد وتستخدم كدليل قاطع على عقيدة الثالوث لم يكن لها وجود في الأصل اليوناني وتمت إضافتها لاحقا. (هذه إشارة إلى رسالة يوحنا الأولى الإصحاح 5 الفقرات 7- 8 وهي لم ترد سوى في أربعة مخطوطات يونانية وكلها متأخرة ترجع للقرن الرابع عشر- انظر حاشية الإصحاح في النسخة الدولية الحديثة NIV).

    لقد عاصر إرازموس أحداثا جساما كاكتشاف الأمريكتين والتغيرات الدينية الكبرى. فقد أضيف لخريطة العالم في حياته قارتان. ولم يقتصر الأمر على أنه لم يتنبأ أحد في الماضي بوجودهما بل إن قاطنيهما ليس لهم مكان في علم الأنساب الكتابي.

    بالإضافة إلى ما تقدم - أشار المؤلف - قام اللاهوتي البروتستانتي إسحاق دي لابيريري Isaac de la Peyrère بطرح تصور أن الكتاب المقدس يتسم بالمحلية لا العالمية، فآدم لم يكن أول البشر بل مجرد سلف لقبيلة ضمن قبائل كثيرة استنادا إلى أن قابيل لما أقدم على قتل أخيه استطاع الفرار ومن ثم قام بالزواج في موطن آخر (التكوين 4 : 16). وقد أفسح الإصلاح البروتستانتي المجال للتأمل الفلسفي في المناطق التي هيمنت فيها البروتستانتية كإنجلترا و هولندا. وقد أدى إعادة إحياء الفلسفة أو تصور أن الحقائق الماورائية يمكن إدراكها بالعقل وحده إلى ازدهار اتجاه أو حركة الربوبية Deism في إنجلترا في القرن السابع عشر. وفي تناغمٍ مع الشعور بالإزدراء تجاه منصب البابوية واكتشاف الدور البشري في إعطاء الأسفار المقدسة الشكل التي هي عليه، فقد طرح الربوبيون من أمثال جون تولاند john toland فكرة أن المسيحية كانت في الأصل ديانة عقلانية محضة لكن الكنيسة أفسدتها بخلطها بالأساطير الرومانية.

    ويشير المؤلف إلى أنه قد أدت دراسات العهد الجديد بالدارسين الألمان إلى استنتاج مفاده أن مؤلفي أناجيل متى ولوقا كونهم بعيدين عن أن يكونوا شهود عيان على حياة المسيح فقد كتبوا نسخهم من الأناجيل استنادا إلى إنجيل مرقس.

    ويضيف المؤلف أن أحد المبادىء الحاسمة للمنهجية التاريخية النقدية هو القول بأن مؤسسي الأديان ليسوا مسئولين عن تعاليم تلك الأديان في صيغتها التقليدية اللاحقة. وقد ظهرت هذه الفكرة في ملاحظة فولتير أن آباء الكنيسة الأوائل كانوا يعتمدون على أناجيل غير قانونية. non-canonical

    لكن هذا التصور تبلور في أطروحات عالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر والذى قدم أطروحة مفادها أن الصيغة الرسمية أو المعتقد التقليدي orthodoxy للأديان شكلته الأجيال اللاحقة في إطار عملية لإضفاء الطابع المؤسسي institutionalize على النفوذ الديني religious authority الخاص بالشخصية الكاريزمية المؤسِّسة للدين. charismatic religion’s founder

    قارن هذا مع التصور السني عن دور علماء الحديث الذي ينحصر في حفظ تعاليم النبي (صلى الله عليه وسلم) الأصلية وتنقيحها من الأكاذيب.

    لقد كانت إحدى الفرضيات التي فرضتها تلك المدرسة التاريخية الألمانية في دراسة أي نص هي الشك في صحته ومحاولة تحديد مدى موثوقيه. أو بعبارة أخرى الأصل عندهم هو الشك في صحة المتون المنقولة من الماضي. وما يعنيه ذلك أنهم كما يتضح من نقدهم للسلامة النصية لملاحم هوميروس أو الصحة التاريخية للأسفار المقدسة فهم على استعداد أن ينخرطوا في شكوك جوهرية تتعلق بأسس التاريخ الغربي والدين استنادا لما يعتبرونه مفارقات أو تباين في الأسلوب يعتري النصوص. وفضلا عن الشك ابتداء في صحة النصوص والقول بأن الصيغة التقليدية للأديان هي صياغة بشرية فقد ارتكزت المنهجية التاريخية النقدية على أسس منهجية ثورية جديدة أخرى. فقد أدت الثورة العلمية إلى ترسيخ الفرضية القائلة بأن المعجزات والتدخل الإلهي المباشر لا يمكن أن يعول عليه في تفسير ظواهر التاريخ و الأسفار المقدسة. فقد اعتنق المؤرخون الأوربيون مقالة الشاعر الروماني هوراس " دع الآلهة لا تتدخل" فما أعطى للتاريخ البشري صورته هو السنن الحاكمة للطبيعة والمجتمع البشري والتي لا تتبدل.

    ويضيف المؤلف أن أحد المبادئ الأساسية للمنهجية التاريخية النقدية هو مبدأ التشاكل أو التناظر anology principle والذي ينص على أنه بالرغم من أن الثقافات تتباين بشكل كبير من مكان لآخر ومن حقبة لأخرى إلا أن طريقة عمل المجتمعات الإنسانية بشكل أساسي متجانسة.

    ولذا وفق هذا المبدأ يمكننا إعادة بناء الأحداث التي حصلت في اليونان قبل ألف عام مثلا بناءا على فهمنا لكيفية سلوك الأفراد والجماعات في مجتمعاتنا اليوم.

    فإذا كان الناس اليوم بشكل عام يعطون الأولوية لمصالحهم ويسعون لتطبيق أجنداتهم الخاصة فقد كانوا يتصرفون على هذا النحو فيما مضى سواءا عصور اليونان القديمة أو عصر المسيح. فلا أحد بشكل واقعي يمكن اعتباراه يمثل استثناءا من تلك الدوافع.

    قارن ذلك مع وجهة النظر السنية عن التاريخ التي يمثلها حديث منسوب للنبي (صلى الله عليه وسلم) يقول فيه " خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم". فمن منظور نقاد الحديث المسلمين فعصر النبي (صلى الله عليه وسلم) كان خاليا من الشرور، فأصحابه لم يكن بوسعهم تعمد الكذب عليه وبالتأكيد فهم لا نظير لهم.

    وبالإضافة إلى مبدأ التشاكل واكتشاف المفارقات للتعرف على الأخبار التي لا تتسم بالصحة فإن المنهجية التاريخية النقدية ترتكز على مبدأ آخر يعرف بمبدأ التباين dissimilarity principle والذي صاغه الباحث في تراث العصور القديمة چاكوب پيريزونيوس والذي ينص على أن الخبر الذي يتنافى مع أو يناقض المعتقد التقليدي يغلب على الظن صحته لأنه من غير الراجح أن يقوم من يقوم بصياغة هذا المعتقد التقليدي أو يتصدى للدفاع عنه باختلاق هذا الخبر. (وهذا يفسر تشبث المستشرقين ومن حذا حذوهم برواية الغرانيق بالرغم من أنها لا تروى بطريق صحيح متصل كما بين ذلك الشيخ الألباني رحمه الله في كتابه الذي جرده لهذا الغرض)

    ثم يضيف المؤلف أنه في دراسة الكتاب المقدس أدى ترابط تلك الأفكار إلى تطوير منهج اصطلح على تسميته نقد الصيغ form criticism في ألمانيا خلال العقود الأولى من القرن العشرين. فقد جمعت هذه المنهجية في النقد ما بين الشك المفترض في سلامة النصوص أوصحتها وثقة الناقد الحداثي في أن صياغة تلك النصوص ليست بمنأى عن تأثير المصالح الدنيوية.

    فقد حدد نقاد الصيغ مقاطع أصغر ضمن نصوص الكتاب المقدس تتألف منها الرواية الكلية لتلك النصوص. وكل من هذه المقاطع الجزئية والتي يطلق عليها مصطلح "الصيغ" قد أدى وظيفة محددة في موقف معين في تاريخ الكنيسة المبكر. وكان الغرض الأساسي من خلق تلك الصيغ و ترويجها ليس حفظ تاريخ المسيح ولكن تعزيز وضع الكنيسة.

    ثم يختم المؤلف مقدمة الفصل بالقول بأن الفرضيات والأساليب الأساسية ذات الأهمية التي تشكل في مجموعها المنهجية النقدية التاريخية هي كالتالي:

    - افتراض الشك في موثوقية وصحة النصوص والأخبار التاريخية.

    - الارتياب بشكل عام في الروايات التقليدية الواردة في تلك النصوص والأخبار.

    - القناعة بأن تحليل المصادر التاريخية من خلال الوسائل المذكورة آنفا يمكّن الباحث من فرز الصحيح من غير الصحيح عن طريق تحديد أي جزء من النص يخدم أيا من الأجندات التاريخية.

    ولقد كان لتطوير المنهجية النقدية التاريخية تبعات فورية ذات تعلق بمسألة الموثوقية الخاصة بالتقليد الإسلامي. فلقد شهد القرن التاسع عشر على وجه الخصوص بدايات دراسة الباحثين البريطانيين والفرنسيين لحياة محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصول الإسلام كجزء من مساعي السيطرة على الشعوب الإسلامية المستعمرة.

    أما بالنسبة للدارسين الألمان المتخصيين في مجال الشرق الأدني القديم فقد كانت دراستهم للإسلام نتيجة ثانوية للدراسات المتعلقة بالكتاب المقدس. ففي سياق جهوده لفهم التطور التاريخي للعهد القديم فقد رأى المؤرخ يوليوس فلهاوزن في دراسة الإسلام السبيل الأمثل لمحاكاة السياق السامي semitic context للعهد القديم.

    لكن في محاولة هؤلاء الدارسين الألمان لاستكشاف أصول الإسلام ونصوصه المقدسة فقد انخرطوا بوعي، ولو بحسن نية، في عمل ٍ استعلائي أو سعي للهيمنة act of domination. فكما قال أحد الدارسين، فكتاب تيودور نولديكه الشهير الذي صدر عام 1860 عن أصول القرآن يضرب المثل لثقة أوروبا التي حققتها حديثا بتفوق معرفتها بالنصوص والتقاليد الشرقية.

    ثم يضيف الكاتب ما يعنينا في هذا السياق هو أن هؤلاء المستشرقين قاموا بتقديم دعوى عريضة مغزاها أن ما ثبت أنه صحيح بخصوص المسيحية والكتاب المقدس فهو كذلك بالنسبة لسائر الأديان والنصوص.

    ثم شرع المؤلف في استعراض تلك المدارس الغربية على النحو التالي.. (يتبع)

  2. افتراضي

    ثم ينتقل المؤلف للحديث عن مراحل النقد الغربي للتاريخ الإسلامي المبكر. فعلى عكس المسلمين ، الذين طوروا علمًا متميزًا ومستقلًا للحديث، درس الباحثون الغربيون الأحاديث كجزء من تحقيق أوسع في التاريخ الإسلامي المبكر وأصول الدين. ويمكننا تقسيم هذه الدراسات إلى ثلاثة مجالات عامة ، تتطرق جميعها إلى موثوقية متون الحديث: التاريخ السياسي والطائفي الإسلامي المبكر، وأصول القرآن، وأصول الشريعة الإسلامية.
    وفي الدراسة الغربية للإسلام المبكر ومسألة الموثوقية يمكننا أن نميز أربع مراحل متباينة مرتبة ترتيبًا زمنيًا أو موضوعيًا:
    - النهج الاستشراقي: وهو باكورة تطبيق المنهج النقدي التاريخي على التاريخ الإسلامي المبكر، والذي يتحدى العديد من سمات الرواية الفقهية والتاريخية الإسلامية التقليدية ولكنه يقبل هيكلها العام.

    - النهج الاعتذاري الفلسفي الإسلامي: وهو الحجج التي طرحها بعض الباحثين من غير المسلمين والمسلمين الذين تلقوا تعليما في الغرب ردًا على نقد المستشرقين للأحاديث النبوية.

    - النهج التنقيحي أو نهج المراجعين: ابتداءً من أواخر السبعينيات، طبق هذا النهج الفرضيات النقدية للنهج الاستشراقي على نحو أكثر تطرفا وجذرية وشكك في الخطوط العامة للتاريخ الإسلامي المبكر ، وأصول القرآن والشريعة الإسلامية.

    - نهج إعادة التقييم الغربي: منذ ثمانينيات القرن الماضي، رفض هذا النهج التطرف في النهج التنقيحي بينما استمر في نقد الحقبة الإسلامية المبكرة وفقًا للمنهج النقدي التاريخي. ومع ذلك ، فإن نبذ الشك الراديكالي أو الجذري الذي يتسم به نهج المراجعين revisionist approach قد دفع بعض الدارسين الغربيين إلى إدراك أن المنهج الاستشراقي يتضمن بعض الفرضيات التي هي محل نظر، وأيضًا أن التقليد الإسلامي المتعلق بالأحاديث أكثر تعقيدًا مما كان يُعتقد سابقًا.

    ثم ينتقل المؤلف للحديث عن نهج الاستشراق مشيرا إلى أن الكاتب الإسكتلندي "ويليام موير" كان من أوائل الكتاب الغربيين الذين شككوا في صحة متون الأحاديث كمصدر لحياة محمد (صلى الله عليه وسلم) وأفعاله ، والذي عمل كمسئول استعماري ومعلم في الهند البريطانية. في كتابه "حياة محمد" يرفض موير متون الحديث باعتبارها متحيزة بشكل واضح وغير موثوقٍ بها. لقد روجت الأحاديث فقط في زعمه لتمجيد المسلمين لمحمد(صلى الله عليه وسلم)، وكذلك روجت للطموحات السياسية والطائفية والعلمية للمجتمع الإسلامي المبكر.
    وعلى الرغم من أن موير شعر بأن "النقاد الأوروبيين" يجب أن يطرحوا جانبا ما لا يقل عن نصف الأحاديث الواردة في صحيح البخاري ، إلا أن موير يقر بأن بعض الأحاديث يمكن اعتبارها صحيحة. ويشمل ذلك الأحاديث التي تتناول مسائل تنسجم بشكل عام مع محتواها روايات مستقلة، بالإضافة إلى الأحاديث التي تظهر النبي (صلى الله عليه وسلم) في صورة سلبية أو غير مرغوبة (مثال على إعمال مبدأ التباين). كما أشار إلى أن النقد التقليدي للأحاديث كان عديم الفائدة لأنه ركز فقط على الإسناد في زعمه وليس محتوى الأحاديث. ويضيف المؤلف أنه على الرغم من أننا، مع موير، نرى إعمالا للمنهجية التاريخية النقدية على نصوص الحديث، إلا أن المجري إجناس جولدتسيهر هو الذي طبق تلك المنهجية على نطاق أوسع وبشكل أكثر رصانة من الناحية الأكاديمية.
    متمسكا بوفائه لمدرسة التاريخ الألمانية، تعامل جولدتسيهر مع المصادر النصية للتاريخ والفكر الإسلامي المبكر "بتشكك حذر". فحقيقة أنه لم يكن هناك توثيق تاريخي لحياة النبي(صلى الله عليه وسلم) مدون في عصره ، وأن الروايات المتعلقة به كانت تنقل من خلال وسيلة مرنة للغاية وهي التقليد الشفوي، يعني أنه لا يمكن اعتبار الأحاديث دليلاً وثائقيا. فقد كانت تلك الأحاديث عرضة بشكل جلي للتلفيق والتلاعب.
    مثل لورنزو فالا وعلماء الكتاب المقدس الألمان، فإن الأدوات الحاسمة التي وظفها جولدتسيهر لفرز الروايات الصحيحة من الكاذبة عن النبي (صلى الله عليه وسلم)كانت المفارقات التاريخية ومبدأ التشاكل. فالأحاديث التي بدت وكأنها تعالج النزاعات والمخاوف التي ظهرت فقط بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وسلم) لا بد أنها دعاية من صنع الأطراف المتورطة في هذه النزاعات، وليست كلمات النبي(صلى الله عليه وسلم) الفعلية.
    ونتيجة لذلك ، فإن محتوى العديد من الأحاديث لا يثبت فقط أنها ملفقة ، ولكنه أيضا يمكن المؤرخ من تحديد من قام بتلفيقها ومتى. فبالنسبة لجولدتسيهر فالأحاديث لا تقوم بتوثيق تركة النبي الحقيقية (صلى الله عليه وسلم) بل تمثل انعكاسًا مباشرًا لتطلعات المجتمع الإسلامي.
    ويرى جولدتسيهر أن سطوة النبي(صلى الله عليه وسلم) أو حجيته كانت تستهوي المسلمين وملزمة لهم في ذات الوقت. وخلص إلى أن التدوين المحدود للأحاديث كان عملية مبكرة جدًا، لكن نفس سطوة التأسي بسابقة النبي (صلى الله عليه وسلم) تعني أن المسلمين سرعان ما وجدوا أن التلاعب بالأحاديث لأغراضهم الخاصة أمرا لا يقاوم.
    كانت حقيقة أن النبي يمكنه التنبؤ بأحداث مستقبلية بمثابة رخصة بتوظيف المفارقات بواسطة واضعي الأحاديث الأوائل. فالأحداث التي تتكشف في المجتمع الإسلامي الناشئ يمكن وصفها أو "الحكم عليها" من خلال عزو الأقوال إلى النبي(صلى الله عليه وسلم)، والذي قد أطلعه الله عليها.
    لقد رسم جولدتسيهر أربع مراحل ودوافع لوضع الأحاديث من قبل المسلمين خلال الثلاثمائة عام الأولى من تاريخ الإسلام: الأجندات السياسية، والأجندات الفقهية، والأجندات الطائفية، والأجندات الاجتماعية / التاريخية. بالنسبة لجولدتسيهر ، كان الدافع الأصلي والأكثر فاعلية لوضع الأحاديث هو السياسة. على وجه التحديد، فقد جادل جولدتسيهر بأن العديد من الأحاديث وطبيعة تقليد الحديث المبكر ككل لا تدع مجالًا للشك في أن الأسرة الأموية اتبعت برنامجًا للدعاية السياسية لعب فيه تلفيق الأحاديث دورًا مهمًا.
    على عكس المجتمع المسلم في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) وأهل المدينة الأتقياء بعد وفاته، في رأي جولدتسيهر ، كان الحكم الأموي من سوريا علمانيا بالكامل دون أي شرعية إسلامية متأصلة.
    فهكذا رتب الأمويون، من وجهة نظر جولدتسيهر، لوضع الأحاديث التي تضفي الشرعية على حكمهم وممارساتهم السياسية. يجادل جولدتسيهر، على سبيل المثال، بأنه في خلال الحرب الأهلية أو الفتنة الثانية ، عندما كان خصم الأمويين عبد الله بن الزبير مسيطراً على مكة وطرق الحج، روج الأمويون حديثاً يحث المسلمين على ألا يشدوا الرحال [بعبارة أخرى الزيارة] إلا لثلاثة مساجد ، المسجد الحرام في مكة والمسجد النبوي بالمدينة المنورة والمسجد الأقصى بالقدس.
    ويستنتج جولدتسيهر أن هذا الحديث كان محاولة لإنشاء موضع حج سنوي بديل في الأراضي التي يسيطر عليها الأمويون في فلسطين . وعندما أراد الخلفاء الأمويون الظهور بمظهر أكثر جلالة أمام المصلين من خلال إلقاء الخطب أثناء جلوسهم في صلاة الجمعة، قام الموالين للأسرة الأموية بوضع حديث أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يلقي خطبه جالسا.
    ويجادل جولدتسيهر بأن الأمويين كانوا قادرين على صياغة وترويج تلك الأحاديث بنجاح، لأنهم رعوا بشكل عام العملية المبكرة لجمع الأحاديث. يشير جولدتسيهر إلى أن الزهري (محمد بن شهاب الزهري)، الذي كان له دور محوري مبكر في جمع الأحاديث النبوية في الحجاز وسوريا، شغل منصب المعلم للأمراء الأمويين وقاضٍ للدولة. حتى أنه كان يرتدي زي الجيش الأموي. وبالتالي ، لا يجد جولدتسيهر مفاجأة في ظهور الزهري في إسناد الحديث المذكور آنفا في شأن المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال.
    ويشير إلى أن العديد من أساتذة الحديث الأوائل ، مثل الشعبي الحِمْيَرِيّ (عامر الشعبي) ، كانوا مرتبطين أيضًا بالبلاط الأموي. ويفترض أن دراسة الأحاديث على نطاق واسع حدثت إلى حد بعيد نتيجة لاهتمام الأمويين بالدعاية السياسية.
    ومثلما أدت الاعتبارات السياسية إلى تلفيق الأحاديث في العصر الأموي فعلى هذا كان الحال في العصر العباسي.
    وعلى عكس الأمويين "العلمانيين" ، فقد بُنيت الدولة العباسية على دعوة دينية: عودة الحكم إلى آل بيت النبي والاحتكام للقرآن والسنة. وجادل جولدتسيهر بأنه تحت الحكم الأموي لم يكن لدى المسلمين الذين أقاموا بالبلدان التي تم غزوها حديثا سوى القليل من المعرفة بالطقوس والتفاصيل الفقهية لدينهم.
    في ظل الرعاية العباسية، كان على علماء الدين الأتقياء الذين أُسكتت أصواتهم خلال العصر الأموي تقديم رؤية فقهية وعقائدية ومجتمعية شاملة للإمبراطورية الإسلامية الجديدة. في عهد العباسيين ، أصبح يُنظر إلى السنة النبوية على أنها المعيار لجميع مناحي الحياة، وبدأ استخدام الأحاديث في القضايا الفقهية.
    ونظرًا لأن القرآن يحتوي على القليل جدًا من المادة التشريعية ، فقد اضطر هؤلاء العلماء المسلمون إلى اللجوء إلى وسائل أخرى لبناء الشريعة الإسلامية. فتحول أنصار العقل (أهل الرأي) إلى إرث القانون الإقليمي الروماني حيث، على سبيل المثال، يدعي جولدتسيهر أن المسلمين اقتبسوا فكرة أن المتهم في قضية ما قد يبرئ نفسه من التهم من خلال القسم. أما أنصار الحديث (أهل الحديث)، فإن الطريق الذي سلكوه كان أقل نزاهة، فقد اختلقوا أحاديث بالجملة تتعلق بقضايا الفقه والعقيدة الإسلامية لأجل توفير المادة الخام اللازمة لذلك الغرض. ويخلص إلى أنه مع دعم العباسيين لمثل هذه الأنشطة، "يمكن تخيل مدى ازدهار اختلاق الأحاديث في ظل هذه الظروف". و بالإضافة إلى وضع عدد كبير من الأحاديث، يدعي جولدتسيهر أن أنصار الحديث في العصر العباسي أيضًا اختلقوا بشكل كلي منظومة نقد الأحاديث كأداة لدحض أي حديث قد يستخدمه خصومهم ضدهم في الجدالات.
    وعلى غرار الأمويين، قام العباسيون وأنصارهم أيضًا بتزوير الأحاديث لإضفاء الشرعية على حكمهم. ففيما يتعلق بالحديث الذي أعطى فيه النبي غنائم الحرب لعشيرته، بني هاشم، الذين انتسب إليهم العباسيون، بينما لم يمنح شيئًا لبني عبد شمس، عشيرة الأمويين ، يلاحظ جولدتسيهر أنه من الجلي أن هذا الحديث يهدف إلى خلع الشرعية على السلالة العباسية.
    ويؤكد أنه خلال الفترة الإسلامية المبكرة ، قام المسلمون الأتقياء أيضًا بوضع أحاديث سمحت لهم بفهم الاضطرابات والصراعات التي تعصف بمجتمعهم. ولهذا نجد الحديث الذي يقول فيه النبي إن خير الأجيال أو القرون هو قرنه وأن الأجيال اللاحقة ستنحرف أكثر فأكثر عما كان عليه الأمر في عصره الذهبي. ونفس هؤلاء العلماء الورعين اختلقوا أحاديث تساعد على إشاعة جو من الهدوء السياسي – وهو مسعى لا شك مدعوم من قبل الحكومة – كحديث: إنَّ السَّعيدَ لمن جُنِّبَ الفتنَ.
    أصبح وضع الأحاديث وسيلة لعلماء الدين لرواية مجرى تاريخ الإسلام، وكذلك للتنبؤ بمستقبله من خلال كلام يروى على لسان النبي. يقول جولدتسيهر أن أنصار الحديث "لا يكبحون أنفسهم على الإطلاق عندما يضعون على لسان النبي روايات يتحدث فيها عن النشأة العامة للإمبراطورية الإسلامية".
    ومن هنا نجد أحاديث تصف كيف شاهد النبي أثناء حفره الخندق حول المدينة رؤى للقلاع البعيدة في سوريا وبلاد فارس التي سيغزوها المسلمون.
    وبطبيعة الحال، أشار جولدتسيهر إلى أن الصراعات الطائفية أدت أيضًا إلى وضع أعداد كبيرة من الأحاديث النبوية. فالشيعة الحريصون على إثبات مطالبة علي بالزعامة زوروا حديث "غدير خم" ، الذي يُعلن فيه النبي لأصحابه " من كنت مولاه فعلي مولا" (رواه الترمذي وابن ماجة وقال ابن تيمية رحمه الله: وأما قوله من كنت مولاه فعلي مولاه فليس هو في الصحاح لكن هو مما رواه العلماء وتنازع الناس في صحته. وقد صححه الشيخ الألباني) ورد السنة بوضع نظائر لمثل هذه الأحاديث التي تظهر أبو بكر أو عمر بدلاً من علي ، أو تداولوا روايات تؤكد أن النبي لم يوصي على الإطلاق بتعيين خليفة له.
    ثم يضيف المؤلف أنه نظرًا لأن إساهمات جولدتسيهر توفر الأساس للانتقادات الغربية اللاحقة للأحاديث، يجب أن نتوقف قليلاً لفحص بعض فرضياته. كما رأينا مع المدرسة الألمانية للنقد التاريخي، فقد احتفظ جولدتسيهر بموقف من الشك الواضح تجاه الروايات التقليدية للتاريخ الإسلامي. فهو لم يتشكل وفقا لمشيئة الله (في زعمه) ولا محصن من الدوافع الدنيوية التي تؤثر في سلوك البشر في كل مكان.
    لم يكن المجتمع المسلم المبكر نظامًا سياسيًا مستقيماً أخلاقياً ، بل كان عبارة عن مجموعة من الأطراف ذات المصلحة والتي استغلت سلطة النبي لصالحها. يكمن أساس استدلاله في الفرضية النقدية القائلة بأنه إذا كان الحديث يخدم أغراض جماعة ما، فقد صاغته تلك الجماعة. وهذا واضح بشكل خاص إذا كان الحديث يحتوي على مفارقة تاريخية.
    فاستعداده للانغماس في الشك أمر حاسم لاستنتاجاته حول الحديث النبوي. فخلال وصفه لنشاط الراوي عبد الرحمن بن خالد في نقل الأحاديث يقول ،جولدتسيهر ، بثقة أن "هناك العديد من [أحاديثه] التي من شأنها أن تفيد التوجهات السياسية السائدة، لأن عبد الرحمن كان لسنوات موظفا مهمًا لدى الأمراء الأمويين.
    بعبارة أخرى ، فإن الحقيقة البسيطة المتمثلة في أن عبد الرحمن خدم كموظف لدى الأمويين تعني أنه بالضرورة قام بتزوير الأحاديث لدعم القضايا الأموية.
    ولكن قد لا يشعر الدارسون الأقل تشككًا بالارتياح إزاء هذا المنطق، حيث أنه يمكن لأي شخص العمل في مؤسسات دولة من الدول أو شركة من الشركات دون أن يفتري الأكاذيب نيابة عنها.
    ففي المثال المذكور آنفا ،حيث أعطى النبي لعشيرته من غنائم الحرب أكثر مما أعطى للعشيرة الأموية، فلماذا نفترض أن هذا مختلق لمجرد أنه يبدو أنه يدعم أجندة العباسيين المناهضة للأمويين؟
    فليس من غير المعقول أن النبي قد منح عشيرته نصيب الأسد من الغنيمة، خاصة وأن أبا سفيان ، زعيم الأسرة الأموية، كان من أشد المعارضين للإسلام في مكة.
    (من يأخذ من خمس الغنائم هم بنو هاشم وبنو المطلب ويشمل هؤلاء آل على الذين أصبحوا هم أيضا خصوما للعباسيين فضلا عن آل العباس وآل عقيل وآل جعفر وقد حُرم هؤلاء الصدقة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنها لا تحل لآل محمد؛ إنما هي أوساخ الناس. رواه مسلم )
    ويضيف المؤلف في بعض الأحيان، أدت رؤية جولدتسيهر لنصوص الحديث باعتبارها أداه للتلاعب وغير موثوق بها إلى إساءة تفسير الأدلة. فكدليل على أن علماء الحديث في العصر العباسي وضعوا الروايات لأجل مصلحة الدولة، فقد ناقش مسألة غياث بن إبراهيم، الذي وضع حديثًا فيه أن النبي سمح بتربية الحمام لغرض الألعاب التنافسية لأن غياثا كان يعلم أن الخليفة المهدي كان مولعا بها. ويخلص جولدتسيهر إلى أنه على الرغم من أن الخليفة فطِن للتلفيق ، فإن الرواية تظهر ما كان بإمكان عالم دين مرتبط بالبلاط أن يفعله بالروايات. هذه القصة، مع ذلك، توجد فقط في المصادر الإسلامية كمثال صارخ على وضع الأحاديث.
    فنقاد الحديث السنة طعنوا في غياث بن إبراهيم كواضع للحديث وأشاروا إلى الحادثة كمثال على كيفية قيام راوي بوضع الحديث وكيف اكتشفته منظومة النقاد على الفور. في المقابل، يستخدم جولدتسيهر رواية مخصصة لتوضيح الاستثناء ليؤصل بها قاعدة
    وفي ظل حكم الأمويين والعباسيين، كما يفترض جولدتسيهر، كان بإمكان علماء الحديث تبرير وضع الأحاديث، لأن صياغة العبارات على أنها كلام النبي كانت هي القالب الذي يتم به إضفاء الحجية على الروايات. "مثال على إعمال مبدأ الغاية تبرر الوسيلة"
    فالانتشار الواسع لأحاديث ، كتلك التي يرشد فيها النبي المسلمين إلى أنهم إذا سمعوا حديثًا يتفق معناه مع القرآن، "فهو صحيح سواء قاله أم لا" ( وهو حديث: إذا رُويَ عنِّي حَديثٌ فاعرِضوه على كِتابِ اللهِ، فإذا وافَقَه فاقبَلوه، وإنْ خالَفَه فرُدُّوه) ، يدل، وفقا لجولدتسيهر، على أن بعض المسلمين لم يجدوا غضاضة في حفظ ما شعروا أنه جزء من تعاليم النبي من خلال عزو أحاديث موضوعة إليه. وهنا يضيف المؤلف أن الحديث المذكور آنفا هو حديث حكم عليه نقاد الحديث بالوضع. (قال العجلوني في كشف الخفاء: من أوضع الموضوعات)
    مثل موير، خلص جولدتسيهر إلى أن نقد المحتوى لم يلعب أي دور ملحوظ في أعمال نقاد الحديث المسلمين. فحتى لو كان نص الحديث مليئًا بما يثير الريبة، كما يلاحظ جولدتسيهر ، "لا يجوز لأحد أن يقول:" لأن المتن يحتوي على تناقض منطقي أو عبث تاريخي فأنا أشك في صحة الإسناد ". واستنتج من هذا أن "النقاد المسلمين ليس لديهم أدنى شعور حتى بأوضح المفارقات التاريخية بشرط أن يكون الإسناد صحيحًا.
    واستنتاج جولدتسيهر بأن فحص محتويات الروايات لم يكن أحد مكونات النقد المبكر للأحاديث قد ردده الدارسون الغربيون الغربيون باستمرار. (نقد متون الأحاديث على خلاف ما يزعمون هو باب واسع في علم الحديث ويكفي في هذا المقام الإشارة إلى أنه من شروط الحديث الصحيح غياب الشذوذ والعلة وكلاهما متعلق بمتن الحديث. قال النووي رحمه الله: لأنه قد يصح أو يحسن الإسناد دون المتن لشذوذ أو علة)
    يتبع

  3. افتراضي

    تحديد زمن "وضع الحديث" من خلال الإسناد : مدرسة جوزيف شاخت.

    طبق جولدتسيهر المنهج التاريخي النقدي الأوروبي على نصوص الحديث وخلص إلى أن عددًا كبيرًا من الأحاديث التي يعتقد المسلمون أنها صحيحة تم اختلاقها في الواقع كجزء من عملية صياغة الرؤية الإسلامية السياسية والقانونية والعقائدية والتاريخية للعالم.
    تطور النقد الغربي للأحاديث إلى مستوى جديد على يد باحث ألماني يدعى جوزيف شاخت، والذي بنى على موقف جولدتسيهر المتشكك تجاه صحة نصوص الحديث. فقد خلص شاخت أيضا إلى أن الأحاديث لا يمكن افتراض أنها تمثل بحال من الأحوال تعبيرا عن حياة النبي (صلى الله عليه وسلم).
    بينما ركز جولدتسيهر على الدعاية السياسية والأجندات الطائفية، ركز شاخت بشكل خاص على وظيفة الأحاديث في الشريعة الإسلامية. وفي حين أن الأول قد استخدم محتوى الأحاديث لتحديد متى ولماذا تم وضعها ، قام شاخت بفحص الإسانيد و تقليد جمع واستخدام الأحاديث عبر الزمن. يجادل شاخت بأن الأحاديث التي تعالج مسائل فقهية لا تمثل التفاصيل الفعلية لحياة النبي. وبدلاً من ذلك ، نسبتها المدارس الفقهية اللاحقة إلى النبي لتأييد مذاهبهم.

    يقدم شاخت ملاحظة واحدة بسيطة تكمن خلف نقده بالكلية لنص الأحاديث. إذا نظرنا إلى كتابات العلماء المسلمين المتفق على تاريخها المبكر ، مثل الرسالة التي بعث بها الحسن البصري إلى الخليفة الأموي عبد الملك محذراً إياه من تبني مذهب الجبرية، نجد أن الحسن لم يضمِّن الأحاديث في استدلالاته. في المقابل نجده يقتبس من القرآن وقصص الأنبياء السابقين. (هذا قد يفسره أن تلك الأحاديث لم تصل إلى علم الحسن أو لا تصح عنده دلالتها على الغرض الذي لأجله جرد تلك الرسالة أو تشكك في حجية تلك الأحاديث بالنسبة لعبد الملك لها فعلى سبيل المثال بالرغم من المؤرخين اللاحقين قد صفقوا "للماجنا كارتا" باعتبارها وثيقة تاريخية عظيمة فلم يسجل عنها أي مؤرخ معاصر ولو كلمة تتحدث عن عظمتها لأنهم اعتبروها مجرد وثيقة إقطاعية غير جديرة بالاهتمام)

    وبما أن مصنفات الأحاديث السنية تحتوي على أحاديث كثيرة كان من الممكن أن يستخدمها الحسن البصري كأدلة في أطروحته، يخلص شاخت إلى أن حقيقة أنه لم يستخدمها في استدلالاته تعني أن هذه الأحاديث بالضرورة لم تكن قد وجدت في ذلك الوقت. وهذا النوع من الاستدلال يسمى الاستدلال بالصمت أو السكوت. argument from silence

    ويجادل شاخت بأن دراسة وتفصيل الشريعة الإسلامية في الأصل، والتي يُطلِق عليها "مدارس الفقه القديمة" ، قد تطورت في مدن مثل الكوفة والمدينة حول الممارسات المحلية في تلك المجتمعات فضلا عن آراء كبار الشخصيات الدينية الإسلامية، مثل مثل أبي حنيفة و مالك بن أنس والليث بن سعد.

    ومع ذلك، فقد تسببت النقاشات بين هؤلاء العلماء في قدر كبير من الخلاف لأن أيا من مدارس الفقه القديمة هذه لم تمتلك الحجج والدلائل التي يجدها خصومها مقنعة بما يكفي لاتباعها. وهكذا استنتج شاخت أنه بحلول أواخر القرن الثامن وأوائل القرن التاسع، حاول العلماء المسلمون في تلك المدارس القديمة حل هذه الإشكالية من خلال إضفاء مزيد من الحجية على السوابق أو السنن الفقهية للنبي وأصحابه. ربط شاخت هذا التحول بالشافعي، الذي وثَّق كتابه الشهير "الرسالة" مسعاه لقصر مفهوم السابقة أو السنة ذات الحجية على الأحاديث النبوية فقط.

    وفقًا لرؤية شاخت، فإن النأْي عن سابقة العديد من الشخصيات ذات الحجية مثل الصحابة والتابعين إلى النبي نفسه تجلى في صورة "النمو العكسي" backgrowth للإسناد. كان منطق شاخت بسيطًا وواضحًا. الكتب الباقية من مدارس الفقه القديمة ،مثل موطأ مالك ، تتضمن روايات نقلت عن شخصيات لاحقة أكثر بكثير من تلك الواردة عن النبي نفسه. في حين أن المصنفات التي جُمعت بعد الشافعي ، مثل الكتب الستة ، منصبة بلا شك على الروايات النبوية.
    علاوة على ذلك، في كثير من الأحيان تضمنت هذه المصنفات روايات منسوبة إلى النبي مع أن مؤلفي مصنفات الأحاديث السابقة قد نسبوها إلى الصحابة أو التابعين. فقد تنسب رواية في الموطأ إلى الصحابي (أي تُروى موقوفة)، بينما بعد جيل ينسب الشافعي لاحقًا نفس الرواية إلى النبي (أى مرفوعة) بإسناد مرسل حيث توجد فجوة في الإسناد بين النبي والراوي الأخير في سلسلة الإسناد. ثم بعد جيلين، في صحيح البخاري، نجد نفس الحديث مع إسناد كامل أو متصل إلى النبي. جادل شاخت بأن النسخ النبوية لهذه الروايات قد تم تزويرها بوضوح بعد جمع مصنفات مثل الموطأ. **
    من وجهة نظر شاخت، كان تطور الشريعة في القرون الأولى للإسلام هو عبارة عملية بطيئة لإيجاد المزيد والمزيد من مصادر الحجية المقنعة للمبادئ الفقهية أو العقدية. كانت أقوال التابعين هي الأقدم، وبالتالي كانت الأكثر دقة من الناحية التاريخية. لكن في النقاشات التي دارت بين علماء الشريعة الأوائل، تم حل مشكلة تعارض أقوال التابعين من قبل خبراء مخادعين من خلال عزو هذه الأقوال إلى الدرجة التالية الأعلى في سلم الحجية: صحابة النبي. لذلك يجب أن نتعامل مع هذه الروايات المنسوبة للصحابة على أنها "صور من التلفيق التاريخي".
    وبحلول منتصف القرن الثامن، أدت مشكلة تضارب الروايات عن الصحابة إلى عزو مثل هذه الروايات إلى النبي نفسه. أثبت الشافعي أنه أعظم نصير لهذا الاعتماد الكلي على الأحاديث المنسوبة للنبي. ونظرًا لأن مصنفات الحديث السنية الرئيسية تتكون بالكامل تقريبًا من روايات عن النبي ، فلا بد أن الكثير من موادها قد تم تداولها بعد زمن الشافعي. فاستنتجات شاخت أدت إلى نتيجة بسيطة مفادها أنه كلما عاد السند في الزمن أكثر إلى الوراء كلما زادت ثقتنا بأنه ملفق وبالزمن المتأخر بشكل أكبر لحدوث هذا التلفيق.
    ولكن كيف نعرف من المسؤول عن النمو العكسي للإسناد ومتى نسبت الرواية إلى النبي؟ بالنسبة للأحاديث الفقهية التي درسها شاخت، فهو يفترض نظرية الرابط المشترك (حلقة الوصل المشتركة) common link ويلاحظ شاخت أنه بالنسبة للأحاديث التي اختارها للدراسة التحليلة، يتم نقل الرواية بسلسلة واحدة فقط حتى نقطة معينة (راوي معين) في الإسناد بعد عدة أجيال من النبي (راجع الرسم التوضيحي).
    اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	Untitled1.jpg
المشاهدات:	59
الحجـــم:	8.8 كيلوبايت
الرقم:	2875

    بعد هذا الرواي المعين، الذي أطلق عليه شاخت اسم "الرابط المشترك"، يتفرع نقل الحديث ليشمل المزيد من سلاسل الإسناد. وحيث أن القرن الثامن شهد ظاهرة النمو العكسي للأسانيد، لذا يبدو من المعقول افتراض أن هذا الرابط المشترك مسؤول عن اختلاق نسبة الرواية إلى النبي. فكل شيء قبل الرابط المشترك مختلق، وهو ما يفسر سبب انتشار الحديث على نطاق واسع بعده. (سيأتي الرد على ذلك لاحقا)
    ويضيف شاخت أنه بالإضافة إلى النمو العكسي للأسانيد الذي أدى إلى زيادة هائلة في عدد الأحاديث ، فقد اختلق الفقهاء وعلماء الحديث أيضًا أسانيد "موازية" للمساعدة في تجنب الإشكالات التي اعتراض بها المعتزلة الذين رفضوا استخدام الأحاديث ذات العدد المحدود من سلاسل الإسناد.
    يتبع

    ---------
    ** الشك في رفع الحديث أو وقفه بواسطة بعض الرواة يفسر لماذا قد يُروى الحديث موقوفا تارة ومرفوعا تارة أخرى إن كان من رفعه ووقفه نفس الراوي دون اللجوء إلى إتهام الإئمة بتزييف الإسناد كما يفعل شاخت ومن حذا حذوه أو يكون قد رواه الشافعي من طريق غير الطريق التي رواه بها مالك في الموطأ فيكون الراوي الذي رفع الحديث للنبي غير الرواي الذي وقف الرواية على من دونه من الصحابة أو التابعين. فمالك قد تبلغه روايه من خلال أحد الرواة يقول فيها الصحابي كذا وكذا وقد يَبلُغ غيرَه أن نفس الصحابي رفع تلك الرواية للنبي دون أن يزودنا هذا الغير بإسناد متصل أو يبلغه أو يبلغ غيره أن صحابيا غير الصحابي الأول رفع تلك الرواية للنبي ثم يأتي هنا دور المحدثين الذين ارتحلوا في طلب الأحايث كالبخاري فإذا بلغته رواية من الرويات فإنه يرتحل في طلب أسانيدها نظرا لتفرق الرواة في البلدان فقد يجد من الرواة الثقات من لديه إسناد متصل للحديث لم يتوفر لغيره من الرواة ممن قابلهم الشافعي أومالك الذي لم يرتحل لطلب الأسانيد بل اكتفى بما توفر لديه. فلو كانت حقيقة الأمر أن الشافعي أو من روى عنهم قد اختلق السند فلماذا لم يختلقه متصلا ولماذا اكتفى باسناد مرسل؟ لا يوجد تفسير مقبول سوى أن الشافعي دوّن ما بلغه ولم يتخطاه تماما كما فعل مالك. و إذا تعارض الوقف والرفع وكان الإسناد به علة (كالإرسال في رواية الشافعي) يحكم للحديث بالوقف. وإن توافرت فيه شروط الصحة (كما في رواية البخاري) فإن للعلماء فيه ثلاثة أقوال منهم من يحكم للحديث بالوقف ومنهم من يحكم بالرفع ومنهم من يقول بالتفصيل في المسألة وهذا هو الرأي الأرجح. وكما هي فحوى قول العلائي فإن رُوي الحديث موصولا من طريق الثقات حكم له بالوصل إلا أن يكون أكثر الثقات رووه موقوفا – وإن رواه ثقة موصولا - ففي هذه الحالة يحكم له بالوقف على من دون النبي من الصحابة أو التابعين.

  4. افتراضي

    أصبح تصور شاخت للتقليد الفقهي الإسلامي المبكر ونظرية الرابط المشترك هو التصور السائدة لمتون الحديث بين الدارسين الغربيين وكان له تأثير هائل. تم تطوير هذا النهج بشكل أكبر من قبل الباحث الهولندي يونبول G.H.A. Juynboll ، أحد المناصرين الرئيسيين لما نطلق عليه مدرسة الاستشراق.
    مع الإقرار بأن أصول ما أمسى يعرف بأدبيات الحديث ترجع بلا شك إلى حياة النبي، يضيف يونبول أنه بالتأكيد من غير المرجح أن نجد حتى طريقة ناجحة إلى حد ما للإثبات بشكل أكيد لا جدال فيه الصحة التاريخية لعزو مثل هذه الروايات للنبي باستثناء حالات قليلة منفردة.
    ويتابع: إن عددًا كبيرًا جدًا من الصحابة تنسب إليهم "مثل هذه الأعداد الهائلة من الروايات المزورة بشكل واضح بحيث لم يعد بالإمكان تصور وسيلة مضمونة لفصل الصحيح عن الروايات المنسوبة بشكل غير صحيح. إذا كان إثبات أن النبي قال شيئًا ما يتجاوز قدرة المؤرخ، فإن يونبول يرى أنه بالتأكيد يمكن إقامة الدليل على أنه لم يقل قولا ما (أي مما ينسب إليه).
    وهذا يكون من خلال تحديد الزمن الذي ظهر فيه الحديث إلى حيز الوجود. وبناءً على نظرية الرابط المشترك لشاخت، يؤكد يونبول أنه كلما زاد عدد الرواة الذين ينقلون رواية من أحد أساتذة الحديث ، "كلما كانت تلك اللحظة أكثر تاريخية". وبعبارة أخرى ، كلما زاد عدد الأشخاص الذي ينقلون حديثًا عن أحد الرواة، كلما تضافرت الشهادات على أن الحديث كان موجودا بالفعل في ذلك الوقت. ومن ثم فلابد أنه تم وضعه في مرحلة سابقة على ذلك.
    فأي حلقة من حلقات الإسناد تفتقر إلى مثل هذه الشهادات المتعددة هي موضع للارتياب فيما يخص حقيقتها التاريخية، لا سيما في ضوء الافتتان المفترض الذي كان لدى المسلمين الأوائل بالأحاديث وحفظها. ويتساءل يونبول، إذا كان النبي كان يتحدث حقًا بحديث ما في حضور أتباعه المخلصين، فكيف نفسر اختياره للحديث حول [موضوع ما] إلى صحابي واحد فقط، ولماذا ينبغي لهذا الصحابي أن يحدث بهذا الحديث تابعيا واحدا فقط؟ بالنسبة إلى يونبول ، فإن "اللحظة" الوحيدة التي يمكن التحقق منها تاريخيًا في نقل أحد الأحاديث النبوية تتزامن مع الرابط المشترك، لأنه من غير المعقول أن يكون الحديث الصحيح منقولا من خلال إسناد واحد فقط عن النبي، فأي شيء (سلسلة إسناد) قبل هذا الرابط المشترك لابد أنه مختلق. كما هو موضح في الشكل، نرى أن للحديث رابطا مشتركا واضحا، والذي سيلقي عليه يونبول باللائمة في عزو الحديث إلى النبي من خلال إسناد ملائم.

    اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	Untitled2.jpg
المشاهدات:	50
الحجـــم:	16.9 كيلوبايت
الرقم:	2876
    ونجد أيضًا إسنادين آخرين للحديث إلى جانب الإسناد الذي من طريق الرابط المشترك، أحدهما من طريق من روى عنه الرابط المشترك والآخر من طريق صحابي آخر. ولأنه لا توجد طريقة تاريخية للتحقق من صحة تلك الأسانيد الإضافية إذ لا يوجد فيها رابط مشترك فلابد أنه تم اختلاقها بواسطة أحد الرواة أو جامعي الأحاديث ليقدم طريقا إضافيا للحديث ربما مع علو الإسناد مقارنة بسند الرابط المشترك.
    يعبّر يونبول عن هذه الأسانيد البديلة بمصطلح " الأسانيد الغواصة " diving isnads.
    الحديث الذي ليس له رابط مشترك، فقط مجموعة من الأسانيد "الغواصة" التي لا تتصل فيما بينها (والتي يطلق عليها يونبول مصطلح "العنكبوت") ، لا يمكن تأريخها بأي شكل من الأشكال. وأدى حكم ينبول ، على ما سماه الأسانيد الغواصة، به إلى أن يطرح جانبا وبشكل تام فكرة المتابعات لدى علماء الحديث.
    وعبر يونبول عن دهشته من أن علماء الحديث المسلمين كابن حجر العسقلاني لم يدركوا أن المتابعات مجرد اختلاق لا أساس له. كما توحي معالجته للمتابعات، يشعر يونبول أن الأساليب الإسلامية في نقد الحديث كانت غير فعالة تمامًا في اجتثاث الأحاديث الموضوعة.
    أولاً وقبل كل شيء ،يضيف يونبول ، ظهر علم نقد الحديث في زمن متأخر جدا بما لا يسمح بالحكم، على نحو جدير بالثقة، على ما حدث في الفترة المبكرة من اختلاق الأحاديث في أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن. ثانيًا ، لم تأخذ مناهج نقاد الحديث بعين الاعتبار إمكانية اختلاق الأسانيد جملة وتفصيلا، وهي حقيقة تبطل قيمة المتابعات كدليل.
    كما يشير يونبول إلى أن الظاهرة التي أطلق عليها النقاد المسلمون مصطلح "التدليس" كانت ستسمح للوضاعين المخادعين بأن ينسبوا حديثًا إلى عالم سابق يحظى بالاحترام. فضلا عن ذلك يدعي يونبول أن التدليس نادرا ما كان يتم اكتشافه ". وأخيرًا، ينسج ينبول على منوال جولدتسيهر في تأكيده على" الغياب شبه التام لتطبيق المعايير الملائمة لنقد المحتوى من قبل منتقدي الحديث الأوائل".
    مثل جولدتسيهر وشاخت، خلص يونبول إلى أن الاختلاق الممنهج للأحاديث بدأ بعد انقراض جيل الصحابة، مع وضع الصيغة القياسية للإسناد في ثمانينيات و تسعينيات القرن السابع. ونسجا على منوال المستشرقين السابقين، يتفق يونبول مع تصور أن الأحاديث نشأت كمادة وعظية على يد القصاصين والوعاظ ولم تتطرق إلا في وقت لاحق إلى مسائل الفقه الإسلامي. وبينما كان شاخت يقول بالنمو العكسي للإسناد، إذا وجد حديثًا منسوبا للنبي في مصنف مثل صحيح البخاري قد ظهر من قبل في مصنف أقدم كأثر عن أحد الصحابة أو التابعين، فقد عمم يونبول هذا الاستنتاج.
    وباستخدام المعلومات التي قدمها نقاد وجامعي الأحاديث المسلمين أنفسهم، يقدم يونبول دليلاً على التكاثر الهائل للأحاديث في هذه الفترة. ففي أقدم المصادر المتاحة، يضيف يونبول، وُصف كبار رواة الحديث مثل ابن عباس بأنهم رووا ما لا يزيد عن تسعة أحاديث عن النبي.
    ومع ذلك، بحلول الوقت الذي جمع فيه ابن حنبل كتابه الكبير "المسند" في النصف الأول من القرن الثامن الميلادي ، جمعت 1710 رواية عن ابن عباس (على الرغم من اعتراف يوينبول بأنها تضمنت أحاديث مكررة. ويرجع ذلك إلى النشاط في جمع الأحاديث والارتحال في طلبها نظرا لتفرق الرواة في البلدان وليس نتيجة لاختلاقها كما يزعم يونبول وغيره)
    وفضلا عن النمو العكسي للأسانيد ، انتقد يونبول في مقالاته العديدة مجموعة متنوعة من المفاهيم الأخرى التي طورها نقاد الحديث المسلمون. فهو مثلا يطعن في أصل الإسناد الذي اعتبره النقاد المسلمون أحد أصح الأسانيد: وهو ما يرويه مالك عن نافع عن ابن عمر ، من خلال الزعم أن نافعا، مولى ابن عمر، لم يكن في الواقع من كبار رواة الحديث مستدلا على ذلك بأنه ليس من الممكن إثبات قيامه بدور الرابط المشترك، والإشارة إلى حقيقة أن الناقد المبكر ابن سعد لم يصفه بأنه راوي جدير بالاهتمام.**
    يتحدى ينبول أيضًا الفكرة القائلة بأن بلوغ مستوى المتواتر في نظر النقاد المسلمين يضمن بأي شكل من الأشكال صحة الحديث. فباستخدام طريقة الرابط المشترك الخاصة به في الحديث الشهير "من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" ، يدعي يونبول أن تحليل الروابط المشتركة لا يمكنه أن يثبت أنه يعود إلى النبي. وهكذا يستنتج أنه إذا لم يكن بالإمكان إثبات صحة أحاديث متواترة شهيرة وفقًا لأساليبه، فإن تصور الأحاديث المتواترة بجملته "ليس ضمانًا لتاريخية نسبة الحديث إلى النبي".
    يتبع
    -----------

    على خلاف ما يزعمه يونبول فنافع وهو مولى عبد الله بن عمر بن الخطاب، من علماء المدينة ووصفه الذهبي بالإمام المفتي الثبت روى عن جمع غفير من الصحابة كابن عمر و عائشة وأبي هريرة ورافع بن خديج وأبي سعيد الخدري وغيرهم. وحدث عنه خلق كثير على رأسهم الإمام مالك بن أنس وأبو أيوب السختياني والضحاك والأوزاعي والزهري وغير هؤلاء كثيرون. وذكر ابن سعد في الطبقات أن عمر بن عبد العزيز بعث به إلى مصر ليعلمهم السنن، وقال كان ثقة كثير الحديث. بل وفق معياره الذي حدده فإن نافعا مثل رابطا مشتركا في بعض الأحاديث ومثال ذلك حديث: أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَكَاةِ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ. الذي رُوي في الصحيحين وسنن الترمذي والنسائي وأبي داود ومسند أحمد، فقد رواه عن نافع الليث بن سعد وأبو أيوب السختياني ومالك بن أنس وعبيد الله بن عمر العدوي وعمر بن نافع فقوله أنه لا يعرف كراوي للأحاديث زعم ظاهر البطلان. والأعجب من ذلك كلامه عن حديث" من كذب علي متعمدا" فهذا الحديث روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قبل جمع غفير من الصحابة منهم العشرة المبشرون بالجنة. حتى أن الطبراني أفرد مصنفا كاملا لطرق الحديث وإذا أخذنا بعين الاعتبار ما ورد في الصحيحين فقط فقد روي من طريق علي والزبير وأنس وأبي هريرة والمغيرة وعبد الله بن عمرو وواثلة بن الأسقع وأبي سعيد الخدري. وقال ابن حجر العسقلاني في فتح الباري وصح أيضا في غير الصحيحين عن عثمان وابن مسعود وابن عمر وأبي قتادة وجابر وزيد بن أرقم. فضلا عن هذا فقد ورد عن غيرهم كثيرين بأسانيد حسان فضلا عن الضعيف. وطريق أنس وحدها رواها عنه العدد الكثير وتواترت عنهم وحديث علي رواه عنه ستة من مشاهير التابعين وثقاتهم وكذلك حديث ابن مسعود وأبي هريرة وعبد الله بن عمرو .(فتح الباري 1/ 203 – 204)

  5. افتراضي

    ثم ينتقل الكاتب للحديث عما سماه الاتجاه الاعتذاري فيقول:
    الانتقادات التي وجهها المستشرقون للأحاديث أثارت ردود أفعال فورية من قبل الباحثين المسلمين. بداية من المفكر الإسلامي الحداثي "سيد أحمد خان" والذي بالرغم من أنه وافق موير في كثير من الانتقادات التي وجهها للأحاديث إلا أنه أنكر عليه اتهامه لرواة الحديث بالتورط في تحريف متعمد واصفا ذلك بكونه نابع من انحيازه ضد الإسلام.كذلك أنكر عليه اعتماده في مزاعمه عن الدوافع الطائفية والسياسية لوضع الحديث على نفس الروايات التي حكم عليها بكونها غير جديرة بالثقة.

    لاحقًا، جاءت ردود أكثر عمقًا على انتقادات المستشرقين من الدارسين العاملين والمتدربين في الجامعات الغربية الذين لم يتفقوا تمامًا مع جودلتسيهر و شاخت وأتباعهم. من الستينيات إلى الثمانينيات، طعن عدد من الدارسين، معظمهم من خلفيات إسلامية أو شرق أوسطية، في استنتاجات المستشرقين إما كليًا أو جزئيًا. جاء التحدي الأكثر تأثيرًا من "نبيهة عبود" nabia abbott وهي مسيحية من العراق وأستاذة لاحقًا في جامعة شيكاغو و التي أسست كتابها "دراسات في البرديات الأدبية العربية : التفاسير القرآنية والتقليد (1967)" على مجموعة مختارة من الوثائق البردية المبكرة التي تعود إلى النصف الثاني من القرن الثامن وأوائل القرن التاسع.

    تطرح " نبيهة عبود" تحديًا مثيرًا للاهتمام لنظرية جولدتسيهر عن أن الحكومة الأموية، مع وكلائها مثل الزهري، أسست لجمع الأحاديث ولفقت على نحو فاعل جزءا كبيرا من نصوص الحديث وفقًا لأجندتها السياسية. وتؤكد أن الأدلة من مصادرنا الأولى عن أصول دراسة الحديث تصور الأمويين على أنهم معنيون أولاً وقبل كل شيء بجمع تعاليم النبي في القضايا الإدارية مثل الضرائب والصدقات، وليس بالمواد المتعلقة بالصورة السياسية لحكمهم.

    وتشير كيف أن أول محاولة حكومية لجمع الأحاديث ، التي أمر بها الخليفة عمر بن عبد العزيز ، اقتصرت على الأحاديث الإدارية. فالأحاديث التي جمعها الزهري للأمويين لنشرها في الولايات تناولت الصدقات فقط. وتجادل "نبيهة عبود" بأن ما أطلقت عليه"الأسانيد الأسرية" مثل أسانيد نافع عن ابن عمر أو العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ظهرت قبل ذلك بكثير وكان عددها أكبر بكثير مما كان يتصور سابقًا. كان الحكام الأمويون يحاولون إخراج مجموعات الأحاديث الخاصة هذه إلى العلن، وليس القيام بتزوير وتداول الأحاديث التي لا أساس لها من الصحة.

    كما تفند "نبيهة عبود" الحجة القائلة بأن الزيادة المطردة في عدد الأحاديث النبوية في القرنين الثامن والتاسع تثبت أن الأحاديث كانت عملية اختلاق بالجملة. بداية ، لاحظت أنه حتى مجموعات الأحاديث التي دونت في وقت مبكر من الممكن أنها كانت كبيرة: فصحيفة الحسن البصري كانت عبارة عن لفافة يبلغ قطرها ست بوصات. لكن من المؤكد أن المجموعات المكتوبة في وقت مبكر كانت أصغر بكثير من مصنفات الحديث الصخمة في القرن التاسع. فقد كان من الممكن حمل مكتبة الزهري في حقيبة واحدة، في حين أن مكتبة ابن حنبل كانت تحتوي على اثني عشر ونصف حمل بعير، ومكتبة الواقدي كانت ملء ستمائة صندوق. لكن تفسير هذا النمو ليس بالضرورة عملية وضع للأحاديث.

    فقد كانت أوراق البردى والرقاع باهظة الثمن، ولم يكن بوسع العلماء استخدامها إلا لتسجيل المعلومات الأساسية عن أحاديثهم ، مثل المتن وربما إسناد واحد. ومع توفر الورق الرخيص في الشرق الأوسط في نهاية القرن الثامن، تمكن العلماء من تدوين كل رواية للأحاديث التي صادفوها. ففي كتابه الشهير "المسند" ، على سبيل المثال ، حاول ابن حنبل تضمين سبع روايات في المتوسط لكل حديث ذكره.
    مع تطور علم جمع الحديث ونقده في منتصف القرن الثامن، أصبح لفظ الحديث ينطبق على الإسناد وليس المتن. مع عناية علماء القرن التاسع بجمع كل الروايات المختلفة (يُطلق على كل منها "حديث") لحديث واحد، تضاعف عدد "الأحاديث" بسرعة. ومع تطور الأسانيد وتداخلها، زاد هذا العدد بشكل أكبر، بينما ظل العدد الفعلي للأحاديث النبوية صغيرًا نسبيًا.
    إلا أن ما تقدم لم يعني أنها اعتنقت رؤية نقاد الحديث المسلمين. فقد كانت رؤيتها لعلم نقد الحديث، نظرا للاختلاف في توثيق الرواة والأسانيد، أنه أداة غير فعالة (هناك قاعدة للتعامل مع الحالات التي اختلف فيها النقاد في توثيق الرواة أو إذا تعارض جرح وتعديل(

    ويضيف المؤلف لقد قدمت نبيهة عبود ربما التفسير الأكثر تبصرا لكيفية ظهور الكثير من الأحاديث الملفقة. نظرًا لأن نقاد الحديث المسلمين تعاملوا مع الأحاديث التي تتناول المسائل الفقهية بشكل أكثر تشددا من تلك التي تستخدم في (الترغيب والترهيب)، فقد أثر نوع الحديث بشكل كبير على التشدد النقدي الذي عولج به. وهكذا بقيت الكثير من الروايات الملفقة في مجالات مثل الوعظ لأن المسلمين سمحوا بذلك.

    ثم ظهرت على الساحة انتقادات قوية للدراسات الاستشراقية على يد عالم هندي درس في جامعة كامبريدج، وهو "محمد مصطفى الأعظمي". ففي كتابيه "دراسات في أدبيات الحديث المبكر (1978)" و" حول كتاب شاخت :أصول الفقه الإسلامي (1984)" ، هاجم الأعظمي عمل شاخت (وأيضًا عمل جولدتسيهر) وأولئك الذين اعتمدوا على استنتاجاته. احدى النقاط التي انتقدها الأعظمي على جولدتسيهر وشاخت هي الاستنتاجات الجوهرية التي توصلوا إليها دون أي دليل معتبر. جولدتسيهر، على سبيل المثال، قد خلص إلى أن الدولة الأموية رعت تزوير الأحاديث على أساس حقيقة أن بعض الأحاديث يبدو أنها تدعم المصالح الأموية وأن بعض الرواة مرتبطون بالبلاط.

    أحد اعتراضات الأعظمي الرئيسية على شاخت هو اعتماده على عدد قليل من المصادر لتعميم استنتاجاته. يبدأ الأعظمي مناقشة ما طرحه بالإشارة إلى قلة المصادر التي اعتمد عليها شاخت ولفت الانتباه إلى العديد من المخطوطات العربية المبكرة التي تم اكتشافها منذ عصره. ويقول إن دارسي الحديث الغربيين يجب أن يقوموا بتحديث بياناتهم بدلا من ترديد كلام شاخت كالببغاء بلا نقد. ويضيف الأعظمي أن شاخت استند في استنتاجاته إلى موطأ مالك وكتاب الأم للشافعي، لكنه فرض نتائج دراسته على أدبيات الحديث بوجه عام.
    بالإضافة إلى ذلك، فإن أحد الأسانيد التي اعتمد عليها شاخت في إثباته ظاهرة النمو العكسي للأسانيد في حالة مالك كان مثالاً يعتقد نقاد الحديث المسلمون اللاحقون أن مالك قد أخطأ فيه. وهكذا أخذ شاخت خطأً من جانب مالك كمثال يؤصل به القاعدة بدلاً من كونه استثناءا منها. كما يتهم الأعظمي شاخت بسوء فهم جوهري لواقع علوم الشريعة الإسلامية المبكرة. فاستدلال شاخت بالسكوت، أي عندما لا يذكر العالم حديثا من الأحاديث أو الإسناد متصلا، يعني ذلك أن الحديث أو الإسناد المتصل لم يكن قد وجد وقتها هو استدلال فاسد.
    يجادل أعظمي بأن الفقيه كان يجيب في كثير من الأحيان على الفتاوى دون توثيق الأدلة التي استخدمها في الوصول إلى استنتاجه أو دون تقديم أسانيد متصلة لأحاديثه. يقدم الأعظمي مثالاً من كتاب الرسالة الشهير للشافعي ، حيث يقدم الشافعي إسنادًا غير مكتمل للحديث، لكنه يعتذر بأنه لم يكن بحوزته الكتاب الذي يحتوي على الإسناد المتصل لهذا الحديث.

    أخيرًا ، خصص الأعظمي جزءًا كبيرًا من كتبه لمحاولة إثبات أن المسلمين قد بدأوا في تدوين الأحاديث بل و استخدام الأسانيد في زمن النبي وأصحابه. وفي ذلك، يعتمد على المصادر الباقية من القرنين الثامن والتاسع والتي ذكرت بدورها المصادر التي دونت في السابق. ولقد قام بذلك من أجل تفنيد إدعاء شاخت بأن الأحاديث النبوية ظهرت فقط مع النمو العكسي للأسانيد، وهو ادعاء استند فيه شاخت جزئيًا إلى غياب الكتب الباقية من القرنين الأولين للإسلام والتي يمكن أن تكون بمثابة دليل على أن المسلمين سجلوا الأحاديث خلال تلك الفترة. بالطبع، يعتمد الأعظمي هنا على شهادة المسلمين حول شموليتهم " أو استيعابيتهم" في جمع الحديث - وهو مصدر منحاز لن يصدقه بعض المستشرقين.
    يتبع

  6. افتراضي

    ثم يتحول الكاتب للنقاش حول اتجاه المراجعين revisionist approach فيقول:
    كان المستشرقون مثل جولدتسيهر و شاخت و يونبول قد شككوا في صحة الأحاديث على حدة وأسسوا لنظرة متشككة تجاه أدببيات الحديث كنوع أدبي ، لكنهم لم يشكوا في الرواية العامة لحياة النبي وأصول الإسلام. كان لا يزال يُفترض أن محمد (صلى الله عليه وسلم) كان تاجرًا من مكة وأنه بشر "بدين إبراهيم" التوحيدى لأقرانه في مكة قبل أن يفر من مكة ليؤسس مجتمعًا إسلاميًا جديدًا في المدينة. لم يشك المستشرقون قط في أنه ادعى تلقي الوحي في صورة القرآن وشارك في صراعات معروفة مع أعدائه بمساعدة كادره الشهير من الصحابة.
    ما بين عامي 1977 و 1979 ، طالبت سلسلة من الدراسات بتطبيق المنهج النقدي التاريخي بشكل كامل ومتسق على التاريخ الإسلامي المبكر. إذا كان من المفترض أن يتبنى المؤرخون موقفًا متشككًا تجاه المصادر المنحازة بشكل واضح ويحاولون الاعتماد على أقدم أدلة ممكنة وأكثرها موثوقية، فلماذا يعتنق المؤرخون الغربيون الرواية الإسلامية العامة لأصول الإسلام ؟ فإن تاريخ حياة النبي ورسالته ومجتمعه قد رواه المسلمون فقط، ولم تكن هناك مصادر نصية باقية ترجع إلى ما قبل منتصف القرن الثامن الميلادي ، أي بعد قرن كامل من وفاة النبي. كان من شأن ذلك أن يوفر وقتًا كافيًا للعلماء والمؤرخين المسلمين – وبالتأكيد فهم ليسوا محايدين في مساعيهم - لبناء أي إرث يريدون لنبيهم انطلاقا من لا شىء. ينطبق نقد المراجعين هذا على العلماء مثل الأعظمي الذين اعترضوا على انتقادات المستشرقين ، لأن الأعظمي اعتمد أيضًا على مصادر مكتوبة بعد فترة طويلة من الأجيال الأولى للإسلام لإعادة بناء عملية جمع الأحاديث المبكرة.
    اقترح باحثان، وهما بتريشيا كرونه ومايكل كوك، إعادة كتابة التاريخ الإسلامي المبكر باستخدام أقدم المصادر المكتوبة عن الإسلام، والتي لها فائدة إضافية تتمثل في كونها لم تكتب بواسطة المسلمين. على أساس مجموعة من الكتابات الدينية المسيحية الباقية التي يعود تاريخها إلى عام 634 م ، اقترح كتاب كرونه وكوك "الهاجريون (1977)" أن الإسلام كان في الواقع نسخة متأخرة من اليهودية الملحمية apocalyptic judaism حيث أعاد عرب الحجاز اكتشاف جذورهم الإبراهيمية، وسعوا لاستعادة الأراضي المقدسة في فلسطين. ومن الواضح أن هذا تصور للتاريخ مختلف تمامًا عن الرواية التفصيلية لحياة محمد وتعاليمه الواردة في أدبيات الحديث!
    في كتابها حول أصول الشريعة الإسلامية "قانون الولايات الروماني والقانون الإسلامي (1987)" ، قادها الشك الشديد حول مصداقية التقليد التاريخي الإسلامي إلى درجة جديدة من التشكك تجاه متون الحديث ككل. فتجادل كرونه بأنه "في مجال القانون الموضوعي، يجب بالفعل افتراض أن التقاليد المنسوبة إلى النبي غير صحيحة. على سبيل المثال، تناولت رواية من جملة الروايات اعتبرها جميع المستشرقين تقريبًا صحيحة ألا وهي رواية "دستور المدينة" الشهير، والتي تتعلق بالاتفاق بين محمد (صلى الله عليه وسلم) ويهود المدينة، حيث وافقت جميع الأطراف على أن يكونوا جزءا من " مجتمع (أمة) واحدة"
    ( اعتبار المستشرقين لصحة الرواية يرجع بشكل جزئي لأنها تبدو متعارضة مع الفكرة الإسلامية التقليدية القائلة بأن غير المسلمين لا يمكنهم الانضمام إلى المسلمين في كيانهم السياسي ذي الطابع الديني، وهو مثال على إعمال مبدأ التباين dissimilarity principle )
    فيما يتعلق بمسألة "الولاء"، فإن العلماء الأوائل مثل ابن جريج ومعمر بن راشد قد نهوا عن بيع الولاء و هبته، لكنهم لم يرووا أحاديث نبوية بهذا المعنى. استنادًا إلى حجة شاخت ويونبول وهي الاستدلال بالسكوت، فإن هذا يعني أنه لم تكن توجد أحاديث حول هذه المسألة في زمنهم.
    ولكن في الرواية الخاصة بدستور المدينة الواردة في السيرة نجد عبارة منسوبة للنبي ينهى فيها عن هبة الولاء فلابد إذا أن الرواية تم تحويرها لتلبي هذا الغرض الفقهي في وقت ما بعد سبعينيات القرن الثامن الميلادي.


    فإذا كانت حتى الرواية الذي شعر المستشرقون بالثقة حيالها لا تتمتع بالموثوقية التاريخية ، فما هو الحديث الذي كان يمكن أن يفلت من عمليات التلاعب البارعة بواسطة العلماء المسلمين الأوائل؟. "إن فرصة بقاء روايات صحيحة على أيديهم هي قليلة للغاية". "في الواقع ، من الناحية الإحصائية البحتة، إنها ضئيلة جدا". وتذكر كرونه قراءها بالأرقام التي جمعها يونبول حول تزايد أعداد الأحاديث التي يُفترض أن ابن عباس قام بروايتها. فمع وجود تلك الزيادة الهائلة، كيف نعرف أيها رواها ابن عباس حقًا؟ "في ظل هذه المعطيات، نادرًا ما يكون من المبرر افتراض صحة حديث حتى يثبت العكس."و نظرًا لأن هذا صعب جدًا بالفعل، "يجب أن تكون الفرضية هي أنه لا يوجد حديث صحيح".
    كما أكدت كرونه (التجارة المكية وصعود الإسلام ، 1987) ، وجون وانسبرو (الدراسات القرآنية ، 1977) وجون بيرتون (مقدمة في الحديث ، 1994) على الأصول التفسيرية للأحاديث. بمعنى آخر ، غالبًا ما تم وضع الأحاديث من قبل العلماء المسلمين لمساعدتهم على تفسير القرآن. وكما اختلف المسلمون الأوائل على معاني العديد من الآيات القرآنية ، فكذلك اختلفت الأحاديث التي تشرح معانيها أيضًا.
    على الرغم من أن المراجعين اعتمدوا بشكل عام على استنتاجات المستشرقين ، إلا أن مايكل كوك يجادل بأنه حتى التنازل الرئيسي الذي قدموه – وهو أن الرابط المشترك كان يمثل لحظة موثوقة تاريخيًا في رواية الحديث - كان خاطئًا. يقدم كوك حجة جديدة حول آلية تمكن رواة الأحاديث المسلمين من مضاعفة عدد روايات الأحاديث النبوية، وهي في جوهرها عملية اختلاق لرابط مشترك. لاحظ يونبول كيف سمح التدليس للمزورين المخادعين أن ينسبوا حديثًا إلى عالم سابق عن طريق إدخال اسمه على نحو غير صحيح في الإسناد. فقد رأى كوك دورًا أكثر أهمية للتدليس. يوضح كوك أنه في المجتمع التقليدي، "المسألة ذات الصلة ليست الأصالة، ولكن الحجية: فالممارسة الملتوية كانت تتمثل في إسناد وجهة نظري على نحو زائف إلى من هو أرفع شأنا أو أعلى قدرا مني".

    اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	fig9-2.jpg
المشاهدات:	51
الحجـــم:	10.4 كيلوبايت
الرقم:	2877
    كانت ظاهرة التدليس هي الوسيلة التي من خلالها ينجز راوي الحديث هذا الأمر. فإذا سمع الرواي C2 حديثًا من C1 المعاصر له، والذي بدوره سمعه من معلمه B1 والذي سمعه بدوره من A، وهكذا إلى النبي، لكن لا يريد C2 أن يبدو أنه يستقي المعرفة الدينية من أحد الأقران، لذلك ينسبها إلى جيل أساتذته ، فينسب رواية الحديث إلى معلمه B2 ثم يمد الإسناد إلى A، وهكذا إلى النبي. إذا حافظ التاريخ على إسنادي C1 و C2 ، فيبدو كما لو أن سلسلتين من سلاسل الإسناد تنبثقان من A، بينما في الواقع كانت هناك سلسلة واحدة فقط. وهذا يفسر الانتشار الاحتيالي للأسانيد. ومن خلال التأكيد على أن متون بعض الأحاديث الملحمية (تتنبأ بأحداث مستقبلية) ظهرت بوضوح في وقت متأخر عن زمن الرابط المشترك في أسناديها، جادل كوك بأن تأريخ زمن وضع الأحاديث عن طريق الروابط المشتركة كان سلوكا ساذجًا. ( التدليس هو أن يروي حديثا عن شيخ يجوز سماعه منه لكنه في واقع الأمر سمعه من خلال واسطة كأن يروي C2 عن B1 مباشرة دون ذكر C1 في الإسناد وليس أن يرويه عن شيخ لم يروي الحديث أصلا مثل B2. وهناك مصنفات في المدلسين وكيفية التعرف عليهم من ذلك كتاب طبقات المدلسين لابن حجر العسقلاني الذي قسم المدلسين إلى خمس طبقات أو مراتب وهي: (الأولى) من لم يوصف بذلك إلا نادرا كيحيى بن سعيد الأنصاري (الثانية ) من احتمل الأئمة تدليسه وأخرجوا له في الصحيح لامامته وقلة تدليسه في جنب ما روى كالثوري أو كان لا يدلس الا عن ثقة كابن عيينة ( الثالثة ) من أكثر من التدليس فلم يحتج الأئمة من أحاديثهم الا بما صرحوا فيه بالسماع ومنهم من رد حديثهم مطلقا ومنهم من قبلهم كأبي الزبير المكي (الرابعة) من اتفق على أنه لا يحتج بشيء من حديثهم الا بما صرحوا فيه بالسماع لكثرة تدليسهم على الضعفاء والمجاهيل كبقية بن الوليد (الخامسة ) من ضعف بأمر آخر سوى التدليس.)
    يتبع

  7. افتراضي

    ثم ينتقل المؤلف للحديث عن اتجاه "إعادة التقييم الغربي" western revaluation فيقول:
    دفعت الشكوك الجوهرية التي أثارتها دراسات المراجعين revisionist studies حول التاريخ الإسلامي المبكر إلى دفاع غير مسبوق عن الرواية التقليدية للأحاديث والأصول الإسلامية من جانب بعض الدارسين الغربيين. بوجه من الوجوه، وبغض النظر عن الانتقادات المحددة التي ربما أطلقها الدارسون الغربيون فيما يخص أحاديث فردية ، فقد استثمروا بشكل كبير في الخطوط العريضة الأساسية للتاريخ الإسلامي التي قدمها المؤرخون المسلمون وعلماء الحديث. كان الدفاع عن سلامة تقليد الحديث بوجه عام هو دفاع عن رؤية التاريخ الإسلامي المبكر التي اعتمدت عليها أجيال من الدارسين الغربيين.
    إن من نسميهم هنا مدرسة "إعادة التقييم" قد تحدوا جانبين رئيسيين من الانتقادات الاستشراقية والتنقيحية revisionist للأحاديث النبوية. أولاً ، فقد جادلوا بأن العديد من الافتراضات الأساسية التي قدمتها هاتان المجموعتان غير دقيقة بطبيعتها. ثانيًا ، أظهر دارسي إعادة التقييم أن الانتقادات الغربية السابقة لم تنظر بعين الاعتبار إلى الاتساع والتعقيد الهائل لتقليد الحديث الإسلامي. عندما يتم النظر إلى الأحاديث من هذا المنظور الأكثر تواضعًا ، فإن العديد من الحجج التي قدمها المستشرقون والمراجعون تفقد فعاليتها.
    هذا لا يعني أن مؤيدي إعادة التقييم من الدارسين قد قبلوا الرؤية السنية للأحاديث وصحتها تمامًا. ففي نفس الوقت الذي رفضوا فيه الحجج التنقيحية revisionist arguments، تبنى فرد دونر fred donner وآخرون نظرية مفادها أنه حتى عهد الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ، كان الإسلام - كأيديولوجيا دينية - تعدديا pluralistic للغاية وسمح لكل من المسيحيين واليهود باتباع تعاليم محمد (صلى الله عليه وسلم) دون التخلي عن دياناتهم . ومع ذلك ، فإن نبرة دارسي إعادة التقييم أقل عدائية من الأجيال السابقة. فهم يتحدثون أكثر عن تحديد إلى أي زمن يرجع هذا الحديث أو ذاك عندما نكون على يقين من أن الحديث كان متداولًا في وقت من الأوقات بديلا عن اعتباره مزورًا وتحديد من قام بتزويره.
    إن الاعتراض الأساسي على توجه المراجعين لإعادة صياغة الرواية الإسلامية بأكلمها عن التاريخ الإسلامي المبكر هو أنه يطلب منا ببساطة أن نؤمن بأمور يصعب تقبلها. فقد نجد أنه من الصعب تصديق أن المسلمين كان بإمكانهم تجنب كل محاولات التلاعب التاريخي، والدعاية، والأخطاء في جمع الأحاديث النبوية. ولكن يبدو من الصعب أكثر تصديق أن مجتمعًا أكاديميًا يمتد من أسبانيا إلى آسيا الوسطى ويعاني من صراعات داخلية شديدة يمكنه أن يتواطأ على تدبير مثل هذه المؤامرة التاريخية الهائلة وفي زمن لم تكن وسائل التواصل الحديثة فيه متاحة.
    أو كما نص فرد دونر في تفنيده لأطروحات المراجعين ، فإنه من غير المتصور أن المجتمع المسلم المبكر المنقسم على نفسه والذي اتسم باللامركزية يمكن بطريقة ما أن يدبر "عملية إعادة صياغة شاملة للتقليد [الإسلامي] ككل في صورة متجانسة" دون أن يترك ذلك دلائل تاريخية وافرة ( أي على حدوث تلك العلمية).
    وبالمثل، يشير هارالد موتزكي harald motzki إلى أن وضع أو اختلاق الأحاديث على النطاق الهائل الذي افترضه المستشرقون والمراجعون كانت الرقابة الجماعية communal oversight لعلماء الحديث لتحول دون حدوثه.
    أعاد بعض الدارسين تقييم الفرضيات الثابتة التي قدمها المستشرقون والمراجعون حول صحة الأحاديث بشكل عام. فقد شددت كرونه على ما أشار إليه جولدتسيهر وشاخت ويونبول من أنه: لا يمكن افتراض أن الأحاديث هي كلام محمد (صلى الله عليه وسلم) حقيقة. لكن قد نازع ديفيد باورز david powers في هذه الجزئية على النحو الأكثر وضوحا ، وهو أيضًا رائد مبكر لما يمكن الاصطلاح على تسميته بـ" تحديد الروبط المشتركة على نطاق واسع"، أو الفكرة القائلة بأنه عندما يجمع المرء كل الروايات المتاحة للحديث ، فإن الرابط المشترك الخاص به أقدم بكثير من ذلك الذي يفترضه شاخت ويونبول.
    في مقال عن مسألة الوصية في الشريعة الإسلامية المبكرة ، تحدى باورز رفض كرون وكوك لحديث شهير (وهو في الصحيحين) يخبر فيه النبي الصحابي سعد أبي وقاص أنه لا يجوز له أن يوصي سوى بثلث تركته كحد أقصى كصدقة (يتم تقسيم الباقي تلقائيًا حسب قانون الميراث الإسلامي الحالي). يرى باورز أن فحص الإسناد والمتن يشير إلى أنه يرجع بالفعل إلى سعد بن أبو وقاص. في ضوء خطأها في تقييم الحديث، خلص باورز إلى أن تصريح كرونه بأنه يجب افتراض أن الأحاديث النبوية غير صحيحة "بالكاد يوحي بالكثير من الثقة." فعلى العكس تمامًا، يؤكد باورز أن عبء الإثبات يقع على عاتق أولئك الذين ينكرون صحة الروايات المنسوبة للنبي فالافتراض الأصلى هو أن الحديث صحيح بالفعل.
    استندت حجة باورز، في تأريخ هذا الحديث على أقل تقدير بزمن الصحابة، إلى فحص جميع الروايات المتبقية - وهو أمر أهملته كرونه. يقر باورز بأن محاولة توثيق الإسناد والعثور على رابط مشترك هي خوض في "عالم التخمين والتكهن"، لكنه يجادل بالقول بأنه يبدو من غير المحتمل بدرجة كبيرة أن يكون حديث سعد بن أبي وقاس مختلقا.
    ومن خلال جمع كل روايات الحديث التي انبثقت من ستة أشخاص مختلفين و قد اجتمعوا جميعًا على سعد بن أبي وقاس باعتباره الرابط المشترك، يعلق باورز على ذلك بالقول أنها من قبيل الصدفة العجيبة أو اللافتة للنظر أن ستة من التابعين، الذين يعيشون في بلدان مختلفة من الإمبراطورية الأموية ويفترض أنهم يعملون بشكل مستقل عن بعضهم البعض، تبنوا نفس الرواية لشرح أصل مسألة التقيد بثلث التركة ( أي فيما يخص الوصية لغير الورثة) ، وأرجعوها جميعا إلى النبي بواسطة أسانيد مختلقة كلها تلتقي في نفس الصحابي!.
    ظل نهج التحليل "واسع النطاق" لروايات الأحاديث، والتشكك الجوهري في الفرضيات الاستشراقية والتنقيحية حاضرا بقوة في دراسات الألماني هارالد موتزكي. بوجه من الوجوه، موتزكي هو أول دارس غربي يتعامل مع الأحاديث بنفس "التقدير" الذي تعامل به أساتذة الحديث المسلمون.
    على غرار نقاد مثل ابن حجر العسقلاني ، تعتمد أحكامه بخصوص الأحاديث على جمع كل الروايات المتاحة للحديث، وليس فقط تلك التي يسهل الوصول إليها في المصنفات المعروفة. قدمت كتابات موتزكي ثلاثة انتقادات رئيسية لدراسات الحديث الغربية السابقة. أولاً ، جادل بأن الحجة من السكوت argument from silence التي أيدها شاخت ويونبول وكرونه غير صالحة. ثانيًا، يوضح أن الروابط المشتركة أقدم بكثير مما كان يُعتقد سابقًا ، حيث يرجع بعضها إلى زمن الصحابة في النصف الثاني من القرن السابع الميلادي. أخيرًا، يرى موتزكي إنه بديلا عن الزعم بأنهم قاموا باختلاق الأحاديث ، فإن كبار رواة الأحاديث مثل الزهري وابن جريج كانوا بوجه عام يمررون على نحو جدير بالثقة روايات تلقوها عن الجيل السابق.
    اعتمد المستشرقون والمراجعون على فرضية أن عدم استخدام الحديث من قبل العلماء الأوائل ، أو أفضل صيغة ممكنة لهذا الحديث ، في نقاش كان من الممكن أن يكون الحديث وثيق الصلة به، يثبت أن هذا الحديث لم يكن موجودًا في ذلك الوقت أو بهذه الصيغة، ولكن يجادل موتزكي بأن هذا الافتراض غير معقول وغير دقيق. يمكن للعالم أن يقرر عدم ذكر الحديث لأنه لم يشعر أنه يعالج القضية المطروحة بالفعل. خاصة أنه في زمن مؤسسي المدراس الفقهية الأوائل مثل أبي حنيفة ومالك ، كانت الأحاديث لا تزال تتداول في نطاق محلي. لقد رأينا بالفعل مثال أحد طلاب مالك المصريين (وهو عبد الله بن وهب) الذي أخبره عن حديث صحيح يتناول مسألة غسل القدمين لم يسمع به مالك، الذي لم يغادر الحجاز مطلقا. (و الحديث هو ما رواه الْمُسْتَوْرِدِ بْنِ شَدَّادٍ الْقُرَشِيِّ رضي الله عنه قَالَ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدَلِّكُ بِخِنْصَرِهِ مَا بَيْنَ أَصَابِعِ رِجْلَيْهِ. وقد أورد هذا الأثر ابن أبي حاتم الرازي في كتاب الجرح والتعديل. وذكر أن مالكا لما سمع الحديث بعد أن ساقه عبد الله بن وهب بسنده قال: فَقَالَ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ حَسَنٌ، وَمَا سَمِعْتُ بِهِ قَطُّ إِلا السَّاعَةَ)
    أما بالنسبة للفرضية القائلة بأنه إذا تم نقل الحديث عبر إسناد واحد فقط في الفترة المبكرة، فلا بد أنه تم تزويره، يرى موتزكي أنه لا ينبغي أن نتوقع العثور على العديد من الأسانيد من شخصيات كجيل التابعين إلى النبي، ففي الناهية لم يتم اللجوء إلى الإسناد إلا في غضون جيل التابعين في أواخر القرن السابع / أوائل الثامن الميلادي. فحتى بالنسبة لرواة الحديث الأوائل وعلماء الشرع الذين قدموا أسانيد إلى النبي في ذلك الوقت، كان من الضروري فقط تقديم إسناد واحد للحديث ، وليس حزمة أسانيد -إذا لم يكن لذلك حاجة نتيجة قرب العهد بأصحاب النبي - كما أصبح شائعًا في النصف الثاني من القرن الثامن والتاسع.
    أما بالنسبة إلى استدلال يونبول بشغف المسلمين برواية الأحاديث (كدليل يقدم ضد تفرد رواي واحد عن شيخه برواية حديث)، فحين يحضر مئات الطلاب جلسات الاستماع لشيخ من الشيوخ، تدل البديهة على أن هناك العديد من الأسباب التي تجعل التاريخ يحفظ لنا فقط رواية طالب واحد عن ذلك الشيخ بدلاً من العديد من الطلاب. مثلما تمضي قدما نسبة ضئيلة فقط من طلاب أستاذ من الأساتذة لأن يصبحوا هم بأنفسهم أساتذة، لذلك ليس من غير المعقول أن يتحول واحد فقط من طلاب راوي الحديث ليصبح راويا أيضًا للأحاديث.
    جادل ينوبول بأن نقل الرواية من فرد إلى الجماعة من الأفراد ( أي من شيخ إلى عدة طلاب) فقط يمكن اعتبارها "لحظة" موثقة تاريخيًا في رواية الحديث. لكن ، يعترض موتزكي بالقول أنه إذا اعتبرنا أن النقل من شخص واحد إلى عدد من الأشخاص فقط هو الجدير بالثقة من الناحية التاريخية ، فلماذا لا يوجد لدينا سوى مؤلفات (كتب) قليلة في جمع الأحاديث وكذلك لماذا توجد روابط مشتركة جزئية partial common links؟ (روابط مشتركة تتشكل في سلسلة رواة الحديث بعد الرابط المشترك والمقصود أن الرابط المشترك يروي عنه قلة من تلامذته يمثلون بحد ذاتهم روابط مشتركة يسميها ينبول روابط مشتركة جزئية) إذا سلمنا أن الحديث خرج إلى حيز الوجود بالتزامن مع الرابط المشترك، وأن أي حديث موجود بالفعل يجب أن يكون قد تمت روايته من قبل كل من سمعه من الشيخ ، فعندئذٍ بعد الروابط المشتركة ، يجب أن نجد الآلاف من سلاسل الإسناد في الجيل الرابع (جيل الروابط المشتركة الجزئية )والخامس.
    تشير حقيقة أننا نجد عددًا قليلاً جدًا من الروابط المشتركة الجزئية إلى أن الروابط المشتركة والروابط الجزئية المشتركة كانت الاستثناء وليست القاعدة في رواية الأحاديث النبوية. وبالتالي لا يمكن تصور غيابها كدليل على أن حديثا ما لم يكن متداولا في وقت من الأوقات.
    اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	Untitled2.jpg
المشاهدات:	59
الحجـــم:	16.9 كيلوبايت
الرقم:	2878
    أحد انتقادات موتزكي المحورية لعمل شاخت ويونبول هو العدد القليل من المصادر التي استخلصوا منها الأحاديث في عملية تحديد الرابط المشترك. ففي عملية جمع روايات حديث ما لتحديد موضع الرابط المشترك فيها، على سبيل المثال، اعتمد يونبول بشكل أساسي على كتاب تحفة الأشراف لجمال الدين المزي (وهو عمل يجمع كل سلاسل إسناد الحديث معا ولكن يقتصر على الروابات وسلاسل الإسناد الموجودة في الكتب الستة (وبعض الكتب الصغيرة الأخرى). اعتمد موتزكي على مجموعة أكبر وأكثر تنوعًا من المصادر بما في ذلك المصادر المبكرة ، مثل مصنف عبد الرزاق ومصادر أخرى لاحقة مثل دلائل النبوة للبيهقي. من خلال الرجوع إلى مجموعة واسعة من المصادر أكثر من هؤلاء الدارسين السابقين، يوضح موتزكي أن الروابط المشتركة للأحاديث التي قام بدراستها تنتمي في الواقع إلى زمن الصحابة في النصف الثاني من القرن السابع.
    يشرح موتزكي تفنيده لأطروحة شاخت وينوبول، القائمة على فرضية اختلاق الحديث من قبل الرابط المشترك، بشكل أوضح في مقال مخصص لدراسة الأحاديث المتعلقة بواقعة أمر النبي باغتيال القائد اليهودي البارز في خيبر، سلام بن أبي الحقيق. من خلال جمع مجموعة هائلة من سلاسل الإسناد نقلا عن مجموعة متنوعة من المصادر، يوضح موتزكي أن هذا الحديث ليس له رابط مشترك واحد ولكن العديد من الروابط ممن كانوا يشتغلون برواية الأحاديث بشكل مستقل وبالتالي لا بد أنهم اعتمدوا على مصدر مشترك سابق. في قضية مقتل ابن أبي الحقيق ، يخلص موتزكي إلى أن الرواة الذين مثلوا روابط مشتركة في سلاسل إسناد الأحاديث المتعلّقة بهذه الواقعة ربما تلقوا روايتهم في زمن أقصاه الثلث الأخير من القرن السابع الميلادي، أي أن الحديث كان متداولا في عصر الصحابة.

    يتبع

  8. افتراضي

    يعتمد تحليل موتزكي "الواسع النطاق" لروايات الحديث على طريقة "تحليل الإسناد والمتن معاً isnad cum matn analysis"، يوضح موتزكي أن هذه العملية تعتمد على ثلاث مقدمات:
    أولها أن الروايات المختلفة للحديث هي (على الأقل جزئيًا) نتيجة لعملية النقل من جيل لآخر. ثانيها أن أسانيد الروايات المختلفة (جزئيًا على الأقل) تعكس المسارات الفعلية لعملية نقل الحديث. ثالثها إذا كانت الروايات المختلفة للحديث المنبثقة من نفس الرابط المشترك (والتي نقلها عنه تلامذته) هي في الواقع متشابهة بدرجة كافية، فعندئذ يبدو أن النقل عن الرابط المشترك يمثل مرحلة في نقل الحديث تتمتع بالموثوقية. وإذا لم تكن متشابهة، فهذا نتيجة إما عدم الاعتناء (في نقل الحيث) أو التلاعب المتعمد.
    من أجل تحديد ما إذا كانت المعلومات الرئيسية التي يتضمنها نص الحديث متداولة قبل زمن الرابط المشترك ، يجب أن يُرى ما إذا كانت روايات الروابط المشتركة الأخرى تتضمن نفس العناصر الرئيسية للنص. يتطلب ذلك عملية من خطوتين: 1) تحليل عناصر الروايات المختلفة المنقولة عن رابط مشترك واحد ؛ 2) مقارنة العناصر المشتركة بين الروايات المنقولة عن ذلك الرابط بنظيراتها المنقولة عن الروابط المشتركة الأخرى.
    يجب على المرء بعد ذلك أن يرى ما إذا كانت الاختلافات بين رواية الرابطين كبيرة بما يكفي لاستبعاد احتمالية أن أحد الروابط المشتركة نقل من الآخر ثم روى الحديث بإسناد مختلف.
    فإذا كانت روايات الحديث التي تعود لروابط مشتركة تختلف بدرجة تجعل من المستبعد أن يكون أحدهما اعتمد على الآخر فلابد أنهما نقلا عن مصدر آخر سابق.
    ولتأكيد الاستنتاج ينُظر هل الاختلافات في رواية نص الحديث متلازمة مع سلاسل الإسناد. بمعنى آخر هل الاختلافات التي تتراكم على الرواية الصاردة من أحد الروابط المشتركة تزداد مع تشعب الروايات بأسانيدها من ذلك الرابط. وهل الروايات التي تتشعب من رابط معين أشبه ببعضها منها بالروايات المتشعبة من رابط آخر. (على أساس أن الرابط المشترك بينها أقرب من المشترك مع الروايات الأخرى ومن ثم العناصر المشتركة في الرواية أكثر).
    يمكننا إيضاح هذه الطريقة في تحليل "الإسناد مع المتن" من خلال الحديث الشهير الذي ينص على أن الله ينزل إلى السماء الدنيا في وقت من الليل لإجابة الدعاء(متفق عليه) (انظر الشكل). بالمعنى الدقيق للكلمة ، يجب أن يأخذ تحليل "الإسناد مع المتن" في الاعتبار جميع ما هو متاح من روايات للحديث. نظرًا لأن هذا سيستغرق وقتًا طويلاً للغاية، فسوف نقتصر ههنا فقط على تلك الروايات التي تتحقق بها الفائدة المرجوة من النوع من التحليل. سنلقي نظرة خاصة على روايتين من روايات الحديث، واحدة عن أبي هريرة وواحدة عن صاحبي آخر ، وهو أبو سعيد الخدري.
    نجد أن رواية أبي هريرة قد سُجلت في وقت مبكر في موطأ مالك، مما يعني أننا نعلم أن الحديث كان موجودًا على أقل تقدير في منتصف القرن الثامن عندما كان مالك يدون كتابه. صاحب مالك وتلميذ الزهري أيضا معمر بن راشد ، كانت لديه هذه الرواية بالإضافة إلى الرواية الأخرى عن أبي سعيد الخدري. وعند فحص الروايتين ، نجد أن بينهما يتضمنان نفس الحديث بوجه عام لكن مع بعض وجوه الاختلاف الملحوظة.

    اضغط على الصورة لعرض أكبر

الاســـم:	Untitled3.jpg
المشاهدات:	46
الحجـــم:	17.0 كيلوبايت
الرقم:	2880
    المتن رقم1 ، على سبيل المثال ، يذكر أن الله ينزل حين يبقى ثلث الليل الأخير ، بينما يذكر المتن رقم 2 أنه ينزل إذا ذهب ثلث الليل الأول. يتضمن المتن 2 أيضًا العبارة الفريدة "إن الله يمهل". بما أننا نعلم أن الرواية كانت لدى معمر ، لكن الاختلافات بين روايتي الحديث (كلاهما لدى معمر) تنفي أنه نسخ إحداهما من الأخرى، فلا بد أنه حصل على رواية أبي سعيد من مصدر سابق غير الزهري. إذا كان مصدر الزهري والمصدر الثاني لمعمر (يفترض أنه أبو إسحاق السبيعي) لديهما نسختان مختلفتان من نفس الحديث، فلا بد أنهما تلقياهما من مصدر سابق مشترك ، لا سيما أن أبو إسحاق كان من الكوفة و الزهري من الحجاز. وبما أن وفاة الزهري وأبي إسحاق ، كلاهما من التابعين ، كانت في عامي 742 و 744 ميلادية تقريبا على الترتيب ، فلابد أن مصدرهما المشترك قد عاش في أواخر القرن السابع الميلادي ، مما يدل على أن الحديث كان متدولا في عصر متأخري الصحابة (على أقل تقدير).
    أحد المصادر الرئيسية التي استخدمها موتزكي في تحقيقه هو مصنف عبد الرزاق الصنعاني. في سلسلة من المقالات ترجع إلى أوائل التسعينيات، استخدم موتزكي المصنف لإثبات أن استنتاجات شاخت حول صحة الأحاديث التي تتناول مسائل فقهية يعيبها قلة المصادر التي رجع إليها، والتحليل الذي تحركه الفرضية والذي من خلاله حكم شاخت على أصل الأحاديث ذات الطابع الفقهي استنادا إلى فرضيات معيبة عن طبيعة الدراسات الفقهية الإسلامية المبكرة.
    في أحد المقالات ، تناول موتزكي الروايات التي أدرجها عبد الرزاق في مصنفه من خلال الإسناد المعروف لابن جريج عن التابعي المكي الشهير عطا بن أبي رباح (توفي سنة 114/732). يجادل موتزكي بأن كلاً من روايات عبد الرزاق وابن جريج وطريقتهما في تقديمها تُظهر خاصيتين مثيرتين للانتباه تبددان احتمال اختلاقهما للروايات التي نقلوها أو تحريفها عن عمد. أولاً ، خصائص الرويات من خلال الإسناد متسقة تمامًا من حيث الشكل والمحتوى. فعبد الرزاق ومصدره ابن جريج يستخدمان دائمًا مصطلح "سمعت من..." عندالرواية عن بعض مصادرهما ، بينما يستخدمان العنعنة (أي عن فلان) دائما عند الرواية عن بعض المصادر الأخرى. يجادل موتزكي أنه لو كان أي منهما "يسقط" وجهات نظره الفقهية على العلماء السابقين ، فمن غير المحتمل أن يداوموا على مثل هذا الاتساق الشكلي في اختلاقهما للروايات.
    ثانيًا، ففي روياته عن عطاء بن أبي رباح أحيانا يطرح ابن جريج أسئلة مباشرة على هذا الفقيه و في أحيان أخرى يذكر أنه سمع آراء عطاء بن أبي رباح من خلال واسطة أو حتى من خلال واسطة عن واسطة عن عطاء بن أبي رباح. فذكر الرويات غير المباشرة عن عطاء بن أبي رباح في حين أنه كان بإمكانه أن يدعي بسهولة أنه سمع "عطاءا" بشكل مباشر يشير إلى أن ابن جريج كان صادقا بشأن روياته عن عطاء بن أبي رباح.
    وبناءً على هذه الأدلة ، يجادل موتزكي بأن عبد الرزاق وابن جريج قد نقلا بأمانة الروايات التي تلقوها. وبناءا على ضآلة احتمال أن تكون الأحاديث التي رواها ابن جريج عن عطاء بن أبي رباح ملفقة، فهي تعكس بشكل صحيح واقع الدراسات الفقهية الإسلامية في مكة في أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن.
    في مقال آخر يرجع لعام 1991، يواصل موتزكي استخدام مصنف عبد الرزاق كأداة لتصحيح استنتاجات شاخت عن الأحاديث الفقهية المبكرة، ولاسيما المسائل الفقهية المنسوبة إلى الزهري. يقارن موتزكي الأحاديث الفقهية التي تلقاها تلاميذ الزهري معمر بن راشد وابن جريج من معلمهما مع روايات وردت في كتاب تلميذ آخر من تلامذة الزهري ألا وهو مالك. من خلال إثبات أن أحاديث كلا من معمر / ابن جريج ومالك جاءت من مصدر مشترك، يُفترض أنه الزهري ، يشير موتزكي إلى أن الروايات المنسوبة إلى الزهري بالفعل تم تلقيها عنه.
    ولا سيما في حالة معمر وابن جريج ، فإن رواياتهما لا تحمل أي أمارات على التلفيق أو الاختلاق. اعتمد هؤلاء العلماء على مصادر متنوعة للغاية ، ونقلوا طواعية أو عن طيب نفس الأحاديث أو الآراء العلمية المخالفة لآرائهم. فلو كانوا يوظفون هذه الروايات فقط كأداة للترويج لتوجهاتهم الفقهية، فلماذا يروون أخبارا تتعارض مع توجهاتهم؟
    ويولي موتزكي اهتمامًا خاصًا لخبر غريب ينسبه الزهري إلى أحد الصحابة والذي أجاز فيه رضاع الكبار (أي أن يحرم الرجل على النساء بالرضاع منهن). من خلال إثبات صحة الرواية عن الزهري ثم إثبات أن الرواية التي نقلها الزهري كانت في حد ذاتها منقولة من عدة مصادر ، يقول موتزكي أن الرابط المشترك لهذا الأثر هو في الواقع الصحابي الذي يفترض أنه قاله في النصف الثاني من القرن السابع. فعدم موافقة رأي الزهري لرأي الصحابي الذي ينقله من خلال الرواية عنه تشهد على نزاهته كراوي. (لم يكن الزهري يرى جواز رضاع الكبير. قال ابن حزم في المحلى من طريق عبد الرزاق عن معمر: الحسن، والزهري، وقتادة، قالوا: لا رضاع بعد الفصال. وقد روى الزهري حديث رضاع سالم مولى أبي حذيفة فقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت جاءت سهلة بنت سهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقالت إن سالما كان يدعى لأبي حذيفة وإن الله عز و جل قد أنزل في كتابه ادعوهم لآبائهم وكان يدخل علي وأنا فضل ونحن في منزل ضيق فقال النبي صلى الله عليه و سلم أرضعي سالما تحرمي عليه قال الزهري قالت بعض أزواج النبي صلى الله عليه و سلم لا ندري لعل هذه كانت رخصة لسالم خاصة. وروى مسلم من طريق الزهري: قال حدثني عبدالملك بن شعيب بن الليث. حدثني أبي عن جدي. حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب (وهو الزهري) ؛ أنه قال: أخبرني أبو عبيدة بن عبدالله بن زمعة ؛ أن أمه زينب بنت أبي سلمة أخبرته ؛ أن أمها أم سلمة زوج النبي ﷺ كانت تقول: أبي سائر أزواج النبي ﷺ أن يدخلن عليهن أحدا بتلك الرضاعة. وقلن لعائشة:والله ! مانرى هذا إلا رخصة أرخصها رسول الله ﷺ لسالم خاصة)

    يتبع
    الصور المرفقة الصور المرفقة  

  9. افتراضي

    يطرح موتزكي بعض الأسئلة الأخرى المثيرة للاهتمام حول الفرضيات التي وضعها شاخت ويونبول، وهي فرضيات يعتقد الكاتب أنه يمكننا إرجاعها إلى المنهجية التاريخية النقدية نفسها. إن غلاة المتشككين في الحديث النبوي مدفوعون بالنهج التاريخي النقدي الغربي، الذي يسأل عما إذا كان ينبغي لنا أن نصدق ما تخبرنا به المصادر التاريخية. ومع ذلك ، فإن الشك في هذه المصادر في بعض الأحيان يجبرنا على تصديق أشياء خيالية أكثر من مجرد قبول أن المصدر قد يكون أصيلًا. يفترض يونبول أن جميع ما يسميه الأسانيد الغواصة، وجميع المتابعات، وفي الواقع أي سلسلة إسناد لا تنبثق من رابط مشترك هي مختلقة.
    لكن لماذا؟ في مثال حديث نزول الله إلى السماء الدنيا في الليل، الرابط المشترك الوحيد هو الصحابي أبو هريرة. هناك سبع سلاسل إسناد من خلال صحابة آخرين (غير مدرجين في الشكل) ؛ هل نفترض أن كل سلاسل الإسناد هذه والصادرة من النبي، من خلال صحابة مختلفين ، مع اختلافات طفيفة في المتن موزعة بشكل متسق بين هذه السلاسل المختلفة، كلها ملفقة؟ كل هذا في فترة مائة وخمسين عامًا (حوالي الزمن الذي تم فيه تدوين أقدم مصدر مكتوب لهذا الحديث ، وهو الموطأ) ضمن دائرة من العلماء الذين بذلوا جهدًا كبيرًا لمنع وضع الأحاديث بالجملة ؟ يبدو أنه من الأرجح أن النبي قد قال بالفعل إن الله ينزل في الليل إلى السماء الدنيا لاستجابة دعاء الناس. كما يشير موتزكي ، بالتأكيد هنالك شك مسبق حول مصداقية الأحاديث والذي قد يكون لا أساس له على الإطلاق.
    المؤرخون الغربيون محقون تمامًا في الإشارة إلى المفارقة التاريخية المثيرة للريبة في حديث يقول فيه النبي: "إذا رأيتم معاوية على منبري ، فاقتلوه" ، أو حتى الحديث الأكثر فجاجة " يَكونُ في أمَّتي رجلٌ يقالُ لَهُ مُحمَّدُ بنُ إدريسَ أضرُّ على أمَّتي من إبليسَ". لكن نقاد الحديث المسلمين البارزين مثل ابن عدي والجوزقاني والذهبي اعتبروا أيضًا حديث معاوية غير صحيح أو موضوع، وقد استخدم علماء المسلمين الحديث الذي يدين الشافعي كمثال على وضع الأحاديث.
    على الرغم من أن العديد من علماء المسلمين يعتبرونها غير صحيحة ، إلا أن الأحاديث التي تدين "طائفة القدرية" (الذين لا يؤمنون بالقدر) تظهر في مصنفات مثل السنن الأربعة التي تحظى بالاحترام. بالتأكيد ، يبدو أن مصطلح "القدرية" لم يظهر لأكثر من قرن بعد وفاة النبي. لكن القفز إلى رفض هذه الأحاديث باعتبارها مزيفة بسبب مفارقة تنبوء النبي بظهور هذه الطائفة هو أمر متسرع. قد لا يقبل الدارسون الغربيون أن النبي يمكنه أن يتنبأ بالمستقبل ، لكن القرآن يتناول بوضوح مسائل الإرادة الحرة والقدر. فمن الجائز أن بعض المسلمين في زمن محمد (صلى الله عليه وسلم) قد أغضبوه بدعوتهم إلى فكرة أن الله لا يتحكم في أفعال البشر، لذا فليس من غير المعقول أن يكون قد حذرهم من ذلك.
    بشكل حاسم، لكل حديث يدين فيه النبي القدرية بهذه التسمية ، هناك رواية مقابلة لا يوجد بها مفارقة زمنية ، يشير فيها إليهم بوصف "أهل القدر" أو " الذين يكذبون بالقدر''. في الواقع، هذه الروايات الخالية من المفارقات هي الأكثر صحة وفقًا لعلماء المسلمين. ما يبدو للدارسين الغربيين وكأنه حالة مفارقة تاريخية واضحة قد يكون في الواقع حالة أدان فيها النبي بدعة قائمة، ثم قام بعض رواة هذه الأحاديث لاحقًا باستبدال "أهل القدر / أولئك الذين كذبوا بالقدر" بالتسمية التقليدية "القدرية" كما ظهرت في زمانهم.
    من المؤكد أن نقاد الحديث المسلمين يختلفون عن النقاد الغربيين في أنهم يعتقدون أن النبي يمكنه أن يتنبأ بالمستقبل، ولكن من الوارد أنه يمكن للدارسين الغربيين الاستفادة من نهجهم الحذر. استند المنطق الغربي في تصوره للحديث عن زيارة المساجد الثلاثة إلى حقيقة أنه يبدو أنه يروج لأجندة أموية وأن الزهري ،الذي كان مرتبطًا بالبلاط الأموي، موجود في الإسناد. لكن هناك أسانيد مبكرة لهذا الحديث لا تتضمن الزهري. هل يجب أن نعيد النظر في استنتاجنا أم نفترض، بدون سبب، أن هذه الأسانيد الأخرى ملفقة أيضًا؟ المسجد الأقصى مذكور في القرآن ، فهل من غير المعقول أن يأمر النبي أتباعه أن يولوه اهتمامهم إلى جانب المسجد الحرام في مكة ومسجده بالمدينة ؟
    قلت: كذلك الأحاديث الصحيحة التي تنبأ فيها بانتشار الإسلام وفتوح البلدان. فلو نظرنا للأمر من وجهة نظر مادية فالاعتقاد في أن الله سينصر هذا الدين ويظهره على سائر الملل ويورث الأرض عباده الصالحين هي عقيدة قرآنية بامتياز فلا عجب أن يكون قد تنبأ النبي بفتح المسلمين لتلك البلدان كما تنبأ القرآن بغلبة الروم على الفرس في خلال بضع سنين. وقد عبر القرآن عن ذلك بقوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ. وكذلك بقوله: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ وكذلك بقوله: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ. وقد ورد ذلك في المزمور 37 .


    ثم يضيف المؤلف: هناك شىء من منطق "الدجاجة والبيضة" في النهج الغربي فيما يخص الأحاديث. فقد انتقد جولدتسيهر وآخرون باستمرار الحديث، الذي يعتبره المسلمون صحيحًا، وفيه " إذا رأيتم الراياتِ السودَ قَدْ جاءَتْ مِنْ قِبَلِ خُرَاسانَ ، فأْتُوها فإِنَّ فيها خليفَةُ اللهِ المهدِيِّ '' ، والذي يعتبرونه من نتاج الدعاية الثورية للعباسيين (كان للعباسيين رايات سوداء وخرجوا من خراسان). لكن يجب أن نقبل حقيقة أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) ، سواءا كان نبيًا أم لا ، ربما تصرف بالفعل كنبي وتنبأ بين الحين والآخر. فهل صاغ العباسيون هذا الحديث عن الرايات السوداء والمهدى ، أم أنهم استفادوا من حديث موجود وصمموا راياتهم ببساطة لتلائم الصورة المسيانية التي وصفها النبي بالفعل؟ ( أحاديث الرايات السود اختلف في صحتها. قال ابن كثير في البداية والنهاية في شأن أحاديث الرايات السود بعد أن تكلم عن المقصود منها : هذا كله تفريع على صحة هذه الأحاديث، وإلا فلا يخلو سند منها عن كلام، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.)

    إذا نظرنا خارج التقليد الإسلامي، فإن سفر زكريا وهو أحد أسفار العهد القديم يقول: اِبْتَهِجِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ (زكريا 9: 9). هل حقيقة أن الأناجيل تصف دخول المسيح إلى أورشليم راكبا على جحش أو حمار (مرقس 11: 1 -11؛ متى 21: 1-4) تعني أن المسيحيين اختلقوا هذا الجزء من سفر زكريا لتأييد دعوى كون المسيح شخصية تنبأت بها الأسفار (نعلم أن هذا ليس صحيحًا لأن سفر زكريا أسبق من ظهور المسيحية)؟ أم هل دخل المسيح حقًا إلى أورشليم (ليس أمرا مستبعدا) راكبًا وسيلة نقل متاحة في زمنه - ألا وهو الحمار (ليس مستبعدًا) – وأن تلك حادثة وصفها كتاب الأناجيل بعد ذلك بلغة تحاكي لغة العهد القديم لإظهار كيف كانت حياة المسيح تمثل جزءًا من تحقق نبوءات العهد القديم؟ علاوة على ذلك، فإن دخول القيادي في طائفة "الكويكرز" الدينية جيمس نايلر إلى مدينة بريستول الإنجليزية عام 1656 ، راكبًا حمارًا بصحبة نساء ينثرن السعف أمامه ويغنيين "مقدس ، مقدس ، مقدس" ، لا يعني بوضوح أن طائفة الكويكرز اختلقوا القصة الواردة في الإنجيل. كان نايلر ببساطة يتقمص هيئة المسيح كما صورتها الأناجيل.
    وبالمثل، فإن بعض المفارقات التاريخية الواضحة الموجودة في بعض الأحاديث يمكن تفسيرها بأن من المسلمين من حاول أن يحاكي بأفعاله أو بتاريخه أحاديث قالها النبي.

    يتبع

  10. افتراضي

    اتفق نقاد الحديث المسلمون وغير المسلمين على أن هناك الكثير من الأحاديث المختلقة. في رأيي ، إن شرح كيفية حدوث ذلك ينطوي على فهم الاختيارات التي قام بها التقليد النقدي السني أكثر من التشكك في فاعلية هذا المنهج في نقد الأحاديث. من الناحية النظرية والعملية ، يعد النظام ثلاثي المستويات الذي يتألف من المطالبة بالمصدر والتحقق من موثوقيته والبحث عن أدلة مؤيدة هو طريقة فعالة للتحقق من صحة الرواية. فالمراسلون في العصر الحديث ،هم أيضا ، يستخدمون طريقة مماثلة. استشهد يونبول و كوك بظاهرة التدليس باعتباره الثغرة التي تُنسب بها الأحاديث إلى كبار الرواة أو يتم تزويدها بأسانيد إضافية.
    وزعم يونبول أن التدليس قليلا ما كان يكتشف. لكن علماء الحديث المسلمين من منتصف القرن الثامن فصاعدًا كان لديهم اهتمام بالغ بتحديد الرواة الذين تورطوا في التدليس ومتى حدث ذلك. فقد قال شعبة بن الحجاج (ت 160 هـ / 776 م) "التدليس أخو الكذب". قام شعبة بدراسة روايات أستاذه قتادة بن دعامة عن كثب ليعرف في أي مناسبة روى قتادة الحديث مباشرة من الشخص الذي ينقل عنه ومتى لم يكن من الواضح ما إذا كان هناك واسطة في نقل الرواية لم يتم النص عليه. نقاد آخرون كيحي بن سعيد القطان اتخذوا كل التدبير للتعرف على حدوث التدليس حتى عندما يرتكب من أشخاص يتمتعون بالاحترام والتبجيل مثل سفيان الثوري.
    في مرحلة لاحقة ، فإن كبار النقاد مثل علي بن المديني (توفي 234/849) ، والحسين الكرابيسي (ت 245/859) ، وآخرون صنفوا كتبا تتألف من مجلدات تحدد أسماء أولئك الذين ارتكبوا التدليس ودرجة تراخيهم في ارتكابه. زعم يونبول أن المنهجية النقدية لعلماء الحديث المسلمين لم تأخذ في الاعتبار إمكانية أن الأسانيد كانت مختلقة جملة وتفصيلا. لكن التركيز المكثف على إيجاد روايات مؤيدة من أجل تقييم الراوي كان يهدف إلى عزل هؤلاء الأشخاص الذين استشهدوا بأسانيد عن شيوخ لم يتابعهم عليها تلامذة آخرون لهؤلاء الشيوخ. والمقصود أنه إذا وجد أن بعض الرواة يروي عن شيخ أسانيد إلى النبي لم يرويها عن ذلك الشيخ غيره (أي يختلق الأسانيد) فإن هذا الراوي تطرح رواياته للأسانيد جانبا باعتبار أنه لم يُتابع عليها أو بوصفه أنه يروي المناكير.
    من الواضح أن أحكام علماء المسلمين بخصوص صحة الأحاديث الفردية لا يمكن قبولها دون فحص دقيق. ولكن ، كما أظهر موتزكي وآخرون ، كانت الطريقة الإسلامية التقليدية لتصفية الأحاديث الموضوعة أكثر فاعلية مما كان يعتقده الدارسون الأوائل مثل جولدتسير ويونبول. ومع ذلك ، اختار علماء السنة فقط تطبيق أدواتهم النقدية في بعض الأحيان. أكد نقاد الحديث السنة الأوائل مثل سفيان الثوري وابن المبارك وابن حنبل وابن معين وابن أبي حاتم الرازي على التعامل بصرامة مع أسانيد الأحاديث المتعلقة بالفقه والعقيدة ولكن أبدوا شيئا من التراخي في الروايات المتعلقة بالتاريخ (المغازي) ، الفضائل ، الوعظ ، أحداث النهاية (الملاحم) ، الأخلاق الحميدة ، ومعنى المصطلحات القرآنية (التفسير). وكما ذكرت نبيهة عبود، فإن هذه الروايات وتلك الأخبار مرت بسلاسة عبر المصفاة النقدية لعلماء الحديث. هذه هي الأبواب التي تركها العلماء السنة لتتسلل منها الروايات الضعيفة أو الموضوعة.
    تقدم سنن الترمذي نموذجا نافعا، حيث أنه، دون غيره، قدم تقييمه الخاص لكل حديث ورد في سننه. في الأبواب التي تتناول مسائل فقهية جوهرية ، هناك نسبة ضئيلة نسبيًا من الأحاديث التي يعيبها غياب المتابعات (الحديث الغريب). فبالنسبة لبابي الزكاة والصيام ، تبلغ النسبة 17٪، و باب الميراث (الفرائض) تبلغ 7٪ فقط. ومع ذلك ، فإن فصول كتاب الترمذي حول المسائل غير الفقهية تحتوي على نسبة أكبر بكثير من الأحاديث التي يعتبرها المؤلف نفسه محل إشكال كأحاديث الفتن - 35٪ ؛ المناقب - 52٪ ؛ الدعوات - 50٪ ؛ الآداب - 27٪. إذا كانت المتابعات هي حجر الزاوية في النقد الإسلامي للأحاديث ، فمن المؤكد أن الترمذي تخلى عن حارسه النقدي في الفصول غير الفقهية مقارنة بالفصول الفقهية.
    ثم يختم المؤلف هذا الفصل من كتابه بالقول:
    لسوء الحظ فإن العديد من المجالات التي يعتبرها الدارسون الغربيون أهم مواضيع الدراسة ألا وهي التاريخ السياسي، روايات الفتن والملاحم، والتفسير القرآني،لم تكن ببساطة من أولويات علماء الحديث السنة. من المحتمل أن يكون إعطاء الأولوية للشرع على المجالات الأخرى هو الذي أدى إلى إدراج أعداد كبيرة من الأحاديث غير الصحيحة في الكتب السنية، وليس إخفاق المنهجية السنية في نقد الأحاديث.

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء