لماذا تحدى الله بخلق أُمة الذباب وليس ذبابة واحدة؟
(شرح أحد معاني الخالق الباريء المصور)
لأن خلق ذبابة واحدة أمر قد يكون مقدور عليه في المستقبل، والله يتحدى كل البشر عبر كل الأزمنة مهما بلغ علمها، ولذا قال تعالى نافياً القدرة على ذلك في الحال والمستقبل (لن يخلقوا ذبابا)، فاستعمل الله (لن) التي تفيد النفي المستقبلي.
ولكن العلم تقدم واستطاع دراسة التركيب التشريحي للذبابة وغيرها من الحشرات وتقليد خلقها بل وفهم كيفية طيرانها وجعلها تطير، فصنعوا العديد من الروبوتات الحشرية التي يمكنها الطيران والتجسس، أليس هذا نجاح في التحدي؟!!، فقد خلقوا ما طلبت منهم يا رب؟!!
والجواب هو لا!
لم ولن ينجح أحد أبداً في تحدي الله بخلق (ذبابا)، والفرق بين (ذبابا) و(ذبابة) كبير جدا، فالتحدي بخلق ذبابة واحدة ممكن عن طريق المُضاهاة، أي خلق هيئة مماثلة، وهذا أمر في مقدور البشر كل حسب قدرته، فهناك من يرسم صورة مماثلة ثلاثية الأبعاد تأخذ بألباب الناظرين، وهناك من يصنع تمثال شكله الخارجي فقط هو الذي يشبه خلق الله، وهناك من يصنع روبوتات تشبه المخلوق بدرجات متفاوتة في الشكل الخارجي والداخلي، بل ويعطيها قدرات كالحركة والكلام وغيره من صفات الأحياء، ولكن مُحال أن يهبها الحياة الذاتية، أو ان يجعلها تتكاثر، فهذه صفات تتطلب وجود حمض نووي يمثل صورة لكل مركبات المخلوق، هذا الحمض النووي له قدرة على إعطاء المخلوق وظائفه، وقدرة على نقل الصفات الوراثية من الآباء إلى الأبناء.
والخلق بالمُضاهاة قد حكاه الله لنا في قرآنه فقال عن خلق عيسى للطير (وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير)، فصنع عيسى تمثالاً من الطين على هيئة طير مما هو في بيئته، ولكن كيف يحوله عيسى من تمثال إلى طير حقيقي، إنه لا يقدر على ذلك، ولذا قال الله (فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني)، فلولا إذن الله وفعله لما تحول هذا التمثال الطيني الى طير ككل الطيور عنده حياة تعتمد على الصورة الوراثية (الحمض النووي)، فيتمكن من أداء وظائفه ومنها التكاثر.
وما فعله عيسى عليه السلام مشابه لطريقة خلقه والله أعلم، قال الله (إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم)، فإن سألنا الله ما هو وجه المماثلة بين آدم وعيسى؟، أهي مماثلة كاملة في طريقة الخلق؟، أم مماثلة جزئية؟!.
فأجاب الله بقوله (خلقه من تراب)، فوجه المماثلة في الخلق من تراب، ولكن اختلفت الهيئة، فآدم خلقه الله على صورته التي عاش بها في الدنيا، أما عيسى فخلقه الله على هيئة جنين نفخه في بطن امه ثم نفخ فيه الروح، فصار بشر حي مثل ما صار تمثال عيسى الطيني طير حي، يمكنه النمو واداء وظائف أمته بما فيها التكاثر، وذلك لامتلاكه الحمض النووي المميز لتلك الأمة، ولذا أعتقد يقيناً أن عيسى لم يُخلق من خلايا مريم، ولكن خُلق جنيناً من طين، فشابه آدم في الخلق من طين، واختلف عنه في كونه بدأ حياته كجنين في بطن أمه مريم والله تعالى أعلى وأعلم.
ولذا فالتحدي في قول الله (إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له)، ليس المقصود به التحدي في باب المضاهاة بخلق ذبابة واحدة، فكثيرون هم الذين يقدرون عليه، ولكن المقصود هو تحويل التماثيل التي نخلقها إلى أمة لها حمض نووي يمكنها من النمو وأداء الوظائف الحيوية والتكاثر، أي جنس الذباب كله.
والذباب اسم جنس يشمل كل ما يُذب عن الوجه من حشرات مثل الذبابة المنزلية، والبعوض، والفراش والنحل وغيرها، والذباب جمع واحدته ذبابة أو ذبٌاب بتشديد الباء، فهناك فرق بين ذُبَاب بفتح الباء وهو جمع، وذبٌاب بتشديد الباء وهو مفرد، وجمع الجمع لكلمة ذباب هو ذبان أو أذبة. وقد حكى بعض اللغويين أن ذباب هو اسم مفرد، غير أن كثيرين من اللغويين يقولون بأن لغة العرب بها ذبابة، وهذا يقتضي ان تكون مفرد ذباب، ولذا ذهبت اغلب كتب اللغة إلى أن ذباب جمع، ومفرده ذبابة، وجمع الجمع أذبة وذبان، والله تعالى اعلى واعلم.
ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مُبيناً حقيقة التحدي بقوله في صحيح البخاري (ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً أوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أوْ شَعِيرَةً)، فمن شابه خلق الله لم يخلق شيء، فقط نجح في المضاهاة الشكلية، ومن أراد الخلق مثل الله فليخلق خلقا يمكنه إنتاج ذرية مثل الذرة أي النملة أو حبوب النباتات.
ولا يمكن إنتاج ذرية بغير الصورة الوراثية الخاصة بكل أمة من الأمم، فمن هو القادر على خلق حمض نووي وجعله فاعل نشط بحيث إذا وضعه في تمثال جعله كائن حي له القدرة على التكاثر وإنتاج أمة، وعندما أقول فاعل نشط أقصد الروح التي لا يعلم أمرها إلا الله، فصار أمر الخلق أصعب وأشق.
إذاً المقصود بذباباً أمة الذباب وليس ذبابة واحدة تضاهي أحد أفراد الذباب في الشكل أو حتى بعض الوظائف، وخلق أمة يقتضي خلق ذكر وأنثى لهما القدرة على التكاثر وإنتاج ذرية جديدة تختلف صفاتها الوراثية عن صفات الآباء، وهذا أمر لا يقدر عليه إلا الخالق الذي خص نفسه بذلك فقال واصفاً نفسه بأسماء الخلق والإيجاد على وجه الكمال الذي يليق به فقال (الخالق الباريء المصور).
والخالق اي القادر على الإيجاد من عدم وبتحويل مخلوق الى آخر، مثل خلق آدم من طين، وخلق الكون المنظور من الرتق.
فإن تعلق الخلق بالأحياء فهو الباريء المصور من بعد إيجاد الخلق الأول، أي هو الذي يخلق كل بريئة (ذرية) من مخلوق سابق (الآباء) بالتصوير في الأصلاب (خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم)، فنحن كنا صورة في صلب آدم قبل زواجه من حواء وقبل سجود الملائكة لآدم، وهذا هو تصوير الأصلاب، مجرد أحماض نووية تحمل صورة الذرية المستقبلية، مجرد خلايا جنسية تصور منها الذرية، فالصورة لا تكون إلا عن أصل، وأصل أمشاجنا في الأصلاب هو الخلايا الجنسية لآدم وحواء والتي تم تصويرنا منها.
أما تصوير الأرحام فمذكور في قول الله (هو الذي يصوركم في الأرحام)، ولأن الصورة لا تكون إلا عن أصل، فالأمشاج التي تم تصويرها في الاصلاب هي الاصل الذي تم تصويرنا منه في الأرحام.
فالمقصود بالتصوير كما يقول اهل اللغة ليس فقط إعطاء الشكل الخارجي، ولكن أيضاً إنتاج صورة من الأصل، والتصوير قد يكون مماثل تماما او فيه اختلاف بحسب ما يقتضي المصور.
ولأن اسم الله المصور من معانيه الذي يعطي كل مخلوق صورة يتميز بها عن غيره، فقد جعل صورة البريئة مختلفة عن صورة الآباء، والدليل على ذلك قول الله (وصوركم فأحسن صوركم)، وأحسن كما يقول أهل اللغة تشير للحسن كما تشير للتحسين، أي جعل المصور صوركم حسنة ومُحسنة، بحيث لا يشبه الفرع الأصل إلا بالقدر الذي يريده المصور كما ذكر ذلك في قوله تعالى (في اي صورة ما شاء ركبك).
وعليه فمن أراد أن يتحدى الله في باب الخلق فليخلق أمة تتكاثر مثل الذباب أو مثل البشر، ذكور وإناث، أحماض نووية بداخل كل خلية بما في ذلك الخلايا الجنسية التي تصور منها أمشاج الذرية في الاصلاب، ثم تلاقح وتصوير لذرية محسنة وراثياً من تلك النطفة الأمشاج عبر مراحل معلومة مشاهدة تختلف من أمة لأخرى، فلكل كائن حي دورة حياة خاصة به لإنتاج الذرية، وصدق الله إذ يقول (لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له).
اللهم ما كان من توفيق فمنك وحدك وما كان من ظن أو خطأ أو سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء.
د. محمود عبدالله نجا
ا. م. بكلية طب القنفذة - جامعة أم القرى