فصفة الإخلاص ؛ قال تعالي فيها : مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (20) الشوري
و هذا يكفي في الرد علي إباحة الشافعي ؛ فإباحته عند هي إرادة لعيش الدنيا و لذتها ؛ و العيش محرم لقول الرسول في الحديث الثابت عنه لبيك يا رب لا عيش إلا عيش الأخرة فأصلح الأنصار و المهاجرة ، أما ما أستدل به الشافعي في لفظ أباح ، أجاز لا يستلزم أستواء طرفي الفعل و الترك إنما إرشاد علي عدم التحريم و دفع للعمل ، و بيان للعمل الذي يرجو ثوابه إن أمتثلته.
و لزيادة تثبت للمتشكك الذي لا يعقل إلا بعقل عالم فقد نقل في محيط الزركشي : فَالْمُرَادُ بِالْإِبَاحَةِ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي التَّحْلِيلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْدُوبٍ إلَيْهِ. وَقَدْ يَجْرِي فِي كَلَامِ الْفُقَهَاءِ: جَازَ لَهُ أَوْ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا وَيُرِيدُونَ بِهِ الْوُجُوبَ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا كَانَ الْفِعْلُ دَائِرًا بَيْنَ الْحُرْمَةِ وَالْوُجُوبِ فَيَسْتَفِيدُ بِقَوْلِهِمْ: يَجُوزُ نَفْيُ الْحُرْمَةِ فَيَبْقَى الْوُجُوبُ.
محيط الزركشي :
[مَسْأَلَةٌ مِنْ صِيَغِ الْمُبَاحِ]
ِ وَمِنْ صِيَغِهِ أَعْنِي الْمُبَاحَ: رَفْعُ الْحَرَجِ، كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلسَّائِلِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» وَمِنْ صِيَغِهِ فِي الْقُرْآنِ: نَفْيُ الْجُنَاحِ، وَمِنْ ثَمَّ صَارَ الشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ الْقَصْرَ مُبَاحٌ لَا وَاجِبٌ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ} [النساء: ١٠١] وَالْجُنَاحُ: الْإِثْمُ، وَهَذَا مِنْ صِفَةِ الْمُبَاحِ لَا الْوَاجِبِ. وَأُجِيبُ عَنْ قَوْله تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: ١٥٨] وَالسَّعْيُ وَاجِبٌ بِأَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: نُزُولُهَا عَلَى سَبَبٍ وَهُوَ ظَنُّهُمْ أَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ وُجُوبِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ذَكَرَهُ الْمَاوَرْدِيُّ.
[مَسْأَلَةٌ الْإِبَاحَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ]
ٌّ] الْإِبَاحَةُ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمُعْتَزِلَةِ، وَالْخِلَافُ لَفْظِيٌّ يَلْتَفِتُ إلَى تَفْسِيرِ الْمُبَاحِ، إنْ عَرَّفَهُ بِنَفْيِ الْحَرَجِ، وَهُوَ اصْطِلَاحُ الْأَقْدَمِينَ، فَنَفْيُ الْحَرَجِ ثَابِتٌ قَبْلَ الشَّرْعِ، فَلَا يَكُونُ مِنْ الشَّرْعِ، وَمَنْ فَسَّرَهُ بِالْإِعْلَامِ بِنَفْيِ الْحَرَجِ فَالْإِعْلَامُ بِهِ إنَّمَا يُعْلَمُ مِنْ الشَّرْعِ فَيَكُونُ شَرْعِيًّا.
[مَسْأَلَةٌ الْإِبَاحَةُ لَيْسَتْ بِتَكْلِيفٍ]
ٍ] الْإِبَاحَةُ، وَإِنْ كَانَتْ شَرْعِيَّةً لَكِنَّهَا لَيْسَتْ بِتَكْلِيفٍ خِلَافًا لِلْأُسْتَاذِ أَبِي إِسْحَاقَ، فَإِنَّهُ قَالَ: إنَّهُ تَكْلِيفٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّا كُلِّفْنَا اعْتِقَادَ إبَاحَتِهِ، وَرُدَّ بِأَنَّ الِاعْتِقَادَ لِلْإِبَاحَةِ لَيْسَ بِمُبَاحٍ بَلْ وَاجِبٍ، وَكَلَامُنَا فِي الْمُبَاحِ. وَالنِّزَاعُ لَفْظِيٌّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: هُوَ تَكْلِيفٌ بِمَعْرِفَةِ حُكْمِهِ، لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُكَلَّفَ لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى فِعْلٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، وَقَدْ يَنْفَصِلُ عَنْ هَذَا بِأَنَّ الْعِلْمَ بِحُكْمِ الْمُبَاحِ خَارِجٌ عَنْ نَفْسِ الْمُبَاحِ.
قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَقَدْ غَلَّطَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ حَيْثُ قَالَ فِي حَدِّ الْفِقْهِ: إنَّهُ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ الْمُكَلَّفِينَ، وَفِي الْفِقْهِ مُبَاحَاتٌ كَثِيرَةٌ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِدُخُولِ الْمُبَاحِ فِي التَّكْلِيفِ هَلْ دَخَلَ فِيهِ بِإِذْنٍ أَوْ أَمْرٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: بِإِذْنٍ لِيَخْرُجَ عَنْ حُكْمِ النَّدْبِ. وَالثَّانِي: بِأَمْرٍ دُونَ أَمْرِ النَّدْبِ، كَمَا أَنَّ أَمْرَ النَّدْبِ دُونَ أَمْرِ الْوَاجِبِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى خُرُوجِهِ مِنْ التَّكْلِيفِ بِإِذْنٍ أَوْ أَمْرٍ، لِاخْتِصَاصِ التَّكْلِيفِ بِمَا تَضَمَّنَهُ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ.
[مَسْأَلَةٌ الْمُبَاحُ لَا يُسَمَّى قَبِيحًا]
] أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ لَا يُسَمَّى قَبِيحًا، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُسَمَّى حَسَنًا أَمْ لَا؟ وَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى تَعْرِيفِ الْحَسَنِ، وَقَدْ سَبَقَ.
[مَسْأَلَةٌ الْمُبَاحُ هَلْ هُوَ جِنْسٌ لِلْوَاجِبِ]
ِ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي إذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ هَلْ يَبْقَى الْجَوَازُ؟
قَالَ الْمَازِرِيُّ: وَقَدْ غَلَّطَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهِ حَيْثُ قَالَ فِي حَدِّ الْفِقْهِ: إنَّهُ الْعِلْمُ بِأَحْكَامِ الْمُكَلَّفِينَ، وَفِي الْفِقْهِ مُبَاحَاتٌ كَثِيرَةٌ. قَالَ بَعْضُهُمْ: وَاخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِدُخُولِ الْمُبَاحِ فِي التَّكْلِيفِ هَلْ دَخَلَ فِيهِ بِإِذْنٍ أَوْ أَمْرٍ؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: بِإِذْنٍ لِيَخْرُجَ عَنْ حُكْمِ النَّدْبِ. وَالثَّانِي: بِأَمْرٍ دُونَ أَمْرِ النَّدْبِ، كَمَا أَنَّ أَمْرَ النَّدْبِ دُونَ أَمْرِ الْوَاجِبِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى خُرُوجِهِ مِنْ التَّكْلِيفِ بِإِذْنٍ أَوْ أَمْرٍ، لِاخْتِصَاصِ التَّكْلِيفِ بِمَا تَضَمَّنَهُ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ.
[مَسْأَلَةٌ الْمُبَاحُ لَا يُسَمَّى قَبِيحًا]
] أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ لَا يُسَمَّى قَبِيحًا، وَاخْتَلَفُوا هَلْ يُسَمَّى حَسَنًا أَمْ لَا؟ وَهُوَ مُفَرَّعٌ عَلَى تَعْرِيفِ الْحَسَنِ، وَقَدْ سَبَقَ.
[مَسْأَلَةٌ الْمُبَاحُ هَلْ هُوَ جِنْسٌ لِلْوَاجِبِ]
ِ؟ فِيهِ خِلَافٌ سَبَقَ فِي إذَا نُسِخَ الْوُجُوبُ هَلْ يَبْقَى الْجَوَازُ؟
[مَسْأَلَةٌ الْمُبَاحُ هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ]
ِ] الْمُبَاحُ هَلْ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ؟ خِلَافٌ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ حَقِيقَةٌ فِي مَاذَا؟ هَلْ هُوَ نَفْيُ الْحَرَجِ عَنْ الْفِعْلِ أَوْ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ أَوْ فِي النَّدْبِ أَوْ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ بِخِلَافِ الثَّانِي وَالْمُخْتَارُ: أَنَّهُ لَيْسَ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ خِلَافًا لِلْكَعْبِيِّ حَيْثُ قَالَ: كُلُّ فِعْلٍ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُبَاحٌ بِاعْتِبَارِ ذَاتِهِ، فَهُوَ وَاجِبٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَرَكَ بِهِ الْحَرَامَ. وَحَكَاهُ ابْنُ الصَّبَّاغِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الدَّقَّاقِ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِفِعْلِهِ مُطِيعًا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ: إنَّ الْمُبَاحَ حَسَنٌ، وَصَرَّحَ الْقَاضِي عَنْ الْكَعْبِيِّ فِي " مُخْتَصَرِ التَّقْرِيبِ " بِأَنَّ الْمُبَاحَ مَأْمُورٌ بِهِ دُونَ الْأَمْرِ بِالنَّدْبِ، وَالنَّدْبَ دُونَ الْأَمْرِ بِالْإِيجَابِ.
قَالَ الْقَاضِي: وَهُوَ، وَإِنْ أَطْلَقَ الْأَمْرَ عَلَى الْمُبَاحِ فَلَا يُسَمَّى الْمُبَاحُ وَاجِبًا، وَلَا الْإِبَاحَةُ إيجَابًا، وَتَبِعَهُ فِي هَذَا الْغَزَالِيُّ فِي " الْمُسْتَصْفَى " وَابْنُ الْقُشَيْرِيّ فِي أُصُولِهِ " وَعَلَى هَذَا فَلَا يَكُونُ الْكَعْبِيُّ مُفَاجِئًا بِإِنْكَارِ الْمُبَاحِ
وَهُوَ قَضِيَّةُ اسْتِدْلَالِهِ. وَنَقَلَ الْإِمَامُ عَنْهُ فِي " الْبُرْهَانِ " وَإِلْكِيَا الْهِرَّاسِيُّ: أَنَّهُ بَاحَ بِإِنْكَارِ الْمُبَاحِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَالَ: هُوَ وَاجِبٌ، وَكَذَا نَقَلَهُ ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ " وَ " الْأَوْسَطِ " وَالْآمِدِيَّ وَغَيْرُهُمْ وَالْأَلْيَقُ بِهِ مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي، وَكَذَلِكَ نَقَلَهُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَنَسَبَهُ إلَى مُعْتَزِلَةِ بَغْدَادَ، فَلَمْ يَنْفَرِدْ بِهِ إذَنْ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ، فَقَدْ قَالَ بِهِ أَبُو الْفَرَجِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ: حَكَاهُ عَنْهُ الْبَاجِيُّ، ثُمَّ قَالَ: إنْ كَانَ مُرَادُهُمْ بِكَوْنِ الْمُبَاحِ مَأْمُورًا بِهِ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي فِعْلِهِ وَتَرْكِهِ، فَالْخِلَافُ فِي الْعِبَارَةِ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنَّ الْإِبَاحَةَ لِلْفِعْلِ اقْتِضَاءٌ لَهُ عَلَى جِهَةِ الْإِيجَابِ أَوْ النَّدْبِ وَأَنَّ فِعْلَ الْمُبَاحِ خَيْرٌ مِنْ تَرْكِهِ فَهُوَ بَاطِلٌ.
وَقَالَ الْإِبْيَارِيُّ: ذَهَبَ الْكَعْبِيُّ إلَى أَنَّهُ لَا مُبَاحَ فِي الشَّرِيعَةِ، وَلَهُ مَأْخَذَانِ. أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الصَّحِيحُ عِنْدَهُ أَنَّ الْمُبَاحَ مَأْمُورٌ بِهِ وَلَكِنَّهُ دُونَ النَّدْبِ، كَمَا أَنَّ الْمَنْدُوبَ مَأْمُورٌ بِهِ وَلَكِنْ دُونَ الْوَاجِبِ، وَهَذَا بَنَاهُ عَلَى أَنَّ الْمُبَاحَ حَسَنٌ، وَيَحْسُنُ أَنْ يَطْلُبَهُ الطَّالِبُ لِحُسْنِهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ فِي الْفَتْوَى، وَهُوَ غَيْرُ مَعْقُولٍ، فَإِنَّ هَذَا الْمَطْلُوبَ إمَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ فِعْلُهُ عَلَى تَرْكِهِ أَوْ لَا: فَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ فَهُوَ الْمُبَاحُ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ تَرَجَّحَ فَإِنْ لَحِقَ الذَّمُّ عَلَى تَرْكِهِ؛ فَهُوَ الْوَاجِبُ، وَإِلَّا فَهُوَ الْمَنْدُوبُ، وَمَنْ تَخَيَّلَ وَاسِطَةً فَلَا عَقْلَ لَهُ. انْتَهَى.
و كذا فإن ضرر المباح واقع و كما قال العلماء فكيف يأمر الله بما يضر ؟
يتبع ، إن أردتم المشاركة قبل الإكمال فلكم.
Bookmarks