الذي يطالع الأناجيل سواءا القانونية منها وما يعرف بأناجيل الأبوكريفا يلاحظ أن هناك جملة من التقاليد (الروايات) الشفهية التي كانت متداولة في العقود التي تلت حياة المسيح ثم جاء جيل من الأتباع قام بتدوين سير للمسيح استنادا لتلك التقاليد الشفهية المتداولة. وبطبيعة الحال فقد تباينت تلك التقاليد من حيث دقتها و صحتها. ولم تكن الأناجيل القانونية بحالة فريدة او متميزة عن سائر الأناجيل التي لم
يقدر لها أن تجد موضعا في قائمة الاسفار المعترف بها من الكنائس.

ميلاد مريم
ومن تلك التقاليد ما يتعلق بميلاد مريم وعيسى عليهما السلام. لم تذكر الأناجيل القانونية شيئا فيما يخص ميلاد مريم ونشأتها. لكن في إنجيل يعقوب Gospel of James وهو ليس من الأناجيل القانونية ويرجع تدوينه إلى النصف الأول من القرن الثاني الميلادي على أقل تقدير (بارت إيرمان: الأسفار المفقودة) وردت قصة حنه والدة مريم وزوجها "يهوياقيم" (في القرآن عمران) اللذين بلا ذرية وتضرعهما إلى الله أن يهب لهما ذرية وتبشير الله لهما بالذرية (لم يرد في القرآن). وكذلك ورد ذكر نذر حنه ما في بطنها لله وكذلك أن المولود أنثى و تسميتها مريم (ورد في القرآن وحنه أشير إليها بوصفها امرأة عمران). ولما بلغت 3 سنوات أرسلوها إلى الهيكل لكي تتم تنشئتها هناك. هنا ذكر القرآن أن زكريا عليه السلام هو من كفلها وذكر نفس الإنجيل أنه كان الكاهن الأعلى بينما ذكر إنجيل لوقا أنه كان كاهنا ولم يذكر أنه الكاهن الأعلى وأنه في يوم أصابته القرعة لأن يدخل الهيكل ويبخِّر ( أحد الطقوس اليهودية) فبشره الملاك بالغلام الذي يولد له. ولم ترد جزئية اقتراع القوم على كفالة مريم كما ذكر القرآن وأن القرعة أصابت زكريا. لكن ورد في إنجيل يعقوب أن الملائكة كانت تأتي بالطعام لمريم في الهيكل وأنها لما بلغت 12 عاما أرادوا أن يخرجوها من الهيكل لاحتمال أن يتدنس بدماء الحيض فاقترعوا على من يتزوجها فأصابت القرعة يوسف النجار والذي لم يكن كاهنا وكان أرملا له أولاد من امرأته المتوفاة. (لم يرد ليوسف النجار أي ذكر على الإطلاق لا في القرآن ولا في الأحاديث الصحيحة وربما الضعيفة أيضا)
أما الرواية القرآنية ذكرت نذر امرأة عمران ما في بطنها لله وأن المولود أنثى وتسميتها مريم وأن زكريا كفلها بعد أن اقترعوا على من يكفلها وأنه كلما دخل عليها المحراب وجد لديها طعاما فتخبره أنه من عند الله وحينئذ لأن زكريا كان بلا ذرية دعى الله أن يهب له الذرية فبينما هو قائم يصلى في المحراب بشرته الملائكة بميلاد يحيى من زوجته العاقر (أليصابات كما في إنجيل لوقا وأخت مريم كما يفهم من الحديث الصحيح أو احدى قريباتها كما في إنجيل لوقا)
ثم يذكر إنجيل لوقا أنها كانت تقيم في الناصرة مع يوسف بالرغم من أنه لم يكن قد أتم زواجه بها بعد (هناك تفصيل بهذا الخصوص فيما يلي). ثم ذكر قصة حملها بالمسيح وظهور جبريل لها ليبشرها بحملها بالمسيح ثم أمر القيصرأغسطس بأن يحصى كل رعاياه فصدر أمر من كيرينيوس والي سوريا الرومانية (ومقاطعة يهوذا الرومانية أيضا) بأن يحصى كل سكان مقاطعة يهوذا الرومانية (تاريخيا لم يكن هناك إحصاء يشمل رعايا أغسطس في الإمبراطورية بأكملها لكن ذكر يوسفوس أن كيرينيوس لما تولى مقاطعة يهوذا قام بإحصاء شمل تلك المقاطعة لفرض الضرائب وكان ذلك سنة 6 ميلادية وليس قبل ذلك) فاضطر يوسف أن يأخذ مريم وهي حبلى إلى بيت لحم لأجل الإحصاء. ولا يذكر إنجيل متى شيئا عن الإحصاء لكنه ذكر أن يوسف وجد مريم خطيبته حبلى فأراد أن يطلقها سرا لكن ظهر الملاك له في الرؤيا ليخبره أنها حبلى بقوة الروح القدس وأن عليه أن يضمها إلى بيته كزوجه ففعل ثم ذكر إنجيل متى أن الميلاد كان في بيت لحم وأنه كان في عهد هيرودس الكبير ( توفي ما بين 4 إلى 1 قبل الميلاد) ولم يذكر أن مريم كانت تقيم بالناصرة ابتداءا. وذكر إنجيل متى أمر هيرودس قتل كل الأولاد الذكور في بيت لحم من يساوي أو يقل عمرهم عن عامين لئلا يفقد ملكه لذلك المولود الذي توجد نبوءة بشأنه وأنه يكون ملكا على اليهود. وكذلك ذكر هروب يوسف بمريم والمسيح إلى مصر ثم عودتهم لاحقا واستقرارهم بالناصرة. وقد وافق إنجيل يعقوب إنجيل لوقا في مسألة الإحصاء واضطرار يوسف للذهاب بمريم وهي حبلى إلى بيت لحم لكنها ولدت في الطريق بين أورشاليم و بيت لحم. ويبدو من إنجيل يعقوب أن يوسف كان يقيم بأورشاليم وأنه أخذ مريم من الهيكل إلى بيته. ثم استدعى الكهنة بحسب إنجيل يعقوب مريم للهيكل لحياكة بعض الستائر الخاصة بالهيكل وبينما هي هناك جاءها الملاك وبشرها بحملها بالمسيح فعادت لبيتها خائفة. وكان يوسف قد غادر البيت لفترة لبعض شأنه ولما عاد وجدها حبلى. فخشي أن يتهمه الكهنة إن علموا بحملها أنه المسئول عن ذلك. وحدث ما خشي يوسف لكنه تم تبرئة يوسف ومريم من خلال طقس يسمى" اختبار المياه المرة". غير أن هذا الطقس يستخدم في حالة أن الزوج اتهم امرأته بالزنا فلا ينطبق على هذه الحالة. وكذلك وافق إنجيل يعقوب إنجيل متى في جزئية المذبحة التي أقامها هيرودس للأطفال في بيت لحم وكذلك مسألة هروب يوسف بمريم والمسيح إلى مصر. إلا أنه على خلاف مسألة الإحصاء التي ذكرت في مصادر غير إنجيلية ( إلا أنها كانت بعد ميلاد المسيح بستة أعوام) فالمذبحة التي أقامها هيرودس لم تذكر في أي مصدر خارجي بما في ذلك مؤلفات المؤرخ اليهودي يوسيفوس الذي أرخ لأحداث القرن الميلادي الأول المختصة باليهود في فلسطين بما في ذلك قتل هيرودس لثلاثة من أبنائه.
أما الرواية القرآنية بشأن حمل مريم بالمسيح فلا ذكر فيها ليوسف النجار ولا خطبتها له ولا ضمها لبيته ولا حياكة الستائر بالهيكل. ما ذكره القرآن أن زكريا هو من كفل مريم. وذكر القرآن أن مريم في مناسبة ما انتبذت من أهلها مكانا شرقيا فاتخذت من دونهم حجابا. وذهب بعض المفسرين أن المقصود أنها اعتزلت أهلها في موضع ما إلى جهة الشرق من المحراب أو الهيكل واحتجبت عنهم لأجل العبادة. لكن يغلب على الظن عدم صحة ذلك لأنها كانت تتعبد في المحراب فمن غير الراجح أن تتركه وتلجأ للعزلة لأجل العبادة أيضا لاسيما وقد خاطبتها الملائكة من قبل لتبشيرها باصطفاء الله لها وتبليغ أمره لها بالقنوت والسجود والركوع في جماعة. كما في قوله تعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. وكان زكريا كلما دخل عليها وهي تتعبد في المحراب وجد عندها طعاما يتعجب من وجوده لديها فتقول أنه رزق ساقه الله بقدرته النافذة وقد ورد في إنجيل يعقوب أن الملائكة هم من كانوا يوصلون ذلك الطعام إليها. والأصح أن اعتزالها في موضع ما عن أهلها كان على عادة اليهود وقتها لأجل حيض أصابها كما ذكر السدي ونقله عنه ابن كثير في تفسيره. ويؤيد ذلك اللفظ الذي ذكره القرآن وهو انتبذت فهو من الفعل "نبذ" أي طرحه أو أبعده أو رماه فإذا عرفنا أن الحائض في العبرانية تسمى "نده" Niddah وهو من الفعل ndd وهو بمعنى نبذ دل ذلك على أن اعتزالها كان لحيض أصابها. وقد ذكر الحبر والعالم الكتابي جاكوب ميلغروم في تفسيره لسفر اللاويين أن الحائض كانت في كثير من المجتمعات اليهودية يتم إبعادها إلى مواضع أشبه بأماكن للحجر. ولعل مريم فعلت ذلك من تلقاء نفسها عملا بالقواعد التي كانت سارية وقتها وربما كان ذلك من جملة الآصار و الأغلال التي فرضت على بني إسرائيل.
وكذلك قوله تعالى "فاتخذت من دونهم حجابا" يغلب على الظن أنه لأجل الاغتسال عندما انقضى حيضها لأن الفاء في " فاتخذت" هي للتعقيب. لكن القرآن على عادته في الخطاب يكني و يتسخدم عبارات لطيفة. وكان يشترط لأجل الطهارة أن يغمر الجسم كاملا في مياه تجمعت بشكل طبيعي مثل مياه العيون والأنهار أو في أحواض تمتلىء بمياه الأمطار وكان يطلق على تلك المياه المتجمعة لفظ " ميكفاه" Mikveh . ولدى فراغها من الطهارة فاجأها ملك الوحي جبريل ليخبرها بأن الله يبشرها بحملها بالمسيح ولذا عقب على قوله فاتخذت من دونهم حجابا بقوله "فأرسالنا إليها روحنا" وهو جبريل عليه السلام في صورة بشر.



ميلاد المسيح
الرواية القرآنية عن ميلاد المسيح تختلف عن الرواية الواردة بالأناجيل القانونية. فقد اتفق إنجيل لوقا ومتى على أن الميلاد كان ببيت لحم. وأضاف لوقا أن مريم لما ولدته قَمَّطَتْهُ (أي لفته في قماط وهو الخرقة التي يلف بها المولود) وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ (موضع علف الدواب)، إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ (أي النزل الذي رغبوا في الإقامة به). بينما ذكر إنجيل يعقوب أن الميلاد كان في كهف بين أورشاليم وبيت لحم وكذلك ذكر يوستينيوس وهو أحد آباء الكنيسة القدماء (توفي 165 ميلادية) في "حوار مع تريفو اليهودي" أنه ولد في كهف خارج بيت لحم.
أما القرآن فقد ذكر أن مريم لما حملت بالمسيح وبدت عليها أمارات الحمل نأت به إلى مكان بعيد وقد يكون هو عينه الموضع الذي ذكر في إنجيل يعقوب أي في موضع بين أورشاليم وبيت لحم. إلا أن إنجيل يعقوب ذكر أن الميلاد وقع في أحد الكهوف. أما القرآن فقد ذكر أن المخاص لما فاجأ مريم ألجأها إلى جذع نخلة حيث وضعت وليدها ثم سمعت صوتا (قيل صوت جبريل وقيل المسيح ) يأمرها بهز الجذع كي يتساقط عليها البلح ويصرف انتباهها لوجود ينبوع ماء يجري بجانب النخلة وهذا يحتمل أن الينبوع كان موجودا بالفعل أو تدفق وقتها. ولا يوجد في الأناجيل القانونية أي ذكر لهذه القصة. لكن توجد تقاليد سجلت في بعض النصوص مثل إنجيل منتحل متى وهو إنجيل ينتحل مؤلفه شخصية متى الحواري. لكن في ذلك الإنجيل وردت القصة في سياق الهرب إلى مصر بعد أن ولد المسيح بالفعل حيث توقفت مريم في طريق الهرب بصحبة يوسف النجار فأكلت من النخلة بعد أن أمرها المسيح وهو لا يزال رضيعا بأن تنحني لكي يمكن اقتطاف ثمارها وكذلك فجر لها ينبوع الماء لتشرب. إلا أن هذا الإنجيل متأخر جدا في تدوينه حيث يرجع إلى نهاية القرن السادس أو القرن السابع بينما أرجع آخرون تدوينه إلى القرن الثامن أو التاسع.
إلا أن المؤرخ ستيفين شوميكر Stephen J. Shoemaker ذكر أن هناك مجموعة من النصوص التي تتناول وفاة مريم Mary's Dormition and Assumption ذكرت التقليد المتعلق بالأكل من النخلة والشرب من ينبوع الماء ولكن أيضا في سياق الهرب إلى مصر بعد ولادة المسيح. وهو يقدر بناءا على اعتبارات داخلية في النص أن النص يرجع للقرن الثالث الميلادي إن لم يكن قبل ذلك. وهذا بحد ذاته دليل على أن ذلك التقليد أيضا كان متداولا في مرحلة مبكرة.
وقد عثر على أنقاض كنيسة على الطريق بين القدس وبيت لحم يرجع بناؤها للنصف الأول من القرن الخامس الميلادي وقد بنيت على نفس الموضع الذي يعتقد أن مريم جلست فيه لتستريح وهي لا تزال حبلى في طريقها من أورشاليم إلى بيت لحم جنوبا كما هو مذكور في إنجيل يعقوب. ولذا سميت الكنيسة "مقعد مريم" أو كنيسة كاثيسما Kathisma والتي تعني حرفيا المقعد باليونانية.
وذكر ستيفن شوميكر أنه في أحد النصوص التي دونها أحد الحجاج الإيطاليين ويرجع تاريخه للقرن السادس الميلادي ذكر أنه في طريقه من أورشاليم إلى بيت لحم وجد ينبوع الماء ذلك لا يزال متدفقا وذكر وجود تلك الكنيسة إلا أنه وصفه – وفق ما سمع من الناس هناك - بأنه الموضع الذي استراحت فيه مريم في رحلة الهرب إلى مصر.
وهذا بطبيعة الحال خطأ. لأن التقليد القائل بأن مريم هربت لمصر – بالرغم من كونه غير صحيح أصلا على الراجح لأن مسألة مذبحة الأطفال التي دبرها هيرودس لا أصل لها – يذكر أن ذلك كان بعد ميلاد المسيح في بيت لحم وليس قبل أن تصلها مريم لأجل الإحصاء كما هو في إنجيل لوقا ويعقوب أيضا (وهو من الناحية التاريخية كما تقدم فيه نظر لأن الإحصاء إن كان صحيحا فقد حدث سنة 6 ميلادية وليس عند ولادة المسيح).
وبالتالي فأصل التقليد الشفوي هو أن مريم مرت بذلك الموضع بعد خروجها من أورشاليم وهي في طريقها لبيت لحم جنوبا وهي لا تزال حبلى فأكلت من النخلة وشربت من الينبوع (بصرف النظر عن الداعي للخروج من أورشاليم إلى بيت لحم). وكان ذلك قبل أن تفكر في الفرار إلى مصر خوفا من بطش هيرودس (بتقدير صحة ذلك التقليد) لأنها لو أرادت الهرب إلى مصر من بيت لحم فلا معنى لأن تعيد أدراجها شمالا باتجاه أورشاليم بحيث تمر بذلك الموضع على الطريق بين أورشاليم وبيت لحم بل تواصل السير جنوبا.

الاســـم:	Nativity_of_Jesus_map_–_Gospel_of_Matthew.jpg
المشاهدات: 190
الحجـــم:	11.0 كيلوبايت
الأسهم الخضراء توضع خط سير الحكماء أو الملوك الثلاثة المجوس الذين قدموا من الشرق إلى أورشاليم ومنها إلى بيت لحم ثم عادوا من حيث أتوا بحسب إنجيل متى.

الميلاد (أو الحمل) العذري
لم ترد مسألة الميلاد العذري صراحة إلا في اثنين من الأناجيل القانونية (لوقا ومتى) فضلا عن بعض أناجيل الأبوكريفا مثل إنجيل يعقوب. بينما صمتت رسائل بولس وأناجيل مرقس ويوحنا بهذا الخصوص.
لكن هناك بعض العبارات الواردة في تلك الأسفار التي قد تتعلق بهذه المسألة. ففي رسالة بولس إلى أهل غلاطية أن المسيح "مولودا من امرأة" وكذلك في الرسالة إلى أهل روما أنه " من نسل داود من جهة الجسد".
فمن اللافت للنظر أن بولس لم يأتي مطلقا على ذكر يوسف النجار أو والد المسيح. لكن في المقابل قوله أنه من نسل داود قد يعني بالتبني كما يرى ذلك متى في إنجيله عندما وضع نسبا للمسيح إلى داود من خلال يوسف النجار مع قوله أنه ليس أباه الحقيقي. أو حتى أنه من نسل داود من جهة أمه. لأن المولود من يهودية بحسب المشناه إذا لم يكن أبوه يهودي ( أو لا يعرف من أبوه بالتبعية) ينسب إلى أمه.
ولعل مما يؤيد أن المسيح لم يكن يُعتقد أن أباه الحقيقي هو يوسف النجار ما ورد في إنجيل مرقس الإصحاح 6 ( وهو أقدم الأناجيل) من أن أهل الناصرة وصفوه بالنجار "ابن مريم"، حيث كان يعمل نجارا. فلو كان ابن يوسف حقيقة لقالوا ابن يوسف لأن الأصل في النسب في اليهودية أن ينسب إلى أبيه مالم يكن غير يهودي أو مجهول وهو ما لا ينطبق على يوسف النجار. وليس معنى ذلك أنهم يطعنون فيه كما زعم "جيرد لودمان". وكذلك فإن طائفة اليهود المتنصرين أو ما يعرفون بالإبيونيين ebionites، وهم لا يؤمنون بألوهية المسيح ولا عقيدة الصلب للفداء ويتمسكون بالشريعة التوراتية، وإن كان قد نقل عنهم آباء الكنيسة إنكار الميلاد العذري فقد نقل أيضا عن طائفة منهم القول بالميلاد العذري.
لكن هذا يثير إشكالية كيف نجت مريم من عقوبة الرجم إذا عُرف عنها أنها أنجبت من غير زوجها. لا يقدم إنجيل لوقا حلا لهذه الإشكالية. فقد اكتفى بالقول بأن مريم كانت مخطوبة ليوسف النجار وأن يوسف أخذها وهي حبلى لبيت لحم لأجل الأحصاء دون أن يتم زواجه بها. ومعنى خطبة مريم ليوسف أنه كان هناك عقد زواج بحيث قد أتما الجزء الأول من الزواج على الطريقة اليهودية والذي يسمى erusin وخلال تلك الفترة تظل الفتاة في بيت أهلها دون أن يحق لزوجها أن يواقعها. ويتلو ذلك بعد عدة أشهر عادة الجزء الثاني من الزواج والذي يسمى nissuin وهو إتمام الزواج بالدخول.
بينما حاول متى تقديم حل لهذه الإشكالية ( وإن لم يصرح) بالقول أنه لما بدت عليها أمارات الحمل أراد تخليتها لكن الملاك ظهر له وأخبره أنها حبلى بقوة الروح وأنه عليه أن يضمها لبيته.
لكن هذا لا يحل الإشكال. لأنه إذا بدت عليها أمارات الحمل فلن تقتصر ملاحظة تلك الأمارات على يوسف النجار. والعلامات الواضحة للحمل التي لا يمكن إخفاؤها لا تظهر إلا بعد مرور أشهر من الحمل. فعلى سبيل المثال ثقل البطن وكبره لا يظهر إلا بعد مرور ما بين 12 إلى 18 أسبوعا. وحتى لو دخل بها بعد ظهور علامات الحمل الواضحة فستلد في فترة يسيرة من دخوله بها وستظل علامات الاستفهام قائمة. ولذا فرواية إنجيل متى أيضا ليست برواية متماسكة.
في المقابل لا يوجد أي دور لشخصية يوسف النجار في الرواية القرآنية. وبتقدير وجود تلك الشخصية فوجوده كان هامشيا. ووفق ما ذكره القرآن فإن مريم لما حملت وبدت عليها أمارات الحمل الواضحة (لم يرد ذلك التفصيل لكنه يفهم ضمنا) ابتعدت بحملها عن قومها. ولا يذكر القرآن إلى أي جهة ذهبت لكن ورد حديث ضعيف عن أنس و شداد بن أوس عن النبي صلى الله عليه وسلم من أن ميلاد المسيح كان ببيت لحم. وذكر القرطبي في تفسير قوله تعالى: مكانا قصيا عن ابن عباس قوله: إلى أقصى الوادي ، وهو وادي بيت لحم بينه وبين إيلياء أربعة أميال ؛ وإنما بعدت فرارا من تعيير قومها إياها بالولادة من غير زوج. وهذا يتوافق مع الموضع الذي ذكره إنجيل يعقوب. وفي حال الفرار فاجأها المخاض وألجأها إلى جذع النخلة كما تقدم.
ثم أوحى الله إليها من خلال جبريل أو على لسان وليدها أن تعود به لقومها وأن تقول لهم بلغة الإشارة أنها نذرت لله صوما فلن تخاطب أحدا في يومها ذلك. ومسألة النذر حاضرة بقوة في الشريعة اليهودية حيث ينذر المرء أن يفعل شيئا لله. ويسمى النذر في العبرية neder ويكون ذلك النذر ملزما لصاحبه ولا يجوز له الإخلال به بحسب الشريعة اليهودية. والصوم عن الكلام وإن كان ليس مذكورا في التلمود ولا التوراة إلا أنه جزء من التقليد اليهودي ويطلق عليه ta’anit dibbur ويمتنع خلاله من نذر أن يفعله عن الكلام مطلقا باستثناء قراءة التوراة والصلوات ونحو ذلك من العبادات نظير ما يفعله المسلمون في صلاتهم.
فلما أتت قومها واتهموها بأنها حملت سفاحا، تكلم المسيح في مهده مخبرا عن حقيقة حاله فكان ذلك دليلا قاطعا على برائتها من التهمة وأن حملها به هو أمر خارق للعادة مثل تكليمه لهم وهو لا يزال رضيعا. فلا شيء أقل من هذا يدفع عنها التهمة ويدرأ عنها الحد وهو الرجم إن كانت قد عُقد عليها إلا أن يقول من خطبت إليه وأتم الجزء الأول من الزواج أنه من فعل بها ذلك وهذا وإن كان لا يستوجب الحد إلا أنه كان فعلا مشينا. فبحسب التوارة المرأة التي أتمت الجزء الأول من الزواج على الأقل إذا واقعت رجلا آخر وجب عليها حد الرجم. والحمل هو دليل قاطع على المواقعة في طبيعة الأحوال. فمالم تكن هناك قرائن على أنها اغتصبت فلا معنى لحملها وولادتها سوى أنها واقعت رجلا.
والقرآن وإن لم يصرح بأنها كانت مخطوبة إلا أنه صرح بأنها لم يمسسها بشر فدل على أنها لم تكن امرأة متزوجة زواجا تاما على الأقل وبالتالي يلزم من حملها وولادتها الفضيحة إن لم يكن الحد.
ولذا فالرواية القرآنية متماسكة في مقابل رواية إنجيلي لوقا ومتى.
ولم ترد مسألة كلام المسيح في المهد في أي إنجيل سابق على ظهور الإسلام. وما يعرف بإنجيل الطفولة العربي ( أو السرياني) Arabic infancy gospel الذي وردت فيه رواية تكلم المسيح في مهده هو لاحق على ظهور الإسلام ولا يوجد أي دليل على وجوده قبل الإسلام وهذا ما عليه المحققون وأقدم المخطوطات تعود للعام 873 ميلادية.