سليمان عليه السلام بين القرآن وأسفار أهل الكتاب

لقد دافع القرآن الكريم عن النبي سليمان عليه السلام ضد الافتراءات التي افتراها اليهود عليه حيث زعموا أنه كفر وأنه من خلال صنعة السحر استطاع تسخير الجن والشياطين. فقال تعالى: واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا. الآية
فزعموا أنه عبد أصنام الصيدونيين والموآبيين وبني عمون عشتاروت و كموش ومولك (الملوك الأول 11:7) وإن كان بعضهم حاول تفسير ما ورد بسفر الملوك الأول تفسيرا مجازيا بالقول بأنه لم يفلح في كف نساءه اللاتي تزوج بهن من الأمم الأخرى عن عبادة الأوثان!.
والسبب في هذا الكذب والبهتان أنهم يريدون أن يضعوا وزر انقسام مملكتهم على عاتق سليمان فقد ورد في سفر الملوك الأول الإصحاح 11 أن نبيا يدعى أخيّا الشيلوني أخبر يربعام أن الله سيمزق ملك سليمان وينزع من سلطته عشرة أسباط تكون تحت حكم يربعام لكن إكراما لداود لن يكون ذلك في حياة سليمان بل بعد وفاته عندها يخلفه ابنه رحبعام.
وقد بلغ السفه ببعض أحبار اليهود أن زعموا أن سليمان – حاشاه – قد زنا بملكة سبأ وأن نبوخذ نصر الذي خرب الهيكل خرابه الأول هو من نسلهما. ومنهم من كان يتندر بحكمة سليمان حتى قال أحد أحبارهم وهو شمعون بن يوحاي (القرن الثاني الميلادي) أنه كان من الأفضل له أن يعمل بتنظيف مجاري الصرف!. وقال يهوذا بن إيلاي لو كنت لدى سليمان عندما حكم بين الزانيتين لوضعت حبلا حول رقبته. وزعموا أنه جاء صوت من قبل السماء يلومه على حكمه. وهذه القصة وردت في الصحيحين مع اختلاف في التفاصيل عما ورد في سفر الملوك من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: بينما امرأتان معهما ابناهما إذ عدا الذئب فأخذ ابن إحداهما، فتنازعتا في الآخر.فقالت الكبرى: إنما ذهب بابنك. وقالت الصغرى: بل إنما ذهب بابنك.فتحاكمتا إلى داود فحكم به للكبرى، فخرجتا على سليمان فقال: ائتوني بالسكين أشقه نصفين لكل واحدة منكما نصفه، فقالت الصغرى: لا تفعل يرحمك الله هو ابنها فقضى به لها. أي أنه استدل بقرينة الرحمة والرأفة بالولد في قلب الصغرى على أنه ابنها.

في المقابل فلم ينكر القرآن على سليمان سوى انشغاله بالخيل عن الذكر والصلاة ذات مرة فقال تعالى: إذ عرض عليه بالعشي الصافنات الجياد * فقال إني أحببت حب الخير عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب *ردوها علي فطفق مسحا بالسوق والأعناق. أي فلما أدرك أنه انشغل بالخيل حتى فاتته الصلاة قام بعقرها تقربا إلى الله كي لا تشغله مرة أخرى. واليهود يزعمون أن اتخاذه لعدد كبير من الخيل (12 ألف حصان كما في الملوك الأول 10:26) هو مخالفة لوصايا التوراة استنادا للتثنية 17: 16-17.
وقد زعم اليهود كما في كتاب"الزوهار" Zohar (والذي ينسب لشمعون بن يوحاي لكن هذه النسبة يشكك فيها المؤرخون لكن على كل حال فهو يحتوى على تقاليد قديمة سابقة على زمن تدوينه ) أن الشيطان "آشماداي" علم سليمان فنون السحر وأن ما تعمله دونه في كتاب يحتوى على تعوذيات لإخضاع الشياطين. كما نسبوا له مصنفات في السحر مثل "عهد سليمان" Tzava'at Shlomoh و " سفر مفتاح سليمان" Sefer Maphteah Shlomo.
كما زعموا أنه كان ينجم ويمارس العيافة وهي إدعاء معرفة الغيب من خلال ملاحظة حركة الطيور وأصواتها كما في مدراش Pesikta de-Rav Kahana. لكن القرآن برأه من هذه التهمة فقال أن سليمان عُلِّم منطق الطير أي لغة الطير فكان يستطيع أن يتواصل مع الطيور كما تتواصل مع بعضها البعض فتبلغه مرادها ويبلغها مرداه. فقال تعالى : وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء. الآية
وذكرت الموسوعة اليهودية أنه وفقا لأدبيات الحقبة التلمودية فقد كان كبار علماء اليهود على دراية بالسحر وكانوا يستخدمونه لمعارضة السحر الأسود (الذي يستغل في إيقاع الأذى والضرر) حتى زعموا أنهم صنعوا عجلا ليأكلوه من خلال السحر!. وكانوا يستخدمون السحر أيضا لعقاب المذنبين وقيل أن بعضهم حوّل أحد المذنبين لكومة من العظام.
وكذلك كانوا يجيزون استخدام التمائم ويسمونها kemi'ot للوقاية من العين والسحر وكان هناك نوعان أحدهم تمائم تحتوى على ورقة مكتوب عليها بعض العبارات التي قد تكون مقتبسة من الأسفار المقدسة أو تحتوى على اسم الله أو أسماء الملائكة أو غير ذلك. والآخر تمائم تتخذ من جذور بعض النباتات.
ومن هذه التمائم أيضا ما يستخدم في إيقاع الأذى ومن هذا القبيل السحر الذي صنعه لبيد بن الأعصم اليهودي حيث جعله في مشط، وهو الأداة التي يمشط بها الشعر، ومشاطة، هو ما يخرج من شعر الرأس أو اللحية عند تمشيطه، و جعل ذلك في جف طلع نخلة والجف هو الغشاء الذي يكون حول طلع النخل ثم وضع الجميع في بئر يقال له بئر ذروان.
لكن الله عافى نبيه و أوحى إليه ما كان من فعل لبيد فذهب للبئر وردمها وقيل أنه استخرج السحر من البئر قبل ردمه.
وهذا الحديث مذكور في صحيح البخاري وغيره. ويغلب على الظن أن اليهود تعلموا السحر من البابليين في غضون السبي البابلي. وسفر أشعياء 47 يدل على اشتهار بابل بالسحر والشعوذة. وقد أشار القرآن إلى تعلمهم السحر ببابل.
فقال تعالى: وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت.
وذهب القرطبي إلى أن ما في قوله وما أنزل هي نافية. أي لم ينزل على الملكين شيء من ذلك. ذلك أن اليهود كما في التلمود Yoma 67b قالوا أن ملَكين يقال لهما عزازيل وعُزّى Uzza and Azael فتنوا الناس وعلموهم السحر وارتكبوا الفاحشة مع الآدميات وكان ذلك قبل نوح والطوفان وهذا إشارة لما ورد في السفر الذي يسمى سفر أخنوخ الأول.
وعلى تفسير القرطبي فمن علم الناس السحر ببابل هم الشياطين وهاروت وماروت بدل من الشياطين أي المقصود وما كفر سليمان (أي لم يمارس السحر) وما أنزل على الملكين (أي السحر) ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل وهؤلاء الشياطين يطلق عليهم هاروت وماروت. لكن جعل جملة "وما أنزل على الملكين" جملة اعتراضية.
والمعنى أن الله جعلهم فتنة للناس وألزمهما قبل أن يعلما أحدا السحر أن يخبرونه أنهما فتنة.
وعلى القول الآخر أن هاروت وماروت ملكان أرسلهما الله ليعلما الناس في بابل نوعا من السحر وكان ذلك فتنة لهم على أن يحذرا من رغب في التعلم من عاقبة تعلم ذلك السحر وأن من تعلمه ما له في الآخرة من نصيب.
ويقال أن هاروت وماروت هما من جملة الكائنات الماورائية التي تسمى اَمِشاسْپَندان أو اَمِشَه سْپَنتَه والذين يعتقد المجوس (الزرادشتية) في وجودهم ويطلقون عليهما Hauruuatāt Amərətāt . وكذلك يقال أنهما من ورد ذكرهما في سفر أخنوخ الثاني باسم أريوخ وماريوخ Arioch Marioch وهما بحسب السفر ملكان كلفهما الله بوقاية صحف أو أسفار أخنوخ (إدريس؟) من التلف بفعل الطوفان.
أما قوله تعالى: ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب. قال بعض السلف أن هذا الجسد هو شيطان تمثل في صورته. قال الشيح ابن عثيمين في تفسيره أن ذلك كان في غيبة سليمان .... وسليمان لما جاء إلى مكان جلوسه وجده مشغولًا بهذا العفريت، وعجز عن إنزاله عن الكرسي ... وأن الله سلط عليه هذا الشيطان ليختبره سبحانه وتعالى، هذا قول لبعض العلماء، وقد رُوي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه شيطان، ولكن ابن عباس -كما هو معلوم- كان أخذ عن بني إسرائيل كثيرًا، وربما يكون هذا مما أخذه. اهـ
واليهود يقولون أن ذلك الشيطان هو آشماداي وهناك روايات كثيرة في الأدبيات اليهودية بهذا الخصوص ومنها ما ورد في المدارش المعروف بـ Midrash Al Yit'hallel أن بَنَايَا بْنُ يَهُويَادَاعَ قائد الحرس لما أراد أن يتحقق من هوية سليمان لدى عودته أراد منه أن يخبره بأمارة فأخبره أنه لدى تتويجه وضع داود احدى يدي سليمان في يد بنايا والأخرى في يد النبي ناثان ثم قامت أمه بتقبيل رأس داود. فتأكد بنايا من أنه سليمان حقا وكان قد أخبره أنه بينما هو جالس في قصره جاءت ريح عاتية وحملته إلى مكان بعيد ولهذا غاب عن ملكه وقصره. ثم توجه بنايا بصحبة أعضاء مجمع السنهدرين لإزاحة آشماداي ولما هم بنايا أن يضربه بالسيف نادى مناد من السماء ألا يفعل لأن آشمادي لم يكن إلا منفذا للأمر الصادر له.
وعندئذ دعى سليمان ربه كما ذكر القرآن أن يهب له ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فسخر الله له الريح تجري بأمره لينة كي لا تضر بأحد تحمله إلى حيث شاء وكانت تجري في فترة الغدو (وهي ما بين الفجر وطلوع الشمس أو زوالها) مسيرة شهر ذهابا وفي فترة الرواح ( وهي ما بين الزوال أو الغروب إلى الليل) مسيرة شهر إيابا والمسيرة هي وفق سير الإبل أي أنه كان يقطع في يوم ما تقطعه الإبل في شهرين.
كما سخر له الجن ليصنعوا وليبنوا له ما أراد ومن ذلك بيت المقدس أو ما يعرف بالهيكل الأول أو هيكل سليمان ( وهذا ورد أيضا في التلمود Gittin 68a) وكذلك أسال الله له عين نحاس فكان النحاس يسيل من الأرض كما يتدفق الماء من الينبوع وقال السدي في كما ورد في التفاسير أن عين النحاس سالت لثلاثة أيام. والنحاس في العادة يستخرج من معدنه الخام (وهو عبارة عن صخور) من خلال عملية الصهر smelting.
وذكر سفر الملوك الأول أن مايضاهي حوالي 34 طنا من الذهب ( 1086 وزنة) جلب إلى أورشاليم في عهد سليمان من موضع يسمى أوفير بواسطة سفن أقلعت من ميناء على خليج العقبة. وإن كان لا أحد يعلم أين هو ذلك الموضع إلا أن البعض قال أن ذلك الموضع هو ما يعرف بمنطقة مهد الذهب في الجزيرة العربية حيث عثر بواسطة بعثة من الجيولوجين الأمريكيين وخبراء سعوديين على منجم ذهب قديم هناك. وهي تقع إلى الجنوب من خليج العقبة بحوالي 372 ميلا وتبعد عن شاطئ البحر الأحمر بحوالي 149 ميلا.
لكن القرآن لم يأتي على ذكر الذهب بل ذكر أن الله أسال لسليمان عين القطر كما تقدم. والنحاس كان له أهمية كبيرة جدا في العالم القديم. فقد كانت تصنع منه الحُلي وأدوات الطهي والأدوات المعدنية كالفأس والإزميل والقدوم و كذلك التماثيل وآلات العزف كما أنه يخلط بعناصر أخرى لصناعة سبائك مقاومة للتآكل مثل القصدير لصناعة البرونز وكان يستخدم أيضا في صناعة العملات.
ويرى بعض الباحثين أن سبب ثراء سليمان ومملكته هو مناجم النحاس. فقد عثر الباحثون في وادي تمناع جنوب فلسطين بالقرب من إيلات على آثار صناعة مزدهرة لاستخراج النحاس من المناجم هناك تعود إلى ما قبل 3 آلاف عام ما بين القرن الحادي عشر والقرن التاسع قبل الميلاد وهو ما يتزامن مع فترة حكم سليمان (970 – 931 قبل الميلاد). وذكروا أن استخراج النحاس توقف حوالي 850 قبل الميلاد نتيجة لعدم توفر الأخشاب التي تسخدم في صناعة الفحم اللازم لعملية الصهر.

المصادر

1906 Jewish Encyclopedia,Vol 11, pp. 436-448

Encyclopedia Judaica 2008, Amulets

Antonio Panaino, “HORDĀD,” Encyclopaedia Iranica, XII/5, pp. 458-460

Shemesh, Abraham O.. (2018). 'And God gave Solomon wisdom': Proficiency in ornithomancy. HTS Theological Studies, 74(1), 1-9.

Cartwright, Mark. "Copper in Antiquity." World History Encyclopedia. World History Encyclopedia, 04 Oct 2017. Web. 04 Apr 2023.

Cavanagh, M., Ben-Yosef, E. & Langgut, D. Fuel exploitation and environmental degradation at the Iron Age copper industry of the Timna Valley, southern Israel. Sci Rep 12, 15434 (2022).