اليهود قتلة الأنبياء
ذكر المفسرون في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىٰ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ. الآية، أن جماعة من اليهود، منهم مالك بن الصيف ووهب بن يهوذا وفنحاص بن عازوراء، جاءوا للنبي صلى الله عليه وسلم فزعموا أن الله أوصاهم، وتقدم إليهم في كتبه وعلى ألسن أنبيائه أن لا يصدِّقوا رسولا فيما يقول إنه جاء به من عند الله من أمر ونهي وغير ذلك حتى يجيئهم بقربان تنزل نار من السماء فتأكله، و القربان هو ما تقرَّب به العبد إلى ربه من صدقة.
وما أشار إليه اليهود هو ما يعرف في الشريعة اليهودية "بقرابين المحرقة". لكن لم يكن نزول نار من السماء لتأكل القربان أمرا اعتياديا، لكن سُجل ذلك في بعض المناسبات وكان ذلك علامة على قبول القربان، ومن أمثلة ذلك النار التي أكلت قربان هابيل (التكوين 4:4)، وكذلك قربان هارون (اللاويين 9:24)، والقرابين التي قدمت عند تكريس الهيكل (أخبار الأيام الثاني 7:1)، وكذلك قربان إيلياس في منافسته أنبياء "بعل" (الملوك الأول 18:38) وبعل هو وثن كان يعبد قديما في بلاد الشام.
والمنافسة التي جرت بين النبي "إيليا" (إلياس) وبين "أنبياء" بعل لا شأن لها بالتحقق من صدق النبي المرسل من قبل إله بني إسرائيل بل كانت للتحقق ممن هو الإله الحق أهو الله إله بني إسرائيل أم بعل إله "إيزابيل" زوجة الملك أخاب الذي أدخلت عبادته إلى مملكة إسرائيل الشمالية. وقد وبخ إيليا بني إسرائيل على عبادتهم لبعل وقد ذكر القرآن ذلك. قال تعالى: وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ * أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ * اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ * إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ.
فلو افترضنا جدلا أن اليهود استنتجوا من ذلك أن الله عهد إليهم ألا يؤمنوا لرسول أممي أو من غيرهم، بالرغم من أن أنبياء بعل هؤلاء كانوا من بني إسرائيل كما يشير إلى ذلك سفر إرميا (2:8)، حتى يأتيهم بقربان تأكله النار فهو استنتاج فاسد قطعا لأنه ليس في تلك المنافسة ما يدل على ذلك.
ورد القرآن عليهم بالقول: قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات وبالذي قلتم فلم قتلتموهم. الآية، لا يعني أن القرآن يسلم أن الله عهد إليهم بذلك. بل المقصود على فرض أن الله عهد إليهم فلابد أن الأنبياء الذين قتلهم بنو إسرائيل (وهم يقرون بنبوتهم) جاءوا أيضا بالقربان فلماذ قتلوهم إذا؟
واشتراطهم – على وجه الخصوص - القربان الذي تأكله النار للإيمان إن لم يكن تعنتا فما هو التعنت إذا؟ فعامة أنبياء بني إسرائيل لم يأتوا بقرابين ولم ينزلوا نارا من السماء لتأكلها. فلا سند لهم في عقل ولا نقل في اشتراط القربان. والآيات لا ترسل بناءا على أوهام المتوهمين. وإلا فلا فرق بين قولهم و قول قريش الذي حكاه القرآن عنهم: وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَّقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلَّا بَشَرًا رَّسُولًا.
الله يرسل الرسل بالآيات الدالة على صدقهم لمن يبحث عن الحق وليس من يبحث عن ذرائع وأعذار للتكذيب. والآيات ليس مايشترطه المعاندون بالضرورة بل ما تقوم به الحجة عليهم. ثم بماذا نفعت بني إسرائيل النار التي نزلت من السماء وأكلت القربان؟ ألم يصروا على عبادة بعل اتباعا لملوكهم وأرادوا قتل إيليا (إلياس)؟ حتى هرب إلى جبل حوريب ودخل أحد كهوفه وكلمه الرب قائلا: ماذا تفعل هنا؟ فأجاب إيليا: غِرْتُ غَيْرَةً لِلرَّبِّ الإِلَهِ الْقَدِيرِ، لأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَنَكَّروا لِعَهْدِكَ وَهَدَمُوا مَذَابِحَكَ وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَكَ بِالسَّيْفِ، وَبَقِيتُ وَحْدِي، وَهَا هُمْ يَبْغُونَ قَتْلِي. (الملوك الأول 19 : 14)
فأمره أن يذْهَبْ إِلَى دِمَشْقَ، وَهُنَاكَ أمره أن يمسَحْ (ينصب)حَزَائِيلَ مَلِكاً عَلَى أَرَامَ، و يَاهُو بْنَ نِمْشِي مَلِكاً عَلَى إِسْرَائِيلَ، وَكَذَلِكَ أَلِيشَعَ (اليسع)نَبِيًّا خَلَفاً له. قائلا: فَالَّذِي يَنْجُو مِنْ سَيْفِ حَزَائِيلَ يَقْتُلُهُ يَاهُو، وَالَّذِي يَنْجُو مِنْ سَيْفِ يَاهُو يَقْتُلُهُ أَلِيشَع وأنه لم يبق فِي إِسْرَائِيلَ سوى سَبْعَةَ آلافٍ لَمْ يَحْنُوا رُكَبَهُمْ لِلْبَعْلِ وَلَمْ تُقَبِّلْهُ أَفْوَاهُهُمْ. وهؤلاء لم يكونوا بحاجة للقربان كي لا يعبدوا بعل.
و القرآن لا يحمل يهود المدينة وزر قتل الأنبياء ولا وزر عبادة العجل. فليس هذا مقصوده من قوله"فلم قتلتموهم" أو قوله "فلم تقتلون أنبياء الله من قبل" فليس هذا الجيل المخاطب بهذا الكلام هو من فعل ذلك مثلما أنه ليس هو من عبد العجل ولكنه كما قال المفسرون يعيرهم بما فعله آباؤهم ويريد أن يقول لهم: إنكم لا تختلفون في شيء عن هؤلاء الذين قتلوا الأنبياء أو عبدوا العجل. وهذا سائغ إذا كانوا معاندين للحق مكابرين مثلهم، بخلاف من آمن منهم كعبد الله بن سلام رضي الله عنه فلا يعير بذلك. وكما أن الآيات لم تنفع قتلة الأنبياء وعبدة العجل من آبائهم كذلك لن تنفعهم. بل التجرد في طلب الحق، وهم يجدون ذكره في كتبهم، هو ما ينفعهم. فالرد القرآني على من يطلب آية حسية لا يختلف في حالة اليهود عن حالة المشركين وهو أن الآيات لم تنفع الأولين، لكن اليهود - بخلاف المشركين - على الأقل يسلمون بسوابق لم تنفع فيها الآيات. فالأنبياء المقتولون والذين كُذبوا جاءوا بالآيات و بالرغم من ذلك قُتلوا أو كُذبوا.

وبنو إسرائيل ارتدوا على مدار 350 عام فقط – في عصر القضاة – 7 مرات ناهيك عن عبادة العجل في عهد موسى.
ففي سفر القضاة 3:7 : فَارْتَكَبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ وَنَسُوا إِلَهَهُمْ وَعَبَدُوا الْبَعْلِيمَ وَالْعَشْتَارُوثَ... ثم في خلال نصف قرن: فَعَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَقْتَرِفُونَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ فَسَلَّطَ الرَّبُّ عَلَيْهِمْ عِجْلُونَ مَلِكَ مُوآبَ عِقَاباً لَهُمْ عَلَى شَرِّهِمْ. ثم في الإصحاح التالي: وَبَعْدَ مَوْتِ إِهُودَ عَادَ بَنُو إِسْرَائِيلَ يَرْتَكِبُونَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ .. وهكذا حتى تمام 7 دورات من الردة وارد ذكرها في الإصحاحات 6 و 8 و10 من نفس السفر. وغير ذلك أمثلة عديدة على نوبات الردة وعبادة أصنام الأمم المحيطة بهم كبعل وعشتروت ومولك (إرميا 2:19)، (حزقيال 16). وكذلك ارتد كثير من ملوكهم وعبدوا الأصنام كآخاب الذي قتل العديد من الأنبياء وحاولت زوجته قتل إيليا كما تقدم وتابعهما على ذلك عامة قومهم، وابنه أخزيا ملك إسرائيل، ويربعام الثاني ملك إسرائيل، ويهورام بن يهوشافاط ملك يهوذا وابنه أخزيا ملك يهوذا، ويوآش ملك يهوذا الذي قتل النبي زكريا بن يهوياداع، ومنسى ملك يهوذا الذي قتل النبي أشعياء، وابنه أمون الذي خلفه ثم قام الملك يوشيا بإصلاحات دينية لم يلبث أن انقلب عليها ابنه يهوياقيم ملك يهوذا الذي قتل النبي أوريا بن شمعيا وهذا الملك هو الذي في عهده حاصر نبوخذ نصر أورشاليم ومات في أثناء الحصار، وفي عهد الملك صدقيا آخر ملوك يهوذا حاول الملأ منهم قتل النبي إرميا بإلقائه في الجب ليموت جوعا.
كما عدد الحبر "موشى ها دارشان" Moshe haDarshan في مدراشه على سفر العدد (30:15) ستة أنبياء قتلهم بنو إسرائيل من ضمنهم أوريا بن شمعيا و زكريا و أشعياء إلى جانب حور ابن مريم - وقيل زوجها - أخت هارون وموسى الذي عين من قبل موسى إلى جانب هارون لقيادة الشعب في غيابه و الذي قتله بنو إسرائيل لأنه حاول منعهم من عبادة العجل ما جعل هارون يخشى معارضتهم كي لا يقتلوه كما قتلوا حور (Sanhedrin 7a) - وقد أشار القرآن إلى ذلك – وأخيا الشيلوني الذي قتله أبيام بن رحبعام ملك يهوذا، و أخيرا النبي إرميا حيث ذكر أن اليهود قتلوه رجما بمصر وقد خرجوا إليها بعد سقوط أورشاليم في يد الكلدان وقد ورد ذلك أيضا في السفر المسمى "سير الأنبياء" حيث ذكر أنه قتل بمنطقة تل دفنة. فضلا عن ذلك فقد ذكر الحبر "جيداليا بن يحيى" Gedaliah ibn YaḦyah (بحسب الموسوعة اليهودية 1906، مادة عاموس) أن النبي عاموس قتله عُزيا ملك يهوذا بعدما طرد من مملكة إسرائيل في عهد يربعام الثاني لما تنبأ بدمارها (على يد الآشوريين) لأجل عصيانهم و تمردهم فقد صنعوا عجلا ذهبيا كعجل قوم موسى وقالوا هذا يرمز لإله إسرائيل فأعادوا الكرة من جديد وصنعوا كما صنع أسلافهم من قبل. وذكر أيضا السفر المعروف بسير الأنبياء Vita Prophetarum أن أمصيا كاهن بيت إيل هو من قتله بضربة على صدغه. ولو افترضنا أنه لم يقتل فهذا مثال على النبي الذي كذبوه لأنه جاءهم بما لاتهوى أنفسهم. وكذلك النبي زكريا بن برخيا بن عدو صاحب السفر القانوني المعروف بسفر زكريا وقد أشار المسيح إلى قتله (لوقا 11) وقد ورد ذلك أيضا في ترجوم آرامي على سفر "المراثي" Targum of Lamentations (TgLam) . وكذلك قتلهم للنبي يحي بن زكريا الذي قتله "هيرودوس أنتيباس" لأنه انتقد بشدة وعاب عليه الزواج من أرملة أخيه التي تسمى "هيروديا" لأن ذلك بحسب شريعة اليهود لا يجوز (اللاويين 20:21) لأنها أنجبت من أخيه. وكان ذلك بتحريض منها و من ابنتها سالومي بعد أن طلق ابنة "الحارث الرابع" Aretas ملك الأنباط. وذكر المؤرخ يوسيفوس أنه قتله أيضا لأجل تأثر الناس به حيث كانوا يحتشدون لسماع حديثه وخوفه من أن يستغل قدرته على التأثير فيهم في أن يشعل ثورة ضده. و ذكر أن اليهود كانوا يعتقدون أن هزيمة هيرودس أنتيباس على يد الحارث الرابع - في الحرب التي ثارت لأجل طلاق ابنته - كانت انتقاما من الله لأجل قتله.
فهذا التاريخ المشين الملىء بالردة وعبادة الأصنام و قتل الأنبياء و الشروع في قتلهم حتى وصفهم كتابهم المقدس نفسه بأنهم قتلوا الأنبياء الَّذِينَ حَذَّرُوهُمْ وَأَنْذَرُوهُمْ كما في نحميا (9:26) وأن سيوفهم افترست أنبياءهم كأسد كاسر كما في إرميا (2:30) ثم يأتي بعضهم وينكر على القرآن وصفهم بقتلة الأنبياء أو يقول اليهود لم تكن عندهم عادة قتل الأنبياء.
------------
المصادر
Reynolds, G. S. (2012). ON THE QUR’ĀN AND THE THEME OF JEWS AS “KILLERS OF THE PROPHETS”, Al-Bayan: Journal of Qur'an and Hadith Studies, 10(2), 9-32

The Killing of the Prophets: Unraveling a Midrash, BETSY HALPERN AMARU, Hebrew Union College Annual Vol. 54 (1983), pp. 153-180