فصل الدين عن الدولةأصبحت قضية فصل الدين عن الدولة ، أو ما يسميه الغربيون فصل الدولة
عن الكنيسة ، من القضايا المسلَّم بها في الفكر الغربي السياسي ، ومن ثم في الفكر
السياسي العالمي الدائر في فلك الحضارة الغربية . ودعاة فصل الدين عن الدولة قد
يعترفون بأن هذا أمر حدث لظروف تاريخية خاصة بالحضارة الغربية ، وبالديانة
النصرانية ؛ لكنهم مع ذلك يرون أنه أصبح أمراً لازماً لكل دولة حديثة ، ويسوِّغون
هذا بأن الأساس في الدولة الحديثة هو المواطنة ، وما دام المواطنون في الدولة
الواحدة لا ينتمون في الغالب إلى دين واحد ، بل تتقاسمهم أديان متعددة ، وقد يكون
بعضهم ملحداً لا يؤمن بدين ؛ ففي التزام الدولة بدين واحد من هذه الأديان افتئات
على حقوق المواطنين المنتمين إلى الأديان الأخرى أو المنكرين لها كلها لأنه :
- يفرض عليهم ديناً لا يؤمنون به .
- ويحرمهم من ممارسة الدين الذي اختاروه إما كله أو بعضه .
- ويحرمهم من حقهم في شغل بعض الوظائف الكبيرة كرئاسة الدولة ، وقد
يكون سبباً لخلافات ونزاعات عميقة تفقد الدولة معها الاستقرار اللازم لتطورها .
ويرون لذلك أن تكون الدولة دولة علمانية محايدة لا تلتزم بالدين ولا تحاربه
ولا تنكره ، بل تترك أمره للمواطنين يختارون ما شاؤوا من عقائد ، ويلتزمون بما
يريدون من قِيَم ، ويمارسون ما يروق لهم من عبادات .
هذه الصورة للعلمانية التي حرصت على أن أجعلها براقة كأشد ما يريد
المدافعون عنها أن تكون ، تنطوي على افتراضات هي أبعد ما تكون عن الحقيقة .
ومن ذلك :
أولاً : أنها تفترض أن العلمانية يمكن أن تكون محايدة بالنسبة لكل الأديان ؛
لكنها لا تكون كذلك إلا إذا كان مجال الدين مختلفاً عن مجال الدولة ، أي إذا كان
الدين والدولة يعيشان في منطقتين مستقلتين لا تماسَّ بينهما ، وأن دعاة الدولة
الدينية يقحمون الدين في مجال غير مجاله ، ولذلك يضرون به وبالدولة .
فهل هذا الافتراض صحيح ؟ إنه لا يكون صحيحاً إلا إذا كان الدين
محصوراً بطبعه في بعض المعتقدات وبعض الشعائر التعبدية ، وبعض أنواع
السلوك الشخصي الذي لا علاقة له بالجماعة ، ولا يدخل لذلك في مجال الدولة ، لكن
الواقع أن هذا الوصف لا ينطبق على أي من الأديان الكبيرة المشهورة :
اليهودية والنصرانية والإسلام ؛ فما منها إلا وله حكم في العلاقات بين الجنسين،
وفي العلاقات الأسرية ، والاجتماعية ، وفيما يحل أكله وشربه ، وما يحرم ،
وهكذا . وكلها أمور تدخل بالضرورة في مجال الدولة .
كيف حل الغربيون هذا الإشكال ؟ حلوه بنوع من المساومة : فهم قد أخذوا
بعض القيم النصرانية وجعلوها قوانين للدولة ، وهم يجعلون اعتباراً كبيراً لقيمهم
الدينية في سياستهم الخارجية ، ولا سيما في معاملة الإسلام . لكنهم في الجانب
الآخر تركوا أشياء من دينهم ، وساعدهم على ذلك تاريخهم المليء بتحريف الدين
إما في نصوصه أو في تأويله ، ثم جاءت في العصور الأخيرة حركات فكرية
تحررية أذاعت القول بأن ما يسمى بالكتاب المقدس ليس كلام الله تعالى ، وأنه من
كتابة بشر عاديين تأثروا بالجو الثقافي في المرحلة التاريخية التي عاشوا فيها ،
ولذلك فإن ما قرره هذا الكتاب في مسائل مثل الشذوذ الجنسي ينبغي ألا ينظر إليها
إلا على أنها قيم مجتمعات سابقة . هذا كلام لا يقوله السياسيون والحكام فحسب ،
وإنما يقوله كثير من رجال الدين ، والمختصين بدراسته ، لكن حتى هؤلاء
المتحررون يشعر الكثيرون منهم الآن أن العلمانية لم تعد محايدة بين الأديان ، بل
صارت هي نفسها ديناً يدافع عنه أصحابه ويحاربون به النصرانية ، وأذكر أن
أحدهم قال لي في أحد المؤتمرات ناصحاً : لا تُخدَعوا كما خُدِعنا ، فتظنوا أن
العلمانية موقف محايد ؛ بل هي الآن دين ، أو كما قال ذاك الناصح .
فكيف تُحَل هذه المشكلة بالنسبة لأناس كالمسلمين يرون أن القرآن كلام الله
تعالى لم يأته الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأن ما صح من سنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم هو أيضاً وحي الله ؟
وكيف إذا كان دينهم لا يقتصر على ما ذكرنا من أمور تدخل في نطاق الدولة ،
بل يتعداها إلى أخرى هي من أخص خصائص الدولة ؟
ماذا يفعل هؤلاء ؟ لا خيار لهم بين الحكم بما أنزل الله ورفض العلمانية ، أو
الحكم بالعلمانية والكفر بما أنزل الله تعالى .
إن أكثر ما يتعلل به دعاة العلمانية في بلادنا هو اختلاف الأديان في البلد
الواحد . يقولون : بأي حق تفرض على أناس ديناً غير دينهم ، وقِيَماً ليست قيماً
لهم ؟ ماذا إذا لم يكن في البلد إلا مسلمون ، أو كان غير المسلمين أفراداً قلائل ؟
لماذا يفصل هؤلاء بين دينهم ودولتهم ؟
وحتى لو كان المنتسبون إلى غير الإسلام من أصحاب الديانات الأخرى
يمثلون نسباً كثيرة ، فإن العلمانية ليست هي الحل العادل ؛ لأن أصحاب هذه
الديانات إما أن يكونوا في السياسة علمانيين ، وإما أن يكونوا ممن يريد للدولة أن
تستمسك بعقائده وقيمه وتدافع عنها . فإذا كان من الفريق الأول يكون المسلمون قد
تنازلوا عن دينهم بينما هو لم يتنازل عن شيء ؛ لأن العلمانية هي مبدؤه سواء كان
هنالك مسلمون أو لم يكن . أذكر أنني قلت ذات مرة لبعض الجنوبيين المثقفين عندنا
في السودان : إنكم لا تعترضون على الحكم إذا كان اشتراكياً كما كان الحال في
أوائل حكم الرئيس نميري ، ولا تعترضون عليه إذا أقر الرأسمالية أو الليبرالية ؛
لأنكم تعتقدون أن الدين لا دخل له بهذه المسائل ، فلماذا إذن تعترضون على الحكم
الإسلامي ؟ إن الإسلام لا يفرض عليكم ديناً بالمعنى الذي حصرتم الدين فيه ، أعني
العبادات والأحوال الشخصية ، فلماذا لا تعاملون جانبه السياسي معاملتكم للاشتراكية
والرأسمالية ؛ لأنه يعطيكم أكثر مما تعطيكم إياه العلمانية ؟
يقول أنصار العلمانية في الغرب وفي البلاد الإسلامية : إن هذا قد يكون
صحيحاً ؛ لكنكم في الحكم الإسلامي تفرقون بين الناس بسبب دينهم ، فتمنعون غير
المسلم من أن يكون رأس دولة ، وأقول لهم دائماً : ولكن العلمانية هي الأخرى تفعل
ما نفعل . إنها تشترط على الإنسان أن يكون علمانياً لكي يكون رأس دولة ، تشترط
عليه أن يؤدي القسم للولاء لدستور يفصل الدين عن الدولة ، أي أنها تشترط على
المسلم أن يعلن كفره بجزء من دينه . وإذا فعل هذا عن اعتقاد كان كافراً خارجاً عن
الإسلام ، وإذن فكما أن الإسلام يشترط في رأس الدولة المسلمة أن يكون دائناً بدين
الإسلام ؛ فإن العلمانية تشترط في رئيس دولتها أن يكون دائناً بدينها ، فما الفرق ؟
يقولون : لكن العلمانية ليست ديناً . ونقول هذا في مفهومكم أنتم . أما في لغتنا
العربية ، وديننا الإسلامي ، فإن كل ما يلتزم به الإنسان من عادات وتقاليد ، ومن
باب أوْلى من قيم وعقائد ، هو دينه ، سواء كان مبنياً على إيمان بالله أو كفر به .
ألم تسمع قول الشاعر العربي عن ناقته :
إذا ما قمت أرحلها بليل تأوه آهة الرجل الحزين
تقول إذا شددت لها وضيني أهذا دينه أبداً وديني ؟
أكل الدهر حل وارتحال ؟ أما ... أما يقيني ؟
فإذا كان دوام الحل والارتحال ديناً فما بالك باعتياد معتقدات وقيم وسلوك ؟ ألم
يقل الله تعالى عن سيدنا يوسف : ] مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ المَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ
اللَّهُ [ ( يوسف : 76 ) . يعني ما نسميه نحن الآن بقانونه ؟ العلمانية ليست إذن
حلاً لبلد يكون فيه المسلمون أغلبية ، بل ولا حتى أقلية معتبرة ؛ إذ إن ما تطلبه
العلمانية من المسلمين إنما هو التخلي عن دينهم من أجل دين العلمانيين .
[line]
منقول
Bookmarks