مسألة التناظر البنيوي في سور القرآن الكريم
نظرية التناظر البنيوي ring composition في النصوص الأدبية بشكل عام تشير إلى خاصية تتسم بها بعض النصوص الأدبية عندما تتخذ الأفكار الواردة بالنص ترتيبا في سياق النص يشبه انعكاس الصورة في المرآة. على سبيل المثال إذا قلنا أن النص يحتوي في أوله على الأفكار" أ، و ب، و ت" فهذه الأفكار يليها أفكار مشابهة أو ذات صلة بتلك الأفكار (وليكن أ*، وب*،و ت*) لكن في ترتيب عكسي فيكون تتابع الأفكار هكذا : أ، ب، ت، ت*، ب*، أ*
وقد ذهب بعض الباحثين من المسلمين وغير المسلمين الغربيين من أمثال أستاذ الدرسات الإسلامية منتصر مير، وريموند فارين أستاذ اللغة العربية بالجامعة الأمريكية بالكويت، وميشيل كويبرس الباحث بالمعهد الدومنيكاني للدراسات الشرقية، وكارل إرنست أستاذ الدراسات الإسلامية، وغيرهم إلى وجود هذه السمة البنيوية في بعض سور القرآن الكريم. ومن أشهر الأمثلة على ذلك سورة الفاتحة وسورة البقرة و سورة يوسف بل إن بعض الآيات كآية الكرسي تحمل نفس السمة البنيوية.
فعلى سبيل المثال المفاهيم أو الأفكار الواردة في سورة البقرة:
أ الاعتقاد (1-20) : المؤمنين (1-5) ، الكافرين (6-20)
ب علم الله وخلقه (21-39): الموت والحياة وإحياء الموتى(28)، الله يعلم كل شيء (29- 30)(32- 33)
ت الأنبياء السابقين والكتب السابقة (40 – 103): إنزال الكتاب على موسى (43، 87)، الحديث عن سليمان بن داود (102)
ث الابتلاءات (104 – 152): ابتلاء الله لإبراهيم (124)، بناء إبراهيم وإسماعيل للكعبة (127)، كتمان الشهادة (140)، أقوال أهل الكتاب (111، 113، 116، 118، 135)
وقبل تكرار الأفكار (في ترتيب عكسي) وإن لم يكن تكرارا صرفا يتحدث عن تحويل القبلة و عن الأمة الوسط.
ث* الابتلاءات (153 – 177): ابتلاءات المسلمين (155)، الحج إلى الكعبة (158)، كتمان الهدى والبينات (159، 174)، أقوال المشركين (167، 170)
ت* الأنبياء السابقين والكتب السابقة (178 – 253): كتابة الأحكام الشرعية على المسلمين (178، 180، 183، 216)، الحديث عن داود (251)
ب* علم الله وخلقه (254- 184): الموت والحياة وإحياء الموتى (258- 260)، الله يعلم كل شيء ( آيات متعددة ما بين 255 ، 284)
أ* الاعتقاد ( 285- 286): المؤمنين (285) والكافرين (286)
وكذلك سورة الفاتحة:
أ بسم الله (الرحمن) (الرحيم)
ب الحمد لله (رب) العالمين
أ* (الرحمن) (الرحيم)
ب* (مالك) يوم الدين
فههنا كرر الحديث عن الصفات المشتقة من الرحمة
وكذلك صفات الربوبية فهو الرب أي المدبر والقائم عليهم بما يصلحهم وهو المالك
ثم تلى ذلك قوله تعالى (على لسان العباد)
أ إياك نعبد
أ* وإياك نستعين
فالعبادة والاستعانة مفهومان متصلان لأن الاستعانة به من العبادة
ثم تلى ذلك:
أ اهدنا الصراط المستقيم
ب صراط الذين (أنعمت) عليهم
ب* غير (المغضوب) عليهم
أ* ولا (الضالين)
فهناك علاقة الضد بين الهداية والضلال (أ، أ*)
وكذلك النعمة والغضب (النقمة) (ب، ب*)
وهذا الكلام قد يبدو بلا سند أو به تكلف لكن إذا وجدنا له أصل في القرآن وفي تفسير السلف للقرآن يتضح له شيء من الوجاهة لكن ليس باعتباره قاعدة مضطردة في سور القرآن بل باعتباره أحد وجوه التشابه والتثنية التي أشار إليها القرآن. ولعل من هذا الباب قوله تعالى: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله. وكذلك قوله تعالى: ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم.
فقد فسر السلف معنى "متشابه" و "مثاني" كما في قول ابن عباس وسعيد بن جبير بأن: القرآن يشبه بعضه بعضا ، ويرد بعضه على بعض. ويروى عن سفيان بن عيينة في معنى قوله "متشابها مثاني": أن سياقات القرآن تارة تكون في معنى واحد ، فهذا من المتشابه ، وتارة تكون بذكر الشيء وضده ، كذكر المؤمنين ثم الكافرين ، وكصفة الجنة ثم صفة النار ، وما أشبه هذا ، فهذا من المثاني.
وكذلك في أحد القولين عن جماعة من السلف أن السبع المثاني هي سورة الفاتحة. فإذا كان كذلك فالتثنية يمكن فهمها في سياق ما تقدم من شرح للتناظر البنيوي في سورة الفاتحة.
ولفظ مثاني هو جمع مفرده مثنى وهو من ثنى الشيء أي رد بعضه على بعضه الآخر أو طواه، وكذلك من ثَنَّى الشيءَ: جعله اثنين. ولكن لا يلزم من التكرار أن يكون تكرار صرفا بل كما تقدم قد يكون بذكر الشىء ونقيضه وكذلك بذكر الشىء ونظيره أو شبيهه. فبمعنى رد بعضه على بعض يفهم منه التناظر البنيوي كما يتضح من بنية سورة البقرة حيث يشبه شطرها الأول شطرها الآخر.