إعجاز القرآن
أتناول في هذا المقال بالترجمة أحد فصول كتاب "نظرية الشعر العربية: التجربة الجمالية في الأدب العربي الكلاسيكي" للأستاذ المشارك بقسم دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون "لارا حرب" وقد عقدت فيه فصلا للحديث عن نظرية النظم وإعجاز القرآن. *
بالنسبة للمجتمع الإسلامي الأول، فقد كان القرآن هو المعجزة الرئيسية التي أثبتت نبوة محمد (صلى الله عليه وسلم)، وكان ذلك بمثابة شق البحر على يد موسى وإحياء الموتي لعيسى. لقد كان أثره على الذين استمعوا إليه عظيماً لدرجة أنه كان يتمتع بقدرة ذاتيه على حملهم على اعتناق الإسلام كما يتجلى ذلك من القصة التي رويت في مناسبة إسلام عمر بن الخطاب الذي أصبح فيما بعد الخليفة الثاني بعد وفاة محمد(صلى الله عليه وسلم).
لقد شكل مصدر هذا التأثير القوي لغزاً بالنسبة للناس في حياة محمد (صلى الله عليه وسلم) ، وجر عليه ذلك من جهة خصومه ادعاءات من قبيل أنه كان مجنونًا ، أو شاعرًا به مس، أو كاهنًا أو ساحرًا. وقد نفى القرآن تلك الإدعاءات التي اختزلته في صورة كلام يمكن للبشر أن يأتوا بمثله، فقال: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا.
وفقًا للمصادر الإسلامية المبكرة، فإن طبيعة القرآن المتجاوزة للعادة كانت أمرا واضحًا بالنسبة إلى مستمعيه المعاصرين في مكة، والذين كانوا في الفصاحة والبلاغة أدنى الناس منزلة من بلاغة القرآن. بل يجد المرء روايات عن غير المؤمنين بدعوته ينصحون ذويهم بعدم الاستماع إليه لكي لا يخضعوا لتأثيره.
في مرحلة لاحقة، مع توسع الإسلام في الأقاليم غير الناطقة بالعربية، وبمضي الزمن على فترة نزول الوحي وجد علماء المسلمين أنه بات من الضروري إقامة الدلائل على إعجاز القرآن بصورة منهجية بالنسبة لأولئك الذين لم تكن لديهم القدرة على إدراك إعجاز القرآن وتقديره على نحو بديهي.
وإعجاز القرآن باختصار يكمن في مخالفته لطبائع الأمور على نحو لا يمكن استنساخه من قبل البشر. فعجز جميع الناس عن يأتوا بمثله، والذي أشار إليه النص القرآني نفسه، كان دليلا كافيا بالنسبة للجماعة المسلمة الأولى على مصدره الإلهي. أما السبب وراء عجز الناس عن أن يأتوا بمثله فقد كان مادة للجدل في القرون التي تلت ظهور الإسلام. فاحدى تلك النظريات التي طُرحت من قبل المؤلفين في إعجاز القرآن لتفسير ذلك هو القول بالصرفة (وهو قول إبراهيم بن سيَّار النظَّام)، وهو بمعنى أن النص القرآني ليس بنفسه غير قابل للاتيان بمثله ولكن الله صرف الناس عن الاتيان بمثله. وفي رأي آخر أن إعجازه يكمن في التنبؤ بدقة بأمور مستقبلية ( وهو أحد وجوه الإعجاز عند الباقلاني على سبيل المثال).
في حين ذهب آخرون إلى أن إعجاز القرآن يكمن في بلاغته وفصاحته. ويرى أصحاب هذا الرأي أن القرآن بلغ من الفصاحة والبلاغة منزلة أعيت البشر أن يبلغوها. وهذا الرأي في نهاية المطاف بات هو الرأي السائد لدى جماهير علماء المسلمين وهو الذي يعنينها ههنا. وقد ذهبت عائشة عبد الرحمن المعروفة ببنت الشاطيء إلى أن هناك اتفاق في الرأي على أن الإعجاز البلاغي هو أحد وجود الإعجاز وإن اختلفوا في وجوه الإعجاز الأخرى. بل حتى مع القول بالصرفة يلزم معه كما قال ابن سنان الخفاجي (في كتابه سر الفصاحة) النقد البلاغي الاستقصائي الدقيق لاثبات أن صرف الناس عن الإتيان بمثل القرآن هو أمر واقع بالفعل.
وقد ذكر آخرون وجوها أخرى للإعجاز كالإعجاز التاريخي وشمولية الشريعة التي جاء بها ( محمود شيخون في كتاب الإعجاز في نظم القرآن) وكذلك الإعجاز العلمي ( راجع كتاب "فكرة إعجاز القرآن" لنعيم الحمصي والذي ينسب لأبي حامد الغزالي أنه أول من قال بالإعجاز العلمي).
لقد أدى الاهتمام ببلاغة القرآن إلى نشأة مشروع بحثي مختص بالقيم الجمالية يتعلق خصيصا بمسألة الجمال اللغوي. وسعى العلماء المشاركون في هذا المشروع البحثي إلى تفصيل و تصنيف السمات اللغوية التي تساهم في إضفاء الجمال على نصوص اللغة، وهذا بغرض الكشف عن وجوه الإعجاز القرآني. فإعجاز القرآن لا يكمن في مضمونه بل في الطريقة التي يوصل بها هذا المضمون ( قلت: وهذا لا يعني نفي الإعجاز عن المضمون مطلقا كما قد يتوهم البعض بل المقصود قصر التحدي على الإعجاز البلاغي دون المضمون لأن القرآن لم يتحداهم بإعجاز المضمون وإن كان معجزا في نفس الأمر وهذه مسألة فيها كثير من التفصيل ليس هذا موضع بسطه).
لقد حاول علماء الإعجاز أن يطرحوا تصورا موحدا شاملا عن قيمة الجمال الأدبي والذي يصلح أن يكون بمثابة معيار لنقد النص سواءا كان هذا النص كلاما بشريا أو كلام الوحي. وقد ذهبتُ في هذا الفصل للقول بأن هذا المعيار اعتمد أيضا على القدرة على إثارة العجب والروعة في نفس المستمع.
و إثارة ذلك الشعور بالعجَب والروعة في نفس المستمع من النص القرآني يرجع بشكل أساسي إلى الطريقة التي صيغت بها العبارات القرانيةوهو ما يعرف بالنظم.
ففضلا عن العجز عن معارضة القرآن فإن إعجازه يشهد له تأثيره غير المعتاد على مستمعيه. بل ذهب أبو سليمان الخطابي (في "بيان إعجاز القرآن") وهو من أوائل المصنفين في إعجاز القرآن إلى أن تأثير القرآن على مستمعيه بمفرده يدل على إعجازه.
فالقرآن نفسه يصف تأثيره على مستمعيه بأنه تقشعر منه الجلود فقال: الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم. وذكر أن الجن الذين سمعوا القرآن وصفوه بأنه عجب فقال: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا.
وكون ذلك الأثر نابع من فصحاته وبلاغته يشهد له ما قيل ( من قبل المؤلفين في الإعجاز القرآني) عن التجربة الشعورية الجمالية التي يحدثها الكلام البليغ في النفس. فعلى سبيل المثال يقول الباقلاني (توفي 403 هـ) في كتابه "إعجاز القرآن": وإذا علا الكلام في نفسه، كان له من الوقع في القلوب والتمكن في النفوس، ما يذهل ويبهج، ويقلق ويؤنس، ويطمع ويؤيس، ويضحك ويبكي، ويحزن ويفرح، ويسكن ويزعج، ويشجي ويطرب. ويهز الأعطاف، ويستميل نحوه الأسماع ... وله مسالك في النفوس لطيفة، ومداخل إلى القلوب دقيقة. وبحسب ما يترتب في نظمه، ويتنزل في موقعه، ويجري على سمت مطلعه ومقطعه - يكون عجيب تأثيراته، وبديع مقتضياته.
وقد استخدم عبد القاهر الجرجاني في كتابه "دلائل الإعجاز" مفردات شبيهة في وصف الكلام البليغ ككونه يبهر النفس ويملأ المرء بالهيبة و الروعة.
وبالنظر لرؤيتهم في إعجاز القرآن أنه يكمن في نظمه فلنا أن نفترض أن النظم هو ما يبهر المرء ويملأ النفس بالعجب.
وفيما يلي من صفحات الكتاب سأبدأ أولا بالنظر إلى معالجة الجرجاني لمسألة النظم في كتابه "دلائل الإعجاز". ثم سأتناول تطور فكرة النظم في كتابات " يوسف بن أبي بكر السكَّاكي" و "الخطيب القزويني" حيث باتت دراسة النظم أحد فروع علم البلاغة الثلاثة الذي يعرف بعلم المعاني. وبينما ينصب علم البيان على كيفية دلالة الألفاظ المفردة أو مجموعة من الألفاظ على معانيها المرادة، فعلم المعاني ينصب على كيفية توصيل المعنى من خلال بنية الجملة وطريقة صياغتها. وبناءا على مبدأ الاكتشاف الذي نوقش في الفصل الثالث من هذا الكتاب والذي بينه الجرجاني في كتاب "أسرار البلاغة" سأفترض أن القيمة الجمالية للنظم مدارها حول التصرف في بنية وصياغة الجُمل بحيث يصبح اكتشاف معناها ليس بطريقة مباشرة. فكلما زاد الجهد والوقت والتدبر الذي يستعمله المرء في استيعاب المعنى كلما كان اكتشافه لذلك المعنى أكثر لذة وإثارةً للعحب.
إذا كيف تمكن علماء البلاغة من التفريق بين العجب الذي يُورِثه القرآن وذاك الذي يورثه بيت جيد من الشعر. فلابد من رسم خط دقيق بين ما هو عجيب، وهو وإن كان ليس أمرا معتادا ولكنه لا يزال في استطاعة البشر، وبين ما هو معجز، أي ما هو خارج عن نطاق قدرة البشر ويمكن لمثله أن يكون نابعًا فقط من مصدر إلهي.
لكن هدفي ههنا ليس هو تحديد أين رسموا ذلك الخط أو إلى أي حد تكللت جهودهم بالنجاح، بل ما يهمني في هذا المقام هو فهم طريقة تفكيرهم وتحديد المعايير الجمالية التي شكلت حافزا لاستدلالهم على إعجاز القرآن. واقتناع القارىء أو عدمه بما قدموا من دلائل ليس هو موضوعنا. ما يهمنا هو العلاقة بين البلاغة والفصاحة والتجربة الشعورية الجمالية التي تورثها في النفس.
ما يهمني في هذا المقام هو فهم كيفية تحقيق العلاقة بين البلاغة والروعة أو العجب الذي يورثه الكلام البليغ في النفس. بعبارة أخرى، أنا أنظر إلى ذلك التنظير لقضية الإعجاز من منظور جمالي بحت، وأنحي السجالات الدينية والعقائد جانبا.
إن مفهوم النظم لم يتلق نفس القدر من الاهتمام، من جانب الدراسات الحديثة في مجال النظرية الأدبية العربية التقليدية، الذي تلقته جوانب أخرى من البلاغة كعلم البديع. وفي حين أن محط اهتمام النقد الشعري هو علم البديع، فقد كمّل النقد القرآني ذلك بإضافة مكون النظم اللغوي.
ولذلك من المهم أن يتضمنه البحث في مسألة نظرية الجمال والذوق في نسختها العربية. والباحثون الذين درسوا مسألة النظم وعلم المعاني في العصر الحديث قد عالجوا تلك المسألة، وقد أحسنوا صنعا، من منظور علم اللسانيات linguistics وعلم التداولية pragmatics وعلم النحو. وببساطة فإن فك رموز هذا الحقل الدراسي الذي يتسم بقدر كبير من الاصطلاح الفني لهو انتصار بحد ذاته.
وفي هذا الفصل من الكتاب، أسعى إلى البناء على جهود هؤلاء الباحثين الذين تناولوا هذا الحقل بالدراسة، لبحث الصلة بين هذه النقاشات الفنية من جهة والبلاغة من جهة، وبشكل أكثر تحديدًا، العجب أو الروعة. ولا أحاول ههنا أن أقدم ملخصا شاملا لمختلف المكونات اللغوية لمفهوم النظم وتطوره لاحقًا إلى علم المعاني.
ومع ذلك، فمن خلال أمثلة مختارة، أسعى لإظهار أن تصورهم للبلاغة في صياغة الجُمل ناتج عن تراكيب لغوية ونحوية تسمح بخوض تجربة اكتشاف لولا تلك التراكيب لم تكن تلك التجربة ممكنة. لقد بين الجرجاني كيف أن الانتباه إلى مقتضيات الاختيارات المتعلقة ببناء الجمل يضيف فارقًا دقيقًا ومعنى للجملة. فهذا المعنى الإضافي، الذي يُنقل على نحو غير مباشر من خلال التصرف الدقيق في بناء الجملة يقوي من بلاغة العبارة لأنه بحاجة إلى تأويل واستنباط. وذلك المعنى الإضافي اعتُبر لاحقا في علم المعاني مطابقةً لمقتضى الحال.
وهذا بمعنى أن الكيفية التي تصاغ بها الجملة يمكن أن تخبر عن الحال أو السياق الذي قيلت فيه. بل أحيانا صياغة الجملة على نحو يخالف ما يقتضيه الحال يقوي من بلاغة العبارة كما سنرى. لقد اقتُرحت تعريفات متنوعة للبلاغة وفروعها من قِبَل العلماء المشتغلين بمسألة إعجاز القرآن ابتداءًا من القرن الثالث الهجري / التاسع الميلادي. ومن الواضح أن بعضها استُمد من مجال النقد الشعري، الذي كان لايزال وقتها في طور النشوء ... لكن ما استجد كشأن خاص بمسألة الإعجاز هو مفهوم النظم.
البناء اللغوي الخاص بالقرآن يبدو أنه كان الركيزة التي أسس عليها الجاحظ برهانه على إعجاز القرآن. وبالرغم من أن هذا الكتاب مفقودٌ الآن إلا أنه عنوانه " في الاحتجاج لنظم القرآن وسلامته من الزيادة والنقصان " يدل على ذلك.
وهذا يؤكده عبارات أخرى واردة في كتابات الجاحظ التي لا تزال متاحة في وقتنا الحاضر مثل قوله: "وفي كتابنا المنزّل الذي يدلّنا على أنّه صدق، نظمه البديع الذي لا يقدر على مثله العباد، مع ما سوى ذلك من الدّلائل التي جاء بها من جاء به".
وكذلك أقدم الرسائل المتاحة التي تناولت مسألة الإعجاز من القرن العاشر الميلادي أعطت الأولوية لمسألة النظم وإن اختلفت طرق تناولها للمسألة. قسّم أبو الحسن الرماني في كتابه" النكت في إعجاز القرآن" البلاغة إلى عشرة أقسام متضمنا ذلك المحسنات البديعية، كالجناس، والاستعارة والتشبيه كمكونات رئيسية للبلاغة.
إلا أنه في نهاية الأمر جعل إعجاز القرآن في تأليفه أو نظمه. ذهب الباقلاني في فترة لاحقة إلى أن البديع وإن كان من شأنه أن يضيف إلى جمال النص القرآني إلا أنه ليس هو ما يجعله معجزا. وهذا لسببين أولهما أنه بالرغم من أن كل القرآن معجز إلا أنه ليس كل آياته تستعمل المحسنات البديعية. ثانيهما أن المحسنات البديعية هي مهارة فنية يكتسبها الناس ويبرعون فيها بالممارسة.
في المقابل فقد جعل إعجاز القرآن في النظم والتأليف والاتساق في جودة النظم الفائقة في النص القرآني بأجمعه. وقد شكل النظم أيضا جزئية رئيسية في حجة الخطابي على إعجاز القرآن في كتابه "بيان إعجاز القرآن" فيقول: "واعلم أن القرآن إنما صار معجزًا لأَنه جاءَ بأَفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمنًا أصح المعاني". لقد حدد الخطابي ثلاثة جوانب للكلام: اللفظ، والمعنى، والشيء الذي يربط بينهما في نسق (أي النظم). وقد ناقش كل جانب من هذه الجوانب، لكنه أكد بشكل خاص على النظم فيقول: "وأما رسوم النظم فالحاجة إلى الثقافة والحذق فيها أكثر لأنها لجام الألفاظ وزمام المعاني وبه تنتظم أجزاء الكلام , ويلتئم بعضه ببعض فتقوم له صورة في النفس يتشكل بها البيان". وفي حين اعتمدت حجج الإعجاز على النقاشات الدائرة حول الشعر في القرنين الثالث والرابع، فإن الدلائل التي ساقها العلماء القدامى استندت في النهاية إلى النظم بدلاً من البديع. وهكذا أضاف الاهتمام بإعجاز القرآن جانبًا جديدًا من البلاغة إلى قائمة المكونات التي تناولها بالتحليل نقاد الأدب. ومع ذلك ، فإن الوصف الأكثر شمولاً لمفهوم النظم لم يظهر حتى حلول القرن التالي مع أطروحة عبد القاهر الجرجاني عن إعجاز القرآن في كتاب "دلائل الإعجاز".
عبد القاهر الجرجاني
جعل الجرجاني منبع جمال الكلام في ثلاثة عناصر الأول: الفكرة التي يراد التعبير عنها، الثاني: الألفاظ المفردة المستعملة في التعبير عن المعنى، والثالث: كيفية تأليف تلك الألفاظ في عبارة (النظم). تجتمع كل هذه العناصر معًا لتكوين صورة فريدة لفكرة معينة، شيء يسميه (صورة المعنى). عندما يتعلق الأمر بإعجاز القرآن ، يرى الجرجاني صراحة أنه لا يكمن في محتواه. ليست مضامين القرآن نفسها هي ما يجعله خارقا للعادة، إذ يمكن للناس في النهاية أن يعيدوا صياغة تلك المضامين التي عُبّر عنها في القرآن بألفاظهم الخاصة، وهو يرى بدلاً من ذلك أن إعجاز القرآن يكمن في الطريقة التي يعبر بها عن المضامين ، أي صورتها. وبالتالي، فإن التحدي المتمثل في الإتيان بشيء مثله يمثل تحديًا لمضاهاة صورته وشكله. وبالنظر إلى أن المضمون خارج المعادلة (1)، فإن العناصر المتبقية التي تضفي الجمال على الخطاب هي الألفاظ المفردة والنظم. تساهم الألفاظ المفردة أو الألفاظ المركبة، كما رأينا في الفصل الرابع، في بلاغة العبارة عندما تشير إلى معناها بشكل غير مباشر.
لذلك، فإن الألفاظ المفردة لديها القدرة على التأثير في "صورة المعنى" النهائية عندما تعبر عن هذا المعنى من خلال الاستعارة أو المجاز والكناية. ومع ذلك، فإن النظم له الأولوية كمكون من مكونات البلاغة لا غنى عنه والذي تعتمد عليه الاستعارة والكناية. وبالرغم من أن إعجاز القرآن يكمن أيضًا في استخدامه للاستعارات، والمجاز بوجه عام (2)، والمعاني التي يعبر عنها بطريق غير مباشر من خلال الكناية بدلًا من التعبير المباشر، فإن النظم هو الجانب الأساسي الذي يجعل القرآن معجزا. الجرجاني أوضح بشكل مبدئي أن النظم ليس إلا أن تضع الكلام الوضع الذي يقتضيه علم النحو ومع ذلك، كما بين الجرجاني، فإن الأمر ينطوي على ما هو أكثر من مجرد استعمال القواعد بشكل صحيح فقال: "فليس الفضْلُ للعلم بأنَّ "الواو" للجمع، و"الفاء" للتعقيب بغير تَراخٍ، و"ثم" له بشرطِ التَراخي، و"إنْ" لكذا و"إذا" لكذا، ولكنْ لأَنْ يتأتَّى لكَ إِذا نظَمْتَ شعراً وألَّفْتَ رسالةً أنْ تُحْسِنَ التخيُّرَ، وأن تَعْرِفَ لكلٍّ مِنْ ذلك مَوضِعَه". ويعرف النظم في موضع آخر بالقول: وذلك أن "النظم"، كما بينا، إنما هو توخّي معاني النحو وأحكامِه وفروقِه ووُجوهه، والعملُ بقوانينه وأُصولِه.
لذلك، فإن النظم ينطوي على إدراك كيف أن بناء الجملة وفق قواعد النحو يؤثر على معناها العام. إن بلاغة النظم ليست مجرد توخي قواعد النحو، بل هي استعماله بطريقة تتطلب الاستنتاج. وكما أن الألفاظ المفردة التي تستعمل في معانها الحرفي لا تلعب أي دور في البلاغة كما رأينا لأنها لا تتطلب الاستنباط أو التأويل، قكذلك لا يمكن نسبة البلاغة على مستوى الجملة إلى مجرد السلامة من الأخطاء النحوية. و ذلك لأنه كما قال الجرجاني: " لا يكونُ تَرْكُ خطأٍ تَرْكاً ( أي يعتد به) حتى يُحتاجَ في التحفُّظِ منه إِلى لُطْف نظَرٍ، وفَضْل رويةٍ، وقوةِ ذهنٍ، وشدةِ تيقظٍ."
فالجرجاني يؤكد أَنَّ المزيّةَ (أي ما يمتاز ويفضُل به الكلام)، هي ما يتطلب الفكْرُ والنظَرُ. ويفصل الجرجاني ذلك في موضع آخر قائلا: "ومِنْ ههنا لم يَجُزْ، إذا عُدَّ الوجوهُ التي تَظهر بها المزيةُ، أنْ يُعَدَّ فيها الإعرابُ؛ وذلك أنَّ العِلْم بالإِعرابِ مشترَكٌ بينَ العَربِ كلِّهم، وليس هو مما يُسْتنبَط بالفكْرِ، ويُسْتعانُ عليه بالرويَّة؛ فليسَ أحدُهم، بأنَّ إعرابَ الفاعل الرفعُ أو المفعولِ النصبُ، والمضاف إليه الجرُّ، بأعلم من غيره ولا ذاك مما يَحتاجون فيه إلى حِدَّةِ ذهنٍ وقوةِ خاطرِ، إنما (الوضع أو الحال) الذي تقَعُ الحاجةُ فيه إلى ذلك ( أي حدة الذهن وقوة الخاطر) هو العلم بما يُوجِبُ الفاعليةَ (أي صفة الفاعل) للشيءِ إذا كان إيجابُها ( لذلك الشيء) من طريقِ المجازِ، كقولهِ تعالى: فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُم. (حيث أسند فعل الربح للتجارة وليس التاجر) وكقولِ الفرزْدق: سقْتها خروقٌ في المسامِعِ (حيث أسند فعل سقي الإبل إلى الثقوب التي في الآذان). وأشباهِ ذلِكَ، مما يَجعلُ الشيءَ فيه فاعلاً (بناءا) على تأويل ... وليس يكونُ هذا علماً بالإِعراب، ولكن بالوصْفِ الموجبِ للإِعراب ( بمعنى أي شيء أوجب هذه الصفة الإعرابية أو تلك لهذا اللفظ أو ذاك".
سأناقش الأمثلة التي أوردها هنا بعد قليل، لكن يمكننا بوجه عام أن ندرك من هذا المقطع أن النظم، على خلاف مجرد توخي قواعد النحو ، يتضمن تراكيب للعبارات تتطلب جهدًا فكريًا معينًا لتأويلها. فتوخي القواعد النحوية يوصل الفكرة بشكل كاف، ولكن ما يعطي الكلام مزية هو الاهتمام والوعي بخصائص ومقتضيات بعض التراكيب النحوية، والتي تتطلب تأويلا. فهذه هي الوسيلة التي تنشأ بها الفوارق في الجودة النهائية لصورة المعنى ( أي القالب الذي يصاغ فيه المعني).
يتبع
--------------------------
(1) قلت: كون المضمون لا دخل له بإعجاز القرآن اللغوي فيه نظر لأن المعنى الذي يراد التعبير عنه لاريب له أثر في الناتج النهائي. وأضرب لذلك مثلا بالقطع الفنية فلو قلنا أن المعنى هو المادة الخام التي يراد صياغتها في صورة معينة لقلنا أن الحلي التي تصاغ على صورة معينة من الذهب بمنزلة التي تصاغ من الخشب على نفس الصورة!. ولذلك تجد الشعر الذي يتضمن حكمة ويكون على درجة معينة من الإتقان في الصياغة أكثر جمالا وأشد أثرا في النفس من الشعر المجرد من الحكمة أو الذي يتناول سفاسف الأمور ويكون على نفس الدرجة من الإتقان في الصياغة. وهذا يفسر لماذا بعض القرآن أفضل من بعض، في أحد قولي العلماء، وعليه تدل ظواهر الآيات كقوله تعالى: "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها"، وقوله تعالى: "واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم". ولأن الآية اسم للمعنى والصورة جميعا ولأنه لا يجوز أن يتفاوت القرآن في حسن الصياغة فالتفاضل في الآيات يرجع إلى المعنى)
(2) سأفهم المجاز في هذا السياق بمعنى استعمال اللفظ في غير الاستعمال الشائع (بخلاف استعماله في غير المعنى الذي وضع له) إعمالا لنظرية المعنى عن ابن تيمية رحمه الله وخروجا من الخلاف حول وجود المجاز في القرآن.
* Naẓm, Wonder, and the Inimitability of the Quran in Arabic Poetics: Aesthetic Experience in Classical Arabic Literature
Bookmarks