حُكمُ الألفاظِ المجمَلةِ نَفيًا وإثباتًا
الألفاظُ المجمَلةُ هي ألفاظٌ لم يَرِدْ نَفْيُها أو إثباتُها في القُرآنِ والسُّنَّةِ في حَقِّ اللهِ؛ مِثلُ: لَفظِ الجِهةِ وغَيرِها، وهي ألفاظٌ قد تحتَمِلُ معنًى حقًّا ومعنًى باطِلًا، فإنْ أُريدَ بها معنًى حقٌّ، قُبِلَ هذا المعنى، كأن ينفيَ أحَدٌ عن اللهِ أنَّه "مركَّبٌ" فإن أراد بذلك أنَّه سُبحانَه ركَّبَه مُرَكِّبٌ، أو كان متفرِّقًا فتركَّبَ، وأنَّه يمكِنُ تَفَرُّقُه وانفصالُه، فاللهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن ذلك، وإن أراد أنَّه موصوفٌ بالصِّفاتِ مُبايِنٌ للمخلوقاتِ، فهذا المعنى حَقٌّ .
ومن ذلك أيضًا عِبارةُ: حُلولِ الحوادِثِ بالرَّبِّ تعالى، فهذا مِمَّا لم يَرِدْ نَفْيُه ولا إثباتُه في الكِتابِ ولا في السُّنَّةِ، وفيه إجمالٌ؛ فإن أريدَ بالنَّفيِ أنَّه سُبحانَه لا يَحِلُّ في ذاتِه المقَدَّسةِ شَيءٌ مِن مخلوقاتِه المُحدَثةِ، أو لا يَحدُثُ له وَصفٌ متجَدِّدٌ لم يكُنْ؛ فهذا نفيٌ صَحيحٌ، وإن أريدَ به نفيُ الصِّفاتِ الاختياريَّةِ؛ من أنَّه لا يَفعَلُ ما يريدُ، ولا يتكَلَّمُ بما شاء إذا شاء، ولا أنَّه يَغضَبُ ويَرضى، ولا يُوصَفُ بما وَصَف به نَفْسَه من النُّزولِ والاستواءِ والإتيانِ، كما يَليقُ بجلالِه وعَظَمتِه؛ فهذا نفيٌ باطِلٌ .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (من الأُصولِ الكُلِّيَّةِ أن يُعلَمَ أنَّ الألفاظَ نوعانِ: نوعٌ جاء به الكِتابُ والسُّنَّةُ، فيَجِبُ على كُلِّ مؤمِنٍ أن يُقِرَّ بموجِبِ ذلك، فيُثبِتُ ما أثبَتَه اللهُ ورَسولُه، ويَنفي ما نفاه اللهُ ورَسولُه، فاللَّفظُ الذي أثبَتَه اللهُ أو نفاه حَقٌّ؛ فإنَّ اللهَ يَقولُ الحَقَّ وهو يهدي السَّبيلَ، والألفاظُ الشَّرعيَّةُ لها حُرمةٌ. ومِن تمامِ العِلْمِ أن يَبحَثَ عن مرادِ رَسولِه بها؛ لِيُثبِتَ ما أثبَتَه، ويَنفيَ ما نفاه من المعاني؛ فإنَّه يجِبُ علينا أن نُصَدِّقَه في كُلِّ ما أخبَرَ، ونطيعَه في كُلِّ ما أوجَبَ وأمَرَ، ثمَّ إذا عرَفْنا تفصيلَ ذلك كان ذلك مِن زيادةِ العِلْمِ والإيمانِ، وقد قال تعالى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة: 11] ، وأمَّا الألفاظُ التي ليست في الكِتابِ والسُّنَّةِ ولا اتَّفَق السَّلَفُ على نَفْيِها أو إثباتِها، فهذه ليس على أحَدٍ أن يُوافِقَ مَن نفاها أو أثبَتَها حتَّى يَستفسِرَ عن مُرادِه؛ فإن أراد بها معنًى يوافِقُ خَبَرَ الرَّسولِ، أَقَرَّ به، وإن أراد بها معنًى يخالِفُ خَبَرَ الرَّسولِ، أنكَرَه. ثمَّ التعبيرُ عن تلك المعاني إن كان في ألفاظِه اشتِباهٌ أو إجمالٌ، عَبَّرَ بغيرها، أو بَيَّن مرادَه بها، بحيث يحصُلُ تعريفُ الحَقِّ بالوَجهِ الشَّرعيِّ؛ فإنَّ كثيرًا مِن نزاعِ النَّاسِ سَبَبُه ألفاظٌ مُجمَلةٌ مُبتَدَعةٌ ومعانٍ مُشتَبِهةٌ، حتى تجِدَ الرَّجُلَينِ يتخاصَمانِ ويتعاديانِ على إطلاقِ ألفاظٍ ونَفْيِها، ولو سُئِلَ كُلٌّ منهما عن معنى ما قاله لم يتصَوَّرْه فَضلًا عن أن يَعرِفَ دليلَه! ولو عَرَف دَليلَه لم يلزَمْ أنَّ مَن خالَفَه يكونُ مُخطِئًا، بل يكونُ في قَولِه نَوعٌ مِنَ الصَّوابِ، وقد يكونُ هذا مُصيبًا مِن وَجهٍ، وهذا مصيبًا مِن وَجهٍ، وقد يكونُ الصَّوابُ في قَولٍ ثالثٍ) .
وقال ابنُ تَيميَّةَ أيضًا: (كُلُّ لَفظٍ يَحتَمِلُ حَقًّا وباطِلًا فلا يُطلَقُ إلَّا مُبَيَّنًا به المرادُ الحَقُّ دونَ الباطِلِ؛ فقد قيل: أكثَرُ اختلافِ العُقلاءِ مِن جِهةِ اشتراكِ الأسماءِ. وكثيرٌ مِن نزاعِ النَّاسِ في هذا البابِ هو مِن جِهةِ الألفاظِ المجمَلةِ التي يَفهَمُ منها هذا معنًى يُثبِتُه، ويَفهَمُ منها الآخَرُ معنًى يَنفِيه، ثمَّ النُّفاةُ يَجمَعونَ بين حَقٍّ وباطلٍ، والمثبِتةُ يَجَمعونَ بينَ حَقٍّ وباطِلٍ) .
وقال أيضًا: (أئِمَّةُ السُّنَّةِ كأحمَدَ بنِ حَنبَلٍ وغَيرِه كانوا إذا ذَكَرت لهم أهلُ البِدَعِ الألفاظَ المُجمَلةَ؛ كلَفظِ الجِسمِ والجوهَرِ والحَيِّزِ ونَحوِها، لم يوافِقوهم؛ لا على إطلاقِ الإثباتِ، ولا على إطلاقِ النَّفيِ، وأهلُ البِدَعِ بالعَكسِ؛ ابتَدَعوا ألفاظًا ومعانيَ إمَّا في النَّفيِ وإمَّا في الإثباتِ، وجَعَلوها هي الأصلَ المعقولَ المحْكَمَ الذي يجِبُ اعتقادُه والبناءُ عليه، ثمَّ نَظَروا في الكِتابِ والسُّنَّةِ، فما أمكَنَهم أن يتأوَّلوه على قَولِهم تأوَّلوه، وإلَّا قالوا: هذا من الألفاظِ المُتشابِهةِ المُشكِلةِ التي لا ندري ما أُريدَ بها، فجَعَلوا بِدَعَهم أصلًا مُحكَمًا، وما جاء به الرَّسولُ فَرعًا له، ومُشكِلًا إذا لم يُوافِقْه! وهذا أصلُ الجَهْميَّةِ والقَدَريَّةِ وأمثالِهم، وأصلُ الملاحِدةِ مِن الفلاسِفةِ الباطِنيَّةِ، جميعُ كُتُبِهم توجَدُ على هذا الطَّريقِ، ومَعرِفةُ الفَرقِ بين هذا وهذا من أعظَمِ ما يُعلَمُ به الفَرقُ بين الصِّراطِ المستَقيمِ الذي بَعَث اللهُ به رَسولَه وبين السُّبُلِ المخالِفةِ له، وكذلك الحُكمُ في المسائِلِ العِلْميَّةِ الفِقهيَّةِ ومَسائِلِ أعمالِ القُلوبِ وحَقائِقِها وغيرِ ذلك، كُلُّ هذه الأمورِ قد دَخَل فيها ألفاظٌ ومَعانٍ مُحدَثةٌ، وألفاظٌ ومعانٍ مُشتَرَكةٌ؛ فالواجِبُ أن يُجعَلَ ما أنزَلَه اللهُ مِنَ الكِتابِ والحِكمةِ أصلًا في جميعِ هذه الأمورِ، ثمَّ يُرَدَّ ما تكَلَّم فيه النَّاسُ إلى ذلك، ويُبَيَّنَ ما في الألفاظِ المجمَلةِ مِن المعاني الموافِقةِ للكِتابِ والسُّنَّةِ، فتُقَبُلَ، وما فيها من المعاني المخالِفةِ للكِتابِ والسُّنَّةِ فتُرَدَّ) .
وقال أيضًا: (علينا أن نُؤمِنَ بما قاله اللهُ ورَسولُه، فكُلُّ ما ثَبَت أنَّ الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قاله، فعلينا أن نُصَدِّقَ به، وإنْ لم نَفهَمْ معناه؛ لأنَّا قد عَلِمْنا أنَّه الصَّادِقُ المصدوقُ الذي لا يَقولُ على اللهِ إلَّا الحَقَّ، وما تنازعَ فيه الأُمَّةُ مِن الألفاظِ المجمَلةِ كلَفظِ المتحَيِّزِ والجِهةِ، والجِسمِ، والجَوهَرِ، والعَرَضِ، وأمثالِ ذلك؛ فليس على أحَدٍ أن يَقبَلَ مُسَمَّى اسمٍ مِن هذه الأسماءِ، لا في النَّفيِ ولا في الإثباتِ، حتَّى يتبَيَّنَ له معناه؛ فإن كان المتكَلِّمُ بذلك أراد معنًى صحيحًا مُوافِقًا لقَولِ المعصومِ، كان ما أراده حَقًّا، وإن كان أراد به معنًى مخالِفًا لقَولِ المعصومِ، كان ما أراده باطِلًا. ثمَّ يبقى النَّظَرُ في إطلاقِ ذلك اللَّفظِ ونَفْيِه، وهي مسألةٌ فِقهيَّةٌ؛ فقد يكونُ المعنى صحيحًا، ويُمتَنَعُ مِن إطلاقِ اللَّفظِ؛ لِما فيه من مَفسَدةٍ، وقد يكونُ اللَّفظُ مَشروعًا، ولكِنَّ المعنى الذي أراده المتكَلِّمُ باطِلٌ، كما قال عَلِيٌّ رَضِيَ اللهُ عنه -لِمن قال من الخوارجِ المارِقينَ: لا حُكْمَ إلَّا للهِ-: كَلِمةُ حَقٍّ أُريدَ بها باطِلٌ) .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (أصلُ ضَلالِ بني آدَمَ مِن الألفاظِ المجمَلةِ والمعاني المشتَبِهةِ، ولا سِيَّما إذا صادفت أذهانًا مُخبطَةً، فكيف إذا انضافَ إلى ذلك هوًى وتعَصُّبٌ؟!) .
وقال ابنُ أبي العِزِّ الحَنَفيُّ: (أهلُ الكلامِ المذمومِ يُطلِقونَ نَفْيَ حُلولِ الحوادِثِ، فيُسَلِّمُ السُّنِّيُّ للمتكَلِّمِ ذلك، على ظَنِّ أنَّه نفى عنه سُبحانَه ما لا يَليقُ بجَلالِه، فإذا سَلَّم له هذا النَّفيَ ألزَمَه نَفْيَ الصِّفاتِ الاختياريَّةِ وصِفاتِ الفِعلِ، وهو غيرُ لازمٍ له، وإنما أُتِيَ السُّنِّيُّ مِن تسليمِ هذا النَّفيِ المجمَلِ، وإلَّا فلو استفسَرَ واستَفصَلَ لم ينقَطِعْ معه) .
ومن ذلك: لفظُ: (الجِهةِ)، وهو لَفظٌ لم يَرِدْ في الكِتابِ والسُّنَّةِ إثباتًا ولا نفيًا، ويُغني عنه ما ثَبَت فيهما من أنَّ اللهَ تعالى في السَّماءِ، وأمَّا معناه فإمَّا أن يُرادَ به جِهةُ سُفلٍ، أو جِهةُ عُلُوٍّ تحيطُ باللهِ، أو جِهةُ عُلُوٍّ لا تحيطُ به.
فالأوَّلُ باطِلٌ؛ لمنافاتِه لعُلُوِّ اللهِ تعالى، الثَّابِتِ بالكِتابِ والسُّنَّةِ والعَقلِ والفِطرةِ والإجماعِ.
والثَّاني باطِلٌ أيضًا؛ لأنَّ اللهَ تعالى أعظَمُ مِن أن يُحيطَ به شيءٌ مِن مخلوقاتِه.
والثَّالِثُ حَقٌّ؛ لأنَّ اللهَ تعالى العَلِيُّ فوقَ خَلْقِه، ولا يحيطُ به شيءٌ مِن مخلوقاتِه .
موقع الدرر السنية بتصرف
Bookmarks