النتائج 1 إلى 1 من 1

الموضوع: هدية رمضان وكل عام وأنتم بخير علي عزت بيجوفيتش وكتابه «الإسلام بين الشرق والغرب»

  1. Arrow هدية رمضان وكل عام وأنتم بخير** علي عزت بيجوفيتش وكتابه «الإسلام بين الشرق والغرب»

    علي عزت بيجوفيتش وكتابه «الإسلام بين الشرق والغرب»



    على مدى عام أو يزيد ابتداءً من يولية 1992 ومأسة البوسنة والهرسك تستأثر بأولوية في الاعلام العالمي، فمن منّا لم يسمع بأهوال العدوان الصربي الوحشي على شعب البوسنة الاعزل؟ ومن منا لم يسمع بأعمال التطهير العرقي واغتصاب الارض والعرض.. ومعسكرات التعذيب؟ ومع ذلك نادرا ما كنا نشاهد «علي عزت بيجوفيتش» يظهر على شاشة التلفزيون وهو رئيس الدولة المُغتصبة وقائد المقاومة المستميتة. وعندما يظهر الرجل ـ لحظات خاطفة ـ في نشرات الاخبار نلمح انساناً مثقلاً كأنه يحمل على عاتقه جبلا من الهموم. ولكننا لا نملك إلاّ أن نعجب كيف انّه لا يزال قويا متماسكا لم يتحطم.. لقد عاش المآسي والكوارث التي تنقضُّ على شعبه ووطنه ليل نهار، وهو نفسه محاصر في مدينة سراييفو بمدفعية الصرب وقنّاصتهم يحدّقون بالمدينة على قمم الجبال، وقد تمزقت المدينة وتقطعت فيها شرايين الحياة فلا طعم ولا ماء ولا كهرباء. وتحول استاد سراييفو ـ الذي احتضن الالعاب الاولمبية الشتوية يوما ـ إلى مقبرة كبرى تضم رفات آلاف الضحايا من المسلمين الذين سقطوا صرعى في المجازر الصربية الهمجية.
    صلابة علي عزت:

    كان للرجل امل في ان ينهض المجتمع الدولي بواجبه في انقاذ شعبه الاعزل أو على الاقل يرفع عنه حظر التسلح حتى يتمكن من الحصول على سلاح يدافع به عن نفسه ضد الغزو والعدوان، ولكن يطول انتظاره ولا يأتيه من الاخبار في كل يوم الا أسوأها: فموقف الامم المتحدة هزيل مُخز، وموقف الولايات المتحدة سلسلة من التشنجات والتراجعات المهينة. وأما موقف أوربا. فأقل ما يوصل به انّه موقف متحيز خسيس. فالماساة تقع في قلب اوربا والحقائق تقع امامها صارخة مزلزلة.. ولكن اوربا لا تحرك ساكنا لرد العدوان، وانما تتوالى تصريحات ساستها بأن دولهم لن تتدخل في الصراع وكأنهم يقولون للصرب: افعلوا اذن ما يحلو لكم.

    قاومت بريطانيا مستميتة كل دعوة أو مبادرة لتسليح المسلمين بحجة ان ذلك يطيل امد الحرب ويزيد من اراقة الدماء.. وكانها تقول: دع المسلمين عُزلا من السلاح يائسين حتى يتم قتلهم بسرعة وسهولة، فاذا اُبيدوا ينتهي الصراع وتزول المشكلة. وهكذا تقف الحضارة الغربية عارية مجردة من كل مزاعمها الإنسانيّة والاخلاقية، وينكشف وجهها القبيح امام الالم.

    ان (علي عزت) لا يعيش فقط ماساة شعبه الدامية ولا تحاصره مشاعر الاحباط المتصل بسبب المواقف الدولية المتخاذلة تجاه قضية بلاده العادلة، ولكن بالاضافة إلى كل ذلك يتعرض لمحاولات تستهدف تحطيم شخصيته وتمزيق

    ____________________________





    نسيجه النفسي وسحق صلابته وشموخه واعتزازه بفكره ودينه وشعبه. وللاسف الشديد لا تأتيه هذه المحاولات من قبل اعدائه الظاهريين من الصرب والكروات فحسب وانما تأتيه بصفة خاصة من خلال المفاوضات في قصر الامم المتحدة، وبواسطة خبراء في المكر السياسي والدبلوماسي من امثال لورد «كارنجتون» ولورد «أوين» وغيرها، وهم اناس جعلوا اكبر همهم ان يروا علي عزت ينهار مستسلماً لضغوطهم فيوقّع على وثيقة موته ونهاية دولته وتحويل شعبه إلى شراذم من اللاجئين المشردين. وعندئذ تنحل عقدة المجتمع الدولي ودول اوربا بصفة خاصة.. فلن تكون في حاجة إلى سحب اعترافها السابق بدولة البوسنة والهرسك التي لم يعد لها وجود.

    كانت هذه الظروف المأساوية جديرة بتحطيم اقوى الرجال، ولكن علي عزت ظل صامدا متماسكاً متوازن العقل صحيح النفس، وهو امر يثير الدهشة ويبعث على التساؤل.. ولكن لعل دهشتنا تزول إذا عرفنا طرفا من حياة الرجل وفكره كما يتمثل في كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب»، فهذا الكتاب يمدنا برؤية داخلية كاشفة لشخصية مؤلفه وسماته النفسية والاخلاقية.

    عاشق الحرية:

    قضى (علي عزت) فترات طويلة وراء قضبان السجون ـ في دولة يحكها نظام شيوعي دكتاتوري ـ بسبب افكاره التي لا تنسجم مع فكر النظام، الذي لا يقبل من رعاياه أقل من التسليم الكامل والتبعية المطلقة فلا يرتفع فكر ولا رأي آخر ما عدا فكر الدولة ورأيها. ولم يكن علي عزت من النوع الذي يتنازل عن جوهر انسانيته الذي يتمثل في حرية الاختيار وحرية الفكر والتعبير. وسنجد ان فكرة الحرية الإنسانيّة محور اساسي هام من المحاور التي تدور عليها الموضوعات التي تصدّى للكتابة فيها. ومما له دلالة نفسية على موقف المؤلف الخاص انّه عالج هذه الفكرة في علاقتها بالدكتاتورية والنظم الشمولية في اكثر من موضع وانتهى من تحليلاته إلى ان هذه النظم غير ممكنة، بمعنى انّه يستحيل استمرارها في الوجود لانها تنظر إلى الإنسان نظرة احادية الجانب فتصطدم بأعمق ما في طبيعته. وكأن علي عزت في ذلك الوقت المبكر كان يتنبأ بانهيار النظم الشيوعية قبل ان يبدأ الزلزال الذي اكتسحها بوقت طويل.

    يمضي (علي عزت) ليكشف عن طبيعة العلاقة التي تربط بين السلطة المستبدة وبين نوعين مختلفين من الناس يسميهم «الاتباع والهراطقة». فهناك علاقة توافق وانسجام بين الاتباع الذين يعشقون التبعية والخضوع، وبين السلطة التي تحب ان يكون لها اتباع مخلصون لا يسألونها وانما يصفقون ويستحسنون. ويعلق المؤلف على ذلك بقوله: «انهم جميعاً متوافقون منسجمون كأنهم اجزاء من كل واحد». اما الهراطقة فانه يتحدث عنهم كأنه يصف نفسه فيقول: «انهم اناس اشقياء.. يتطلعون دائماً إلى شيء جديد.. قليلاً ما يتحدثون عن الخبز ولكن يتحدثون كثيراً عن الحرية.. يتحدثون عن السلام قليلاً وعن الشخصية الإنسانيّة كثيراً. انهم لا يقبلو فكرة ان الملك يمنحهم مرتباتهم وانما على العكس يعتقدون انهم هم الذين يطعمون الملك.. هؤلاء هم الهراطقة الخارجون.. لا يحبون السلطة ولا تحبهم السلطة.. في الاديان يُوقّر الامعات الاشخاص.. والسلطات.. والاوثان.. اما عشّاق الحرية فانهم لا يمجدون الا الله».

    ولد علي عزت سنة 1925 في مدينة «بوسانا كروبا» في شمال غرب البوسنة، وقد اصبحت هذه المنطقة الآن تحت الاحتلال الصربي. واسم عائلته بجوفيتش معناه الحرفي «ابن عزت بك» وكلمة «بك» لقب شرفي موروث من الدولة العثمانية كان يمنح لمن قدم خدمة مرموقة لبلاده. وعلي عزت من اسرة مسلمة عريقة في البوسنة. تعلم في سراييفو والتحق بمدرسة تسمى «جمنازيوم» وهي مدرسة ثانوية تتبنى منهجاً اكاديمياً على غرار المناهج الالمانية، ويتميز النظام المدرسي فيها بالدقة والصرامة.

    جماعة الشباب المسلمين:

    في ذلك الوقت كانت البوسنة والهرسك جزءاً من مملكة تحكمها اسرة لبرالية. ولم يكن التعليم الديني جزءاً من المناهج المدرسية. وكان علي عزت ـ وهو لا يزال شاباً ناشئاً ـ واعياً بأهمية ان يتعرف على دينه ويقرأ فيه قراءة مستفيضة فأتفق هو وبعض زملائه في المدرسة ان ينشئوا نادياً مدرسياً للمناقشات الدينية سموه «ملادي مسلماني» اي الشبان المسلمين.. وكثير من زملاء علي عزت واصدقائه ينتمون إلى هذه الفترة المبكرة من حياته.

    تطورت جماعة «الشبان المسلمين» فيما بعد فلم تقتصر في نشاطها على الاجتماعات والمناقشات وانما امتدت إلى اعمال تعليمية وخيرية، وانشىء بها قسم خاص بالفتيات والمسلمات.. واستطاعت الجماعة اثناء الحرب العالمية الثانية ان تقدم خدمات فعالة في مجال ايواء اللاجئين ورعاية اليتامى والتخفيف من ويلات الحرب.. والى جانب هذه الانشطة تضمن برامج الجماعة برنامجاً «لبناء الشخصية». وكانت عضوية الجماعة تجتذب طلاباً من المدرسة الثانوية ومن جامعة سراييفو. ومن الثابت ان اتجاهات الجماعة وتطورها نحو التكامل والنضوج كان نتيجة سعيها المستمر لتحسين نفسها، ومحاولة الاستفادة في عملها بالمعرفة التي توصلت اليها من خلال تحليلاتها واجتهاداتها الخاصة إلى جانب تأثرها بأفكار اخرى جاء بها بعض الطلاب البوسنيين الذين تعلموا في جامعة الازهر بالقاهرة واتصلوا بمنظمات اسلامية هناك تعلموا منها ان الإسلام ايمان وعمل.. دين ودنيا.. وانّه اسلوب حياة بقدر ما هو طريقة في التفكير. وسنجد هذه الافكار تتطور عند علي عزت في كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب» حيث يعالجها بمنهجه الخاص في اطار فلسفي.

    كانت مجموعة الشباب المتعلم الدينامي الملتزم بفكر الإسلام واخلاقياته تحفزهم رغبة قوية لايقاظ مجتمعهم وتخليص فكره من كثير من المعتقدات الخاطئة التي كان يظن انها من الدين ولكنها في الحقيقة لا تستند إلى أي اساس من القرآن أو السنّة النبوية الصحيحة. وهي معتقدات سكت عنها رجال الدين الرسميون أو ساهموا في ترويجها لقلة فقههم في الدين. وبسبب ذلك، ولاسيما اخرى تتعلق بعجزهم عن مواجهة تطورات الحياة الحديثة بالفهم والمعالجة المستنيرة، كانت صلة علي عزت وصحبه بعلماء الدين الرسميين صلة محدودة يشوبها كثير من عدم الثقة بأهليتهم في ان يكون لهم دور فعال في انهاض المسلمين وتنويرهم وتخليصهم من كبوة الجهالة والارتكاس في الخرافات.

    ولكن تبين للشبان المسلمين فيما بعد ان بقاءهم واستمرار نشاطهم لن يتحقق الا إذا كانت لهم مظلة رسمية تحميهم من مظنة اهل السوء والسلطان، فاقتربوا من «جمعية العلماء» وشجعهم على ذلك الشيخ «قاسم دوبراشا» (الذي توفى سنة 1979). وظل علي عزت محتفظاً بعلاقة ذات طابع عملي برجماتي مع «جمعية العلماء» وان كان لا يأمل فيهم كثيراً خاصة وان الدولة في ظل النظام الشيوعي كانت تتدخل في اختيار رئيس الجمعية وتضع لها اطراً حديدية في مجال نشاطاتها العامة. وقد انعكس هذا على فكر علي عزت الذي كان لا يؤمن بقدرة المؤسسات الدينية الرسمية على احداث تغييرات اجتماعية وسياسية ايجابية في مجتمعاتها. ويظهر موقفه هذا بوضوح في انتقاده لهذه المؤسسات، لعل اقواها تعليقه على حياة وأفول كل من الثورة والدين حيث يقول: «ان كلاً من الدين والثورة يولدان في مخاض من الالم والمعاناة، ولا تدوم حياة الدين والثورة بدوام النضال والجهاد، حتى إذا تحققا يبدأ الموت يتسرب اليهما».. ذلك لان الدين والثورة ـ في مرحلة تحققهما في الواقع العملي ـ يقيمان لهذا الغرض مؤسسات.. هذه المؤسسات هي نفسها التي تقضي عليهما في نهاية الامر.. فالمؤسسات الرسمية لا هي ثورية ولا هي دينية».

    اما جماعة الشبان المسلمين فكانت منظمة عفوية حية ظلت مجالاً متطوراً يتدرب فيها اجيال من الشباب المسلم وينمون في اطارها قدراتهم الفكرية والعملية.

    التحق علي عزت بكلية القانون في «جامعة سراييفو»، وظل مستمراً في عضويته بلجنة الشبان المسلمين. وفي ابريل 1941م استولى جيش «هتلر» على يوغسلافيا فأحل فيها مكان الملكية جمهورية كرواتية فاشستية. وكانت جمعية الشبان المسلمين تلتزم بسياسة خاصة تحرّم على اعضائها الالتحاق بحركة «الأستاشا» النازية الموالية للالمان، ولهذا السبب عندما تقدموا للسلطات الحكومية الجديدة لتسجيل جمعيتهم رفضت هذه السلطات طلبهم.

    كانت اتجاهات جماعة الشبان المسلمين ـ منذ وقت مبكر في حياتها ـ اتجاهات واضحة وثورية.. فقد ورد في مقال لها نشر سنة 1942م بان الإسلام ليس ديناً فقط وانما هو ايديولوجية عالمية يتضمن شؤونا اجتماعية وأموراً تتعلق ببناء الدولة وسياستها.. وقد نشر هذا المقال في مجلة «جمعية العلماء» التي كانت تحمل عنوان (الهداية» ولم يشأ صاحب المقال ان يذكر اسمه وانما اكتفى بتوقيع (طالب طب من الشبان المسلمين). وكان وصف الإسلام بالايديولوجية العالمية في ذلك الوقت المبكر يدل على توجهات الجماعة وتبنيها لفكرة اسلامية سياسية نجد صداها واضحاً في كتاب علي عزت الذي نحن بصدده، كما نراها بصورة ممركزة في كتاب صغير آخر له بعنوان «الاعلان الاسلامي».

    وتدلنا دراسة فكر وحركة الشبان المسلمين في البوسنة على ان افكار هذه الجماعة كانت مزيجاً من تحليلاتهم واجتهاداتهم الخاصة مع تأثيرات خارجية سبق ان المحنا اليها.

    وتتضح حيوية هذه الجماعة في اتجاهها نحو تعميق فكرها ورغبة اعضائها في الانفتاح على الفكر العالمي، فكانت لهم خطط منظمة لتعلم اللغات الاوربية. وقد اشتملت قراءاتهم على مؤلفات «محمد اسد» في الإسلام باللغة الالمانية ضمن قراءات اخرى كثيرة. وكان من عادتهم ان يجتمعوا ليقرأوا معاً ما يجري على الساحة في الاوضاع السياسية بالعالم الاسلامي. ومن خلال كتابات محمد اسد عرفوا كثيراً عن الحركة الإسلامية في باكستان وكانت تحمل في طياتها املاً في وقت من الاوقات. وقد اشار اليها علي عزت في كتاباته وتعرض لبعض جوانبها السلبية بالنقد في كتابه «الاعلان الاسلامي».

    وفي هذا المجال نذكر ان اهتمام علي عزت بتعلّم اللغات الاوربية لم يقتصر على اللغة الالمانية فحسب وانما امتد ليشمل اللغتين الفرنسية والانجليزية فقد كان حريصاً ـ فيما يبدو ـ على ان يتصل بالفكر الغربي في منابعه وبلغته الاصلية. ويظهر هذا واضحاً في ثقافته الواسعة التي انعكست في كتاباته كما يظهر في العدد الهائل من المراجع التي اتصل بها خلال بحثه لموضوع كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب» وتشتمل على موضوعات متنوعة في الفلسفة والاخلاق والقانون والفنون والعلوم الطبيعية وعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم الجريم والادب والشعر والتاريخ والاديان.
    الصراع مع النظام الشيوعي:

    انتهت الحرب العالمية سنة 1945م، وخرج «جوزيف بروز تيتو» وحزبه الشيوعي من انقاض الحرب ليعلنوا سيطرتهم على السلطة، ويؤسسوا دكتاتورية النظام الشيوعي في يوغسلافيا. أما بقية المنظمات غير الشيوعية فقد الغيت أو اخترقت. وحوكم قادة المسلمين البارزين وأعدم بالفعل كثير منهم. وتم اعتقال الفين من اعضاء جماعة الشبان المسلمين فأرسل عدد منهم إلى معسكرات العمل الشاق بدون محاكمة، وحوكم بعضهم الآخر محاكمات صورية ثم اودعوا السجون. واختفى بقية اعضاء الجماعة تحت الارض حيث اصدروا صحيفة سرية سموها «مجاهد»، وسعى بعضهم للحصول على تدريبات عسكرية تحسباً من ان تقوم السلطات الشيوعية بتصفيات جديدة بين المسلمين. وفي سنة 1949 انقض عليهم تيتو مرة اخرى بقسوة اكبر. وليس واضحاً تمام إذا كان علي عزت قد اعتقل في التطهير الاول أو الثاني ولكن الثابت انّه ظل مسجوناً حتى افرج عنه سنة 1954م وكان عمره في ذلك الوقت 29 سنة.

    ورغم كل ما عاناه علي عزت في السجن على يد النظام الماركسي الا ان هذا الظلم الذي وقع على شخصه لم يمنعه من ان يكون منصفاً لهذا النظام في نقطتين محدودتين: ففي سياق حديثه عن افلاس الفكر الماركسي تحت وطأة الدكتاتورية والارهاب اشار علي عزت إلى ان الاضافة الوحيدة التي تستحق الذكر في الفكر الماركسي بعد «لينين» جاءت من يوغسلافيا متمثلة في فكرة الادارة الذاتية. وفي ذلك يقول: «.. انها تعتبر طريقاً متميزاً.. فهي تعني تحرراً من النمذجة(1) والمذهبية المغلقة التي وضعت فيها الماركسية الاغلال على نمو فكر الطبقة العاملة». اما النقطة الثانية فتتمثل في موقفه المؤيد لحركة عدم الانحياز، وكانت يوغسلافيا احدى اربعة دول تتزعم هذه الحركة، وقد رأى علي عزت في انضمام الدول الإسلامية إلى هذه الحركة دليلاً على رفضها التبعية للشرق أو الغرب، واتخاذها موقفاً وسطاً بين الكتلتين المتطرفتين المتصارعتين وهو يرى انّه موقف يتفق تماماً مع طبيعة الإسلام وروحه التي تنبذ التطرف وتكرس الوسطية.

    عمل علي عزت بعد خروجه من السجن محامياً متخصصاً في القانون التجاري لدى احدى الشركات. وفي غضون ذلك نشأت بينه وبين «حسين دوزو» علاقة. وكان «حسين دوزو» قد تخرج من جامعة الازهر وعينته الحكومة اليوغسلافية رئيساً «لجمعية العلماء» وكان حريصاً من جانبه على ان يقيم حواراً بين العلماء وبين المثقفين المسلمين. وقد اتيح لعلي عزت من خلال هذه العلاقة ان ينشر مقالاته في مجلة الجمعية المسماة «تاكفين Takvin» على مدى عقد السبعينات فتناول في مقالاته موضوعات في الثقافة والاخلاق مستخدماً اسماً مستعاراً مكوناً من ثلاث حروف «ل. س. ب» وهي الحروف الاولى من اسماء ابنائه «ليلى وسابينا وبكر». وكان لهذا الانفتاح عى جمعية العلماء اهمية كبرى فقد استطاع علي عزت ايصال فكره لخمسين الف مسلم من قراء المجلة.

    وفي سنة 1981م قام ابنه «بكر» بجمع سلسلة من مقالات ابيه في كتيب وضع له عنواناً هو «الاعلام الاسلامي». وقد اثار هذا الكتاب ضجة اعلامية كبيرة في يوغسلافيا، واستغل استغلالاً ظالماً ضد مؤلفه، وقد كان ولا يزال اداة اتخذها الصرب والكروات لتحريض الغرب على دولة «البوسنة والهرسك» وعلى رئيسها وكانت التهمة المعلنة هي «الاصولية الإسلامية».

    وجاء ذلك متسقاً مع اتجاه الغرب لخلق عدو جديد بدلاً من الشيوعية التي انهارت، فوجد في الإسلام ايديولوجية مؤهلة لهذه الوظيفة، وهي فكرة تروج لها الصهيونية العالمية وتجد لها صدى واسعاً في دوائر الاعلام الغربي بل تجد انصاراً اكثر تحمساً في بلاد المسلمين من العلمانيين المتطرفين والماركسيين القدامى تؤازرهم السلطات الحاكمة ملتمسة لنفسها شرعية ما، بعد ان فقدت مصداقيتها لدى الجماهير. ولعل هذا يفسر الموقف السلبي لحكومات الدول المسلمة والموقف الغربي المنحاز إلى العدوان الصربي الكرواتي ضد البوسنة وضد رئيس جمهوريتها.

    ____________________________

    1- اشتقاق من نموذج (ترجمة لكلمة Model) ويراد بها صياغة أو تخطيط أو تشكيل على غرار نموذج أو تقليد لنموذج أو نمط معين، وهو مصطلح يُستخدم في العلوم الطبيعية ومُستعار لعلم الاجتماع.



    عندما صدر كتاب «الاعلام الاسلامي» كانت يوغسلافيا محكومة بمجلس مكون من رؤساء جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي، وكان رد الفعل بازاء الكتاب شديد الحدة فألقى القبض على مؤلفه ووجهت إليه تهمة السعي لاحياء جماعة الشبان المسلمين ضمن اتهامات اخرى. وكان توجيه الاتهام في حد ذاته مهزلة لان محتويات الكتاب كلها سبق نشرها على حلقات خلال عشر سنوات في مجلة مسموح بها من قبل السلطات الحكومية، وليس في الكتاب شيء جديد. كانت السلطات قد القت القبض مع علي عزت على مجموعة اخرى من اصدقاءه المثقفين بينهم سيدة، ووجهت إلى الجميع تهمة العمل ضد نظام الدولة وأمن شعبها والسعي لتحويل البوسنة والهرسك إلى دولة اسلامية. ولم تكن هناك اي ادلة حقيقية تدعم هذا الاتهام سوى كتاب «الاعلام الاسلامي» الذي لم يرد فيه ذكر لاسم يوغسلافيا أو البوسنة كما اشرنا من قبل.

    اجريت محاكمة صورية لعلي عزت وصحبه سنة 1983م، وسمح لاصدقاء المتهمين وأسرهم بحضور الجلسة الاولى فقد ثم استكملت المحاكمة بعد ذلك في جلسات سرية سريعة. ويذكر شهود الجلسة الولى ان علي عزت قام للدفاع عن نفسه فلم ينكر انّه مؤلف الكتاب وانّه مسؤول عن محتوياته. وكانت حجته ان كتاباته كانت موجهة إلى المسلمين بصفة عامة وانّه من شأن المسلمين في البلاد التي يشكلون فيها الاغلبية العظمى من السكان ان يختاروا ـ إذا شاءوا ـ نظاماً اسلاميا للحكم ولا يصح عندئذ ان تتدخل الدول الغربية ضد هذه الرغبة.

    ولم تلتفت المحكمة لدفاع علي عزت فأصدرت حكمها عليه مع زملاه بالسجن لمدة 14 سنة.

    في تلك الاثناء طارت شهرة علي عزت في انحاء يوغسلافيا وأصبح حديث الناس في بيوتهم. وهكذا ادخل علي عزت السجن للمرة الثانية بتهمة باطلة، وكأن الاقدار كانت تصنعه بطريقة خاصة وتهيئه لدور صعب ينتظره في المستقبل القريب.

    انهيار يوغسلافيا وبداية الصراع:

    خلال وجود علي عزت بالسجن بدأ الزلزال يجتاح العالم الشيوعي في اوربا الشرعية وتحققت نبوءته بانهيار النظم الاشتراكية. وبرزت على انقاض هذه النظم نزعات قومية وعرقية كانت مكبوتة في يوغسلافيا، اخذت تعمل على تفكيك الوحدة الهشة التي صنعها تيتو وحافظ عليها مدة حياته بالحيلة والدهاء. وكان لظهور رؤساء جمهوريات مثل «سلوبودان ميلوسوفيتش» الصربي و«تودجمان» الكرواتي من اصحاب النزعات الفاشية العرقية من الاسباب الاساسية التي ادت إلى الانهيار السريع في يوغسلافيا، فانشقت سلوفينيا ثم كرواتيا وأعلنا استقلالهما معاً في يوم 25 يونيو سنة 1991. وفي صباح 26 يونيو هاجمت القوات الصربية كرواتيا، وكان بامكانها سحق كرواتيا بآلتها العسكرية الرهيبة التي انفردت بها ميراثاً من الدولة اليوغسلافية السابقة، ولكنها اضطرت لايقاف العمليات العسكرية عندما ادركت وتأكدت ان الدول الاوربية وبالاخص المانيا سوف تتدخل بالقوة العسكرية للدفاع عن كرواتيا.

    كانت موجة التغيير التي بدأت تجتاح يوغسلافيا عاملاً هاماً في استرخاء قبضة السلطة المركزية عن الجمهوريات، ومن ثم تهيأت الظروف لاعادة محاكمة علي عزت وصحبه حيث الغت محكمة سراييفو الحكم الذي صدر عليهم بالسجن وأفرج عنهم 1989 بعد ان اعادت المحكمة لهم اعتبارهم.

    بدأت مرحلة جديدة في حياة علي عزت فقد كان دوره السابق هو دور المفكر الثائر ورجل الاخلاق والمواقف، ولكنه اصبح الآن امام مرحلة جديدة تتطلب منه دوراً سياسياً قيادياً، خصوصا وان كل الدلائل تشير إلى مخاطر كبرى وأزمات مقبلة تلوح في الافق. ولذلك انشأ علي عزت حزباً جديداً باسم «حزب العمل الديمقراطي» استطاع به هزيمة الحزب الشيوعي وتولى رئاسة جمهورية البوسنة والهرسك اعتباراً من نوفمبر 1990م.

    كانت القيادة البوسنية تشعر بالقلق ازاء الصراع الذي اندلع بين صربيا وكرواتيا ان يؤثر على التركيبة العرقية المتداخلة من المسلمين والصرب والكروات في انحاء جمهورية البوسنة والهرسك، ومن ثم تنجرف إلى حرب اهلية كتلك الحروب السابقة التي خرج منها المسلمون بأكبر نصيب من الويلات والمآسي. ولذلك كان على القيادة البوسنوية ان تحدد موقفها بعد انفصال سلوفينيا وكرواتيا وتفجر الصراع العسكري في المنطقة.

    جهود علي عزت في تجنب الصراع العرقي:

    لابد هنا من تقرير حقيقة هامة وهي ان المسلمين بقيادة علي عزت لم يستهدفوا الانفصال على اي وجه. فلم يكن لديهم اي اعتراض على قيام نوع من الاتحاد تتوازن فيه القوى ويرضى به الجميع وتتحقق فيه حرياتهم وحقوقهم الإنسانيّة ولكنهم بازاء الصراع الذي اندلع في المنطقة بالفعل لم يعد امامهم سوى ان يختاروا لانفسهم بين ثلاثة طرق كل طريق منها يؤدي إلى إلى الصراع وكل منهم ينطوي على مخاطره ومحاذيره: فاما ان ينظموا إلى الحرب وتحت مظلة الاتحاد اليوغسلافي الجديد الذي يدعون إليه وهو في الحقيقة مشروع صربيا الكبرى الذي يقوده ويخطط له «سلوبودان ميلوسوفيتش»، وبذلك يتعرض المسلمون لانتقام الكروات، واما ان ينظموا إلى الكروات ويتعرضون لانتقام الصرب، وهم في كلتا الحالتين لا يعرفون مصيرهم بعد انتهاء الصراع، وان كانوا على يقين انهم كانوا يبوءون بأكبر الخسائر في مثل هذه الصراعات. ويتبلور هذا الموقف العصيب في كتاب من تأليف الصحفي البريطاني «مارك تومسون» بعنوان The Paper House‎ ينسب فيه إلى علي عزت قوله: «ان تضطر إلى الاختيار بين الرئيس الكرواتي «تودجمان» وبين الرئيس الصربي «ميلوسوفيتش» كأنك تختار بين سرطان الدم أو سرطان الدماغ. ولذلك لم يبق امام المسلمين سوى الطريق الثالث وهو الاستقلال. يتألف شعب البوسنة والهرسك من ثلاثة عناصر اساسية من السكان: المسلمون هم الاغلبية ثم الصرب والكروات. ولقد عاشت هذه العناصر الثلاثة على مر العصور في تآلف نسبي اعتبره الكتاب الاوروبيون نموذجاً لا مثيل له في منطقة البلقان بأسرها. ولذلك رأى علي عزت ان «جمهورية البوسنة والهرسك» بتركيبتها العرقية وامتزاجها التاريخي يمكن ان تكون منطقة سلام وجسرا تعبر عليه محاولات التقريب والوفاق بين العدوين اللدودين الصرب والكروات. ولهذا قدّم علي عزت اقتراحاً لرؤساء جمهوريات يوغسلافيا في اجتماعهم سنة 1991 بمشروع حل وسط ينهي الازمة ويمنع تفجر الموقف المتأزم بين سلوفينيا وكرواتيا من ناحية وبين الصرب من ناحية اخرى. وقد تضمن هذاا المشروع النقاط التالية:

    - ان تتحد جمهوريتا الصرب والجبل الاسود في اتحاد فيدرالي خاص بها.

    - تتحد جمهوريتا كرواتيا وسلوفينيا في اتحاد كونفدرالي.

    - تتحد جمهورية البوسنة ومقدونيا في اطار اتحادي يتفقان على صيغته فيما بعد.

    ايجاد اطار يوغسلافي يضم الاتحادات الثلاثة، بشرط ان تتمتع جميع الجمهوريات في داخله بالسيادة والاستقلال. وبذلك يضمن المشروع بقاء الكيان اليوغسلافي. وقد حظي هذا المشروع بتأييد المجموعة الاوربية باعتباره الحل الوحيد الذي يمنع الانزلاق إلى مخاطر الحرب الاهلية. ولكن رفضته صربيا لانه يعوق تطلعاتها إلى الهيمنة والتوسع، وبالاخص القضاء على دولة البوسنة والهرسك وانهاء الوجود الاسلامي بها. وعلى اثر ذلك اجرى علي عزت استفتاء عاماً على استقلال جمهورية البوسنة عن يوغسلافيا وصوّت الشعب البوسني بأغلبية 70% لصالح الانفصال والاستقلال، وثم الاعتراف بالدولة الجديدة من المجتمع الدولي. وعلى الفور بدأت الصرب حرب الابادة والتطهير العرقي الذي كانت تخطط له من قبل. ولا تزال سلسلة الماساة تتوالى حلقاتها.

    كتاب «الإسلام بين الشرق والغرب»:

    كان علي عزت يدرك منذ وقت مبكر المخاطر المحدقة بالاجيال الجديد وقد حرموا من اي تعليم اسلامي في مجتمع دينه الرسمي الالحاد كان يعتبر اقتناء المسلم لمصحف قرآن جريمة يستحق عليها العقاب، لذلك كان علي عزت معنياً بتوفير ادوات مناسبة عصرية لتعميق الفكر الاسلامي عند الشباب المسلم فعكف على بحث وتأليف كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب» كان الهدف منه كما ذكر في مقدمته: «محاولة ترجمة الإسلام إلى اللغة التي يتحدث بها الجيل الجديد ويفهمها» وعندما اوشك على انهاء الكتاب اودع السجن كما سبق ان اشرنا فلم يتمكن من نشره آنذاك. ولكن استطاع صديق له هو «حسن كراجيتش» ان يهرّب اصول الكتاب خارج يوغسلافيا حيث قام باستكمال الاستشهادات المرجعية للكتاب وترجمته إلى اللغة الانجليزية، ونشر اول طبعة له في الولايات المتحدة سنة 1984، ثم اعيد طبع الكتاب مرة اخرى سنة 1989 وهي الطبعة التي قمنا بترجمتها إلى العربية.

    ليس كتاب «الإسلام بين الشرق والغرب» كتاباً بسيطاً يمكن للقارىء ان يتناوله مسترخياً أو يقتحمه من اي موضع فيقرأ صفحة هنا وصفحة هناك ثم يظن انّه قد فهم شيئاً، انما على القارىء الجاد ان يحتشد له ويتهيأ للدخول في عالم فكري واضح الثراء متميز بمنهج تحليلي دقيق، فالمؤلف يضع كل فكره تحت مجهره الفاحص، وهو في ذلك دائب السعي للوصول إلى حقائق الاشياء وجوهرها. والكتاب إلى جانب ذلك يتمتع بأسلوب أخّاذ وقوّة منطق تعكس ثقافة مؤلفه العميقة. فمؤلف الكتاب متمكن من الثقافتين الإسلامية والغربية معاً. ولا ننسى انّه اوروبي بالمولد والنشأة والتعليم، ساعدته قدراته اللغوية ان ينفذ إلى اعماق الفكر الغربي في لغاته الاصلية الالمانية والانجليزية والفرنسية إلى جانب لغته البوسنية (الصربوكرواتية).

    العدمية احتجاج على غياب الالوهية:

    لقد استوعب علي عزت الفكر الغربي ولكنه لم يغرق فيه ولم يجهل أو يتجاهل ما فيه من جوانب القوة ولكنه في نفس الوقت - وهو ينظر من داخله ـ استطاع ان يدرك فيه مواطن الضعف والقصور والتناقض. كما استطاع بمنهجه التحليلي المقتدر ان يكشف لنا عن عناصر دينية كامنة في بعض المذاهب الفلسفية حتى تلك التي نظن بل يظن اصحابها انها ابعد ما تكون عن الدين مثل فلسفات العدميين والوجوديين والعبثيين. فعلي عزت يرى ان العدمية تمرد على الحضارة ذات البعد الواحد التي اخرجت الإنسان من حسابها فلم يعد له مكان فيها. فالقلق البدائي والنظر فيما وراء الموت والبحث المضني عن طريق خارج هذه الضائقة المحيطة كلها هموم مشتركة بين العدمية والدين. يقول علي عزت: «ان العدمية ليست انكاراً للالوهية بقدر ما هي احتجاج على غيابها.. والعدمية عند «بكت» احتجاج على غياب الإنسان أو احتجاج على حقيقة ان الإنسان غير ممكن وغير متحقق.. هذا الموقف ينطوي على فكرة دينية لا فكرة علمية عن الإنسان وعن العالم. فالعلم يزعم ان الإنسان ممكن ومتحقق ولكننا في التحليل النهائي نجد ان ما هو متحقق في نظر العلم شيء لا انسانية فيه» ثم يمضي قائلاً: «لان المادية ترفض الغائية في العالم فانها تتخلص بذلك من مخاطر العبثية والتفاهة.. فعالم المادية وانسانها لهما غايات عملية ووظيفة.. لتكن وظيفة حيوانية.. لا يهم». ويعلق علي عزت على عبارة «سارتر» التي يصف فيها الإنسان بانه عاطفة تافهة فيقول: «انها عبارة دينية بمنطقها وبروحها معاً.. انها تتضمن ان الإنسان والعالم ليس بينها تناغم أو تطابق.. وهذا الموقف المتطرف تجاه العالم المادي كان هو بداية جميع الاديان». ثم يمضي قائلاً: «ان التفاهة عند «سارتر» والعدمية عند «كامي» يفترضان البحث عن هدف ومعنى وهو بحث يختلف عن البحث الديني في انّه ينتهي عندهما بالفشل.. فالعدمية خيبة امل بسبب غياب الخير من العالم، فكل شيء تافه وعدم ما دام الإنسان يموت إلى الابد.. ان الفلسفة العدمية تعبر عن القلق، والقلق بجميع درجاته ـ فيما عدا نتيجته ـ هو قلق ديني.. الإنسان غريب في هذا العالم سواء عند العدمية أو في نظر الدين.. والفرق ان العدمية تعتبر الإنسان ضائعاً بلا امل وأما الدين فبه أمل في الخلاص».

    ويؤكد علي عزت ان افكار «البير كامي» لا يمكن فهمها إلاّ إذا اعتبرنا صاحبها مؤمناً مخيب الرجاء، ويستشهد على ذلك بفقرة من «كامي» يقول فيها: «في عالم خبا فيه الوهم فجأة وانطفأ الضياء يشعر الإنسان بالاغتراب.. فلا ذكريات هنالك ولا وطن مفقود.. ولا أمل في الوصول إلى ارض موعودة.. كل شيء جائز طالما ان الإنسان يموت وان الله غير موجود». يقول علي عزّت «ان هذه العبارة الاخيرة ليس بينها شيء مشترك وبين الالحاد القاطع اليقيني الذي نصادفه عند المفكرين العقلانيين، انما على العكس هو صرخة صامتة لروح أجهدها البحث عن الله ولم تجده.. انها الحاد البائس».

    هذا موقف انساني يتكرر على مر العصور والدهور كلما امعن الإنسان النظر في سر حياته ومصيره دون ان يتصل بمصدر هداية يدله على طريق الخلاص، وفي هذا تكمن الحكمة في الآية القرآنية التي ساقها علي عزت لتلقي ضوءاً على هذا المأزق وتوجه النظر إلى طريق الخروج منه: «أفحسبتم انما خلقناكم عبثاً وانكم الينا لا ترجعون».

    يتألف كتاب «الإسلام بين الشرق والغرب» من أحد عشر فصلاً منقسمة إلى قسمين، يشتمل القسم الاول على ستة فصول ويحمل عنواناً عاماً هو (نظرات حول الدين)، ولكنه يتناول موضوعات وقضايا اساسية في الفكر الإنساني كالخلق والتطور، والثقافة والحضارة، والظاهرة الفنية، والاخلاق، والتاريخ، والدراما والطوبيا. ويدهش القارىء: لم اذن اختار المؤلف لهذه الفصول عنواناً جامعاً كهذا..؟

    هل يمكن قيام اخلاق بلا إله؟

    هنا تكمن عبقرية المؤلف وتتجلى قدرته التحليلية ومنطقه القوي، حيث ينكشف لنا بعد التحليل وجود عناصر دينية اصيلة في نسيج الثقافة والفن والاخلاق، بل يرى علي عزت ان هذه الموضوعات تدور في حقيقتها على محور ديني ولا يمكن ان تنفصم عنه. ويرينا كيف ان محاولات بعض الفلاسفة اقامة اخلاق على مبادىء اخرى غير دينية كالمنفعة وغيرها قد باءت بالفشل، ولذا يتساءل قائلاً: هل يمكن وجود اخلاق بلا إله؟ خصوصاً واننا نصادف في حياتنا اليومية ملحدين على اخلاق ورجال دين لا اخلاق لهم!! ويمضي المؤلف يطوف بنا في اعماق الفكر الإنساني وفي تجارب الامم ماضيها وحاضرها، لنرى ان اشد الانظمة الحاداً ومادية لم تتمكن من بناء مجتمع ملحد كامل الالحاد. وضرب على ذلك مثلاً بالنظم الماركسية التي تقطع مبادؤها عند ماركس ولينين بـأن الاخلاق والإنسانيّة والدين كلها اوهام يجب القضاء عليها، ومع ذلك لم يفلح الماركسيون في الالتزام بهذه المبادىء عند التطبيق العملي لانها تصطدم بجوهر الحياة الإنسانيّة وفي ذلك يقول علي عزت: «لقد كان ماركس يستطيع وهو قابع في مقعده بالمكتبة البريطانية ان يقول بأنه لا وجود للاخلاق ولكن الذين حاولوا تطبيق افكار ماركس وان يقيموا مجتمعاً على اساسها لم يستطيعوا ان يعلنوا هذا الكلام بنفس السهولة. فلكي يقيموا مجتمعاً ويحافظوا على بقائه كان عليهم ان يطلبوا من الناس درجة من المثالية ربما اكثر مما طلب اي نبي من قومه باسم الدين. ولهذا كان عليهم ان يتناسوا بعض المسلمات المادية الواضحة». وهكذا يؤكد علي عزت ان الالحاد إذا وضع موضع الممارسة وهو يحاول بناء مجتمع يضطر صاغراً إلى المحافظة على الاشكال القائمة للاخلاق الاجتماعية، ولكنه في نفس الوقت لا يملك الوسيلة لحماية المبدأ الاخلاقي أو الدفاع عنه إذا وضع موضع التساؤل أو الشك. هنالك يبدو الالحاد عاجزاً تماماً أمام هجوم دعاة المنفعة أو الانانية أو اللاأخلاقية، فعندما يقولون: «إذا كنت سأحيا اليوم فقط وسأموت غدا لا محالة وبلا عودة إلى حياة اخرى فلم لا أعيش اليوم كما يحلو لي بدون قيد أو التزام ما استطعت إلى ذلك سبيلاً؟ هنا لانجد اجابة منطقية عند اصحاب المذاهب المادية والالحادية.. وسنجد ان الذي يترسب في وعي الناس هو المعايير الاخلاقية الموروثة فحسب.. وتضطر الدولة الملحدة ان تبقى عليها بدافع الضرورة المحضة».

    وهكذا ننتهي إلى نتيجتين: الاولى ان الاخلاق كمبدأ لا توجد بلا دين بينما الاخلاق العملية يمكن ان توجد في غياب الدين ولكن يظل وجودها ضعيفاً واهنا لانفصالها عن المصدر الذي منحها قوتها المبدئية، والنتيجة الثانية انّه لا يمكن بناء نظام اخلاقي على الالحاد.. وفي كلتا الحالتين يظل النظام الاخلاقي الموروث مناقضاً للايديولوجية الرسمية ولا يوجد له مكان فيها.

    التمييز بين الثقافة والحضارة:

    يبدو من دراسة علي عزت لموضوع الثقافة والحاضرة ان هناك تصادماً بينهما، وان الحضارة الرأسمالية والحضارة الشيوعية كلاهما معاد للثقافة بطبيعتهما وبدرجات مختلفة ذلك ان الثقافة في جذورها الاولى صدرت من أصل ديني، وان هذه الجذور تمتد من الماضي السحيق إلى ما يسميه علي عزت «بالتمهيد السماوي»، ويشير إلى ذلك السناريو القرآني الذي جمع الله فيه الارواح التي قُدر لها ان تولد ـ (كما يقول الفلاسفة المسلمون «في عالم الذرّ») ـ وسألهم: «ألست بربكم.. قالوا بلى..» هنالك علم الإنسان انّه مختلف عن بقية الكائنات وانّه صاحب مسؤولية وانّه حر الاختيار.

    ويطوّر المؤلف موضوع الصدام بين الثقافة والحضارة بطرق مختلفة. فالثقافة عنده «هي تأثير الدين على الإنسان وتأثير الإنسان على الإنسان، بينما الحضارة هي تاثير العقل على الطبيعة.. تعني الثقافة الفن الذي يكون به الإنسان انسانا اما الحضارة فهي فن يتعلق بالوظيفة والسيطرة وصناعة الاشياء تامة الكمال.. الحضارة هي استمرارية التقدم التقني وليس التقدم الروحي.. كما ان التطور الداروني هو استمرارية للتقدم البيولوجي وليس التقدم الإنساني.

    الثقافة شعور دائم الحضور بالاختيار وتعبير عن الحرية الإنسانيّة وخلافا لما تذهب إليه الحكمة الإسلامية بضرورة كبح الشهوات، يحكم الحضارة منطق آخر جعلها ترفع شعاراً مضاداً «اخلق شهوات جديدة دائماً وابداً». الحضارة تُعلم اما الثقافة فتنوّر، تحتاج الاولى إلى تعليم والثانية إلى التأمّل.

    تملك الثقافة الفن وتملك الحضارة العلم. تقف الثقافة بمعنى من المعاني خارج اطار الزمن والتاريخ، فهي معنية بموضوع واحد هو: لِمَ نحيا؟ اما الحضارة فهي اجابة على سؤال آخر دائم التغير وهو: كيف نحيا؟. وفي هذا المجال «يمكن تمثيل الحضارة بخط صاعد دائماً يبدأ من اكتشاف الإنسان للنار مارا خلال طواحين الماء ثم عصر الحديد والكتابة، والآلة البخارية، حتى عصر الطاقة الذرية ورحلات الفضاء. اما الثقافة فهي بحث دائب يعود إلى الوراء ويبدأ من جديد. الإنسان هو موضوع الثقافة بأخطائه التي لا تتغير وفضائله وشكوكه وضلالاته.. وكلما تعمقنا في الوجود الداخلي للانسان نرى معضلة دائمة تسعى إلى حل مستحيل».

    هذه هي مجمل المجالات التي ناقش فيها علي عزت موضوع الاختلاف بين الثقافة والحضارة حيث ينتهي من مناقشاته وتحليلاته إلى ان الحضارة الحديثة قد اخفقت اخفاقاً بيّناً في سعيها لتحقيق السعادة الإنسانيّة المنشودة من خلال العلم والقوة والثروة. ويؤكد انّه لابد من فهم هذه الحقيقة والاعتراف بها حتى يتسنى لنا مراجعة افكارنا الاساسية التي لا تزال موضع قبول عام إلى الآن.. ويرى ان «أول فكرة يجب مراجعتها هي فكرة العلم الخاطئة عن الإنسان».

    ولكن يحذرنا علي عزت ان نفهم ان نقده للحضارة دعوة لرفضها والانعزال عنها فالحضارة على حد قوله «لا يمكن رفضها حتى لو رغبنا في ذلك.. انما الشيء الوحيد والضروري والممكن فهو ان نحطم الاسطورة التي تحيط بها.. فان تحطيم الاسطورة سيؤدي إلى مزيد من أنْسنة هذا العالم.. وهي مهمة تنتمي بطبيعتها إلى الثقافة».

    إخفاق الايديولوجيات الكبرى:

    ويُرجع المؤلف اخفاق الايديولوجيات الكبرى في العالم إلى نظرتها إلى الإنسان والحياة نظرة احادية الجانب شطرت العالم شطرين متصادمين بين مادية ملحدة وكاثوليكية مغرقة في الاسرار «ينكر كل منهما الآخر ويدينه بلا أمل في لقاء»، وهكذا وجدنا الحضارة القائمة على العلم المادي من جانب، والدين القائم على الغيبيات من جانب آخر مضاد. ولكن الإسلام ـ كما يعرضه علي عزت ـ لا يخضع لهذه القسمة الجائرة. وتلك هي القضية الكبرى التي يعالجها علي عزت في كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب» حيث خصص لها القسم الثاني من هذا الكتاب.

    الإسلام وحدة ثنائية القطب:

    يرى علي عزت انّه يستحيل تطبيق الإسلام تطبيقاً صحيحاً في مجتمع متخلف ففي اللحظة التي يتم فيها التطبيق الحقيقي للاسلام في مجتمع ما يكون هذا المجتمع قد بدأ يتخلى عن تخلفه ويدخل في مجال الحضارة.

    ومن ثم يؤكد القرآن ان الله خلق الإنسان ليكون سيداً في الارض وخليفة الله عليها.. وان الإنسان في امكانه تسخير الطبيعة والعالم من خلال العلم والعمل. ويقول علي عزت في موضع آخر: «ان اصرار القرآن على حق محاربة الشر والظلم ليس من قبيل التدين بمعناه الضيق، فمبادىء اللاعنف واللامقاومة اقرب إلى الدين المجرد.. وعندما اقر القرآن القتال بل أمر به بدلاً من الرضوخ للظلم والمعاناة لم يكن يقرر مبادىء دين مجرد أو اخلاق وانما كان يضع قواعد سياسية واجتماعية». ويعلق على تحريم الخمر في الإسلام بقوله: «كان تحريم الخمر بالدرجة الاولى معالجة لشر اجتماعي وليس في الدين المجرد شيء ضد الخمر بل ان بعض الاديان استخدمت الكحول كعامل صناعي لاستحضار النشوة الروحية.. كالاظلام والبخور المعطّرة، وكلها وسائل تؤدي إلى هذا النوع من الخدر المطلب للتأمل الخالص.. ولكن الإسلام عندما حرّم الخمر سلك مسلك العلم لا مسلك الدين المجرد».

    سرّ انحطاط المسلمين:

    ويتساءل علي عزت: ما الذي أدّى اذن بالمسلمين إلى الانحطاط بالصورة التي نراها اليوم؟ ويجيب على تساؤله بقوله: «لقد انشطرت وحدة الإسلام ثنائية القطب على يد اناس قصروا الإسلام على جانبه الديني المجرد فأهدروا وحدته وهي خاصيته التي ينفرد بها دون سائر الاديان.. لقد اختزلوا الإسلام إلى دين مجرد أو إلى صوفية فتدهورت احوال المسلمين. وذلك لان المسلمين عندما يضعف نشاطهم وعندما يهملون دورهم في هذا العلم ويتوقفون عن التفاعل معه تصبح السلطة في الدولة المسلمة عارية لا تخدم إلاّ نفسها.. ويبدأ الدين الخامل يجر المجتمع نحو السلبية والتخلف، ويشكّل الملوك والامراء والعلماء الملحدون ورجال الكهنوت وفرق الدراويش والصوفية المغيبة، والشعراء السكارى ـ يشكلون جميعاً الوجه الخارجي للانشطار الداخلي الذي أصاب الإسلام».

    العداء الغربي للاسلام:

    وفي هذا المجال يلفت علي عزت النظر إلى ان عداء الغرب الحالي للاسلام ليس مجرد امتداد للعداء التقليدي والصدام الحضاري الذي وصل إلى الصراع العسكري بين الإسلام والغرب منذ الحملات الصليبية حتى حروب الاستقلال وانما يرجع هذا العداء بصفة خاصة إلى تجربة الغرب التاريخية مع الدين والى عجزه عن فهم طبيعة الإسلام المتميزة. وهو يطرح لذلك سببين جوهريين وراء هذا العجز وهما: طبيعة العقل الاوروبي احادي النظرة، والى قصور اللغات الاوروبية عن استيعاب المصطلحات الإسلامية وضرب لذلك مثلا بمصطلحات: الصلاة والزكاة والصيام والوضوء والخلافة والاُمّة، حيث لا يوجد ما يقابلها في المعنى باللغات الاوروبية. فالمصطلحات الإسلامية ـ كما يراها علي عزت ـ كالاسلام نفسه تنطوي على وحدة ثنائية القطب. ولهذين السببين ـ كما يقرر علي عزت ـ «انكر الماديون الغربيون الإسلام باعتباره دين غيبيات أي (اتجاه يميني) بينما انكره المسيحيون الغربيون لانهم يرون فيه حركة اجتماعية سياسية اي «اتجاه يساري».. وهكذا انكر الغربيون الإسلام لسببين متناقضين».

    ويرى المؤلف بحق ان الغرب إذا كان يريد فهم الإسلام فهما صحيحاً عليه ان يعيد النظر في مصطلحاته التي تتعلق بالاسلام.

    بهذا المنطق القوي والمنهج التحليلي المقتدر يكشف علي عزت عن تهافت الفكر الغربي وقصوره بل تناقضه في معالجته لموضوع الإنسان والحياة، ويرتفع بالفكر الاسلامي إلى مستواه العالمي الذي يليق به، ولا اجد في هذا المجال اصدق من شهادة «وودز ورث كارلسن» وهو مفكر اوروبي محايد لا ينتمي إلى دين المؤلف ولا إلى عشيرته حيث يقال معلقاً على كتاب الإسلام بين الشرق والغرب: «ان تحليله للاوضاع الإنسانيّة مذهل وقدرته التحليلية الكاسحة تعطي شعوراً متعاظماً بجمال الإسلام وعالميته».
    التعديل الأخير تم 09-16-2006 الساعة 10:56 PM

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المواضيع المتشابهه

  1. الصدفة حقيقة أم خيال "قتطف من كتاب الإسلام بين الشرق والغرب"
    بواسطة ياسين اليحياوي في المنتدى قسم الحوار عن المذاهب الفكرية
    مشاركات: 1
    آخر مشاركة: 06-18-2009, 11:18 PM
  2. الاسلام بين الشرق و الغرب *علي عزت بيجوفيتش
    بواسطة حمادة في المنتدى المكتبة
    مشاركات: 13
    آخر مشاركة: 02-20-2009, 03:38 PM
  3. كل عام وأنتم بخير
    بواسطة AbdulQader في المنتدى قسم الاستراحة والمقترحات والإعلانات
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 01-11-2006, 02:37 PM
  4. كل عام وأنتم بخير
    بواسطة الموحد في المنتدى قسم الحوار العام
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 11-16-2004, 12:59 AM

Bookmarks

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
شبكة اصداء