تكلمت في موضوعين مختلفين عن موضوعين من مواضيع العقيدة الإسلامية باقتضاب ,وهما موضوع القضاء وموضوع القدر حسبما وردت في كتاب الله سبحانه وتعالى وقلت إنها تفسر حسبما وردت في كتاب الله وسنة نبيه حسب مدلولها اللغوي , أم هذا الموضوع فهو موضوع يتعلق بكلمة واحدة هي " القضاء والقدر" فهذا المصطلح لم يأت بمدلوله الاصطلاحي لا في الكتاب ولا في السنة بهذين اللفظين مقرونين مع بعضهما البعض , ولا نطق بهما الصحابة ولا التابعون ولا كانت معروفة في أيامهم , وإنما هي مسألة حدثت بعد نقل الفلسفة اليونانية إلى العربية وبعد دراسة علماء المسلمين للفلسفة اليونانية فعرضت لهم مسألة لا بد أن يعرفوا رأي الإسلام فيها ولا بد من أن يقولوا للناس الرأي في هذه المسألة وتلك المسألة هي أفعال العباد هل هم يخلقون لفعالهم أم الله يخلقها ؟ وما تولد من هذه الأفعال من خاصيات هل العبد يخلقها أم الله يخلقها؟ هذه هي المسألة التي عرضت وسميت بالقضاء والقدر فحاول العلماء إعطاء رأيهم فيها فكان ذلك الجدال وكانت تلك المذاهب .
وهذه المسألة تسمى الجبر والاختيار وتسمى حرية الإرادة , وقد بحثها فلاسفة اليونان واختلفوا فيها , فالابيقوريون يرون الإرادة حرة في الاختيار وان الإنسان هو الذي يخلق أفعاله وما تولد منها والرواقيون يرون أن الإرادة مجبورة على السير في طريق لا يمكنها أن تتعداه , فأفعال الإنسان وما تولد منها لا حرية للإنسان في القيام بها بل يقوم بها مجبورا , وعلى هذا الوجه كان النقاش بين الفلاسفة اليونان , فلما اطلع المسلمون ولا سيما المعتزلة رأوا أن هذه المسألة لا بد من أن يبينوا رأي الإسلام فيها , فأخذوها كمسألة من مسائل العلم لا كمسألة من مسائل الفلسفة اليونانية , فدرسها المعتزلة على طريقتهم وبحسب مناقشاتهم العقلية , وطبقوا عليها نظريتهم في العدل ( فهم يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد) , وبحثوها بحثا منطقيا واعتمدوا على الأدلة العقلية والقضايا المنطقية , ثم جعلوا الآيات تسند أدلتهم , لا أدلة علة المسألة فقالوا : لقد وجدنا من أفعال الإنسان المشاهدة أعماله أن من فعل الظلم كان ظالما , ومن أعان فاعلا على فعله ثم عاقبه عليه كان جائرا عابثا , والعدل من صفات الله والظلم والجور منفيان عنه وتوصلوا من ذلك إلى أن الله لا يريد الشر , ولا يأمر به والى أن الله لم يخلق أفعال العباد لا خيرا ولا شرا , وان إرادة الإنسان حرة والإنسان خالق أفعاله , ومن اجل هذا كان مثابا على الخير معاقبا على الشر , فقالوا بالنسبة لرادة الله : إنا نرى أن مريد الخير خيّر ومريد الشر شرير , ومريد العدل عادل ومريد الظلم ظالم , فلو كانت إرادة الله تتعلق بكل ما في العالم من خير وشر لكان الخير والشر مرادين لله تعالى , فيكون المريد موصوفا بالخيرية والشربة , والعدل والظلم , وذلك محال على الله تعالى .
فالله تعالى أراد ما كان من الأعمال خيرا أن يكون وأراد ما كان شرا أن لا يكون وما لم يكن خيرا ولا شرا فهو تعالى لا يريده ولا يكرهه , فالله تعالى مريد لما أمر من الطاعات أن يكون . فهو يريد منا أن نلني الصلاة والزكاة الجهاد , وان نوحد الله وان نؤمن برسله ولا يريد منا المعاصي فلا يريد الفسوق والعصيان , ولا يريد منا الكفر أما المباحات كالبيع والإجارة والأكل والشرب وما شابه فانه لا يريدها منا ولا يكرهها,
ويستدل المعتزلة على ذلك بان الله لو كان مريدا لكفر الكافر ومعاصي العاصي ما نهاه عن الكفر والعصيان , وكيف يتصور أن يريد من أبي لهب أن يكفر ثم يأمره بالأيمان وينهاه عن الكفر ولو فعل هذا احد من الخلق لكان سفيها تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . ولو كان كفر الكافر وعصيان العاصي مرادين لله تعالى ما استحقا عقوبة , ولكان عملهما إطاعة لأرادته , ولكن الله يعذنهما على المعصية والكفر فدل على انه لم يردهما , وعلى أن عملهما ليس إطاعة لإرادته فتكون الإرادة أرادتهما لا إرادة الله .
هذا بالنسبة للإرادة أما بالنسبة لخلق الأفعال فالمعتزلة يقولون : إن أفعال العباد مخلوقة لهم ومن عملهم لا من عمل الله وباختيارهم المحض ففي قدرتهم أن يفعلوها وان يتركوها من غير دخل لإرادة الله وقدرته ودليل ذلك ما يشعر به الإنسان من التفرقة بين الحركة الاختيارية والاضطرارية كحركة من أراد أن يحرك يده وحركة المرتعش , وكالفرق بين الصاعد إلى منارة والساقط منها , فالحركة الاختيارية مرادة من الإنسان , مقدورة له, بخلاف الحركة الاضطرارية فلا دخل له فيها , وأيضا فانه لو لم يكن الإنسان خالق أفعاله لبطل التكليف , إذ لو لم يكن قادرا على أن يفعل أو لا يفعل ما صح عقلا أن يقال له افعل ولا تفعل ولما كان هناك محل للمدح والذم والثواب والعقاب , وقالوا : إن كان الله خلق أفعال الإنسان فهو إذا لا يرضى عما فعل ويغضب مما خلق ويكره ما دبّر.
هذه خلاصة أدلة المعتزلة وهي كلها أدلة منطقية ويظهر أنهم تبنوا رأي الابيقوريين , وساروا عليه واخذوا يقيمون الأدلة المنطقية على صحته , وقد اتبعوا هذه الأدلة بأدلة نقلية لتأييد رأيهم وليست أدلة على رأيهم لان أدلتهم على رأيهم منطقية
يتبع الآيات التي استدل بها المعتزلة لتأييد وجهة نظرهم
Bookmarks