[B]
بسم الله الرحمن الرحيم

كيف نواجه العلمنة ؟

د. أحمد إدريس الطعان
كلية الشريعة – جامعة دمشق
بريد إلكتروني :
ahmad_altan@maktoob.com


تمهيد :

إن العلمانية في البلاد الإسلامية ظاهرة موجودة لا يمكن إنكارها ، ولكنها لم تشكل في الإسلام إلا قشرة رقيقة جداً لا تلبث طويلاً حتى تيبس ثم تتساقط متناثرة ، إنها لم تنفذ ولن تنفذ أبداً إلى جوهر الإسلام وحقيقته ، لأن الإسلام بطبيعته يستعصي على العلمنة، وقد أثبت خلال القرنين الماضيين أنه ليس كالمسيحية في الرضوخ للعلمنة ، ذلك لأن ثوابته ومرتكزاته لا تقبل العبث مهما جهد العابثون ، والسبب هو أنها قائمة على معجزة خالدة رَسَمت حدود هذه الثوابت والمرتكزات رسماً واضحاً لا لبس فيه فجاءت  كمثل المحجة البيضاء ليلها كنهارها  ( ) وستظل دائماً شاهدة على زيف المزيفين ، وإرجاف المرجفين .
ولكن مع هذا فإن المشكلات التي نجمت عن مسار العلمنة وإن لم تمس جوهر الإسلام ولكنها أحدثت اضطراباً في أوساط المسلمين ( ) وفرقة في صفوفهم ، وأبرز هذه المخاطر هو استيلاء التقليد والتغرب على عقول ثلة من النخبة المفكرة ، حتى أصبحت هذه العقول في تبعية فكرية وحضارية تهدد مستقبل الأمة الحضاري .
إن شهادة التاريخ تثبت أن المسيحية الأولى كانت ضد العلمنة بصورة أكيدة وصريحة ، وقد استمر ذلك عبر التاريخ حتى دخلت المسيحية في صراع مع العلمنة ، كانت المسيحية هي الخاسرة ، لقد حاولت المسيحية عبر القرون أن تقاوم ولكنها أخفقت ، ومكمن الخطورة أنها عندما أخفقت أخذ منظروها المحدَثون يدعون المسيحيين إلى الانخراط في التيار، وتطوير المسيحية ( ). "" وقد انفردت المسيحية وحدها من دون أديان العالم الكبرى جميعاً بأنها قد حولت مركز ظهورها من القـدس إلى روما علامة على بداية تغريبها "" ( )، وكان ذلك مؤشراً على بداية تعلمُنها ( )، وقد ظلت المسيحية تُعدّل في معتقداتها وتتنازل عن ثوابتها ، وتنقح الكتاب المقدس عبر المجامع المختلفة حتى انهارت قداستها وفقدت قيمتها كمرجعية أخلاقية دينية للإنسان الغربي .
أما الإسلام فتاريخ صراعه مع العلمنة عبر قرنين من الزمان يثبت أنها لم تؤثر فيه إلا على الشكل وقد بقي الجوهر والمضمون في غاية النقاء ، وهذا الجوهر يشد الأمة دائماً إليه فتعيد صياغة نفسها شكلاً ومضموناً . ويمكن القول إن الجوهر والمضمون في الإسلام مثله مثل الراية التي تُرفع في المعركة فيظل الجنود ينجذبون إليها ويتراصُّون حولها ، ويعيدون تنظيم أنفسهم لجولة جديدة من النزال .

استعصاء الإسلام على العلمنة

إن استعصاء الإسلام على العلمنة أمرٌ أدهش باحثي علم الاجتماع فالعالم الإنجليزي " إرنست غلنر " يقول : "" إن النظرية الاجتماعية التي تقول : إن المجتمع الصناعي والعلمي الحديث يُقوِّض الإيمان الديني - مقولة العلمنة - صالحة على العموم ، لكن عالم الإسلام استثناء مدهش وتام جداً من هذا !! إنه لم تتم أي علمنة في عالم الإسلام ، إن سيطرة الإسلام على المؤمنين به قوية ، وهي أقوى مما كانت من مائة سنة مضت ، إن الإسلام مقاوم للعلمنة في ظل مختلف النظم الراديكالية والتقليدية والتي تقف بين النوعين ... والإصلاح الذاتي استجابة لدواعي الحداثة في عالم الإسلام يمكن أن يتم باسم الإيمان المحلي ، وليس على حساب الإيمان "" ( ) .
ولبيان العوامل التي أسهمت في انخراط المسيحية في تيار العلمنة ، واستعصاء الإسلام على ذلك يمكن ملاحظة ما يلي ( ) :
أولاً : صورة الله عز وجل وعنايته بالكون : إنها في الفكر الأرسطي الذي تبنته المسيحية صورة تساعد على العلمنة فالله مجرد خالق للعالم ، لا علاقة له بتدبيره ورعايته . إن العالم كالساعة ، ووظيفة الله أن يُشغّل هذه الساعة ثم يجلس بلا عمل [ سبحانه وتعالى ] وقد أكد الفلك الكوبرنيقي هذه الصورة ، وأضاف إلى ذلك أن أزاح الإنسان عن المركز .
ثانياً : المقاصد الدنيوية اللاأخلاقية للقانون الروماني القائم على المنفعة المحضة دون نظر لأي اعتبارات دينية أو ماورائية . إن هذا القانون السائد في دولة ديانتها المسيحية أسهم في إخضاعها للتيار عندما أصبح جارفاً .
ثالثاً : الفصل في المسيحية بين ما لقيصر وما لله أعطى المبرر للعلمنة السياسية أولاً، ثم القانونية ، ثم الأخلاقية .
رابعاً : عقيدة الصلب التي جعلت موت الإله ممكناً في الفكر المسيحي ، فما دام الابن قد مات وهو إله ، فلماذا لا يموت الأب أيضاً . ولمْ ينتظر الغرب طويلاً فقد أعلن نيتشه عن موته . سبحانه وتعالى .
خامساً : الثنائية الحادة والمتناقضة في تاريخ العلاقة بين لاهوتيين لا عقول لهم يمثلون الكنيسة ، وعلماء طبيعيين لا أرواح ولا قلوب لهم يمثلون الدنيوية والمادية . ولا ننسى هنا الانفصام الشديد بين أخلاق الزهد والضعف والاستكانة التي تكرسها المسيحية ، وبين الواقع الذي كان يعيشه الرهبان والبابوات من بذخ وفساد وترف ، مما أفقد المسيحية الواقعية القابلة لإمكانية التطبيق .
إذا ما قورنت هذه العوامل بما يقابلها في الإسلام وجدنا :
أولاً : الله عز وجل – في الإسلام - ليس خالقاً عاطلاً عن العمل إنه - سبحانه وتعالى - خالق ومدبر  أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ( ) بل إنه قيوم السماوات والأرض ، أي إن استمرار قيام الكون بإرادته عز وجل  إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ( ) وهو ما كرسه الأشاعرة في نظرية الخلق المستمر . إن الله عز وجل إذا قطع إمداده للكون بالوجود تلاشى بما فيه .
ثانياً : علاقة الدين بالدنيا قائمة على الوصل وليس الفصل ، فالدنيا خادمة للدين ، وهي مزرعة الآخرة ، وهي دار العبور ، ولا بد من التزود منها وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( ) ولكن الآخرة هي المراد والمقصد  وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ... ( ) .
ثالثاً : الأخلاق في الإسلام واقعية لا تُحلِّق في المثالية ، ومن شاء أن يسمو إلى المثالية فهو وذاك . إن المراد في الإسلام هو العدل ، أما الإحسان فهو لمن أراد أن يتجاوز الحدود البشرية ويقترب من الملائكية ، فالإسلام لا يمنعه بل يبارك له جهاده وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ( ) ، ولن يضيع الله عز وجل عمله  وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ ( ) وسيكافئه على ذلك  فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه ( ) ولكن النزول عن مرتبة العدل إلى الظلم هو المرفوض .
رابعاً : ليس هناك مقابلة بين العقل والنقل في الإسلام ، إن ما يقابل العقل هو الجنون ، إننا نقرأ النقل بالعقل ونفهمه به ، والنقل هو القائد والهادي والمرشد .
خامساً : الوضوح : فالعقائد في الإسلام واضحة لا لبس فيها ولا غموض ولا رموز ولا أسرار ولا تعقيدات ، أما في المسيحية فالعقائد غير مفهومة مبنية على الغموض والرموز ولذلك يقولون لك " آمن ثم أفهم " أما في الإسلام " إفهم ثم آمن "  وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسئُولًأ  ( )
إن الأصل في دعوة القرآن هي الآخرة  وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ( ) والدنيا بُلْغة إلى الآخرة ، ووسيلة لا بد من الأخذ بها، ولا بد من الإعمار والقيام بالأمانة ، ولكن الآخرة في النهـاية هي الغاية وهي الجوهر . وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ( ) ولكن الآخرة هي المراد والمقصد  وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ( ) إن الأصل في دعوة القرآن الابتعاد عن الانخراط الأعمى في الدنيوية من شهوات وملذات ، والاكتفاء بـ َالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ ، والحلال الذي فصله الله عز وجل في كتابه وهذا هو اللقاح ضد العلمانية فمن المعلوم أن الأطفال في صغرهم يُعطون جرعات صغيرة جداً من نفس الجراثيم المرضية التي يُخشى عليهم منها لكي تصبح أجسادهم ذات مناعة ذاتية ضد المرض الفتاك ، والإسلام حين أباح لمعتنقيه أن يستمتعوا بالطيبيات من الرزق ، وأن لا ينسوا نصيبهم من الحياة الدنيا إنما يمنحهم بذلك اللقاح ضد العلمانية لأن العلمانية هي الدنيوية الجارفة أو الدنيوية المحضة .
سبل مواجهة العلمنة :
ولكن نتيجة للترويج الشديد ، والتلاعب بالإفكار والمصطلحات ، والاكتساج الإعلامي لكافة المستويات العقلية ومخاطبة مختلف الشرائع البشرية في عقر دارها فإن هناك أثراًُ واضحاً لدى كثيراً من الناس في قبول العديد من الأطروحات العلمانية على أساس أنها لا تتعارض مع الإسلام ، وعلى أساس أن الإسلام لم يُفهم الفهم الصحيح أو أن هناك تراكمات بشرية شوهت صورة الوحي النقية .

والآن كيف يمكن إنقاذ العقلية الإسلامية من تيار العلمانية ومقولاته السرابية ؟

أولاً : لابد من الارتقاء بالخطاب الإسلامي إلى المستوى المواكب للذوق المعاصر وأنا هنا أتحدث عن صياغة الخطاب ولغة الخطاب وليس عن مضمونه ، ذلك لأن الإعلام بثورته الراهنة قد طرح مفاهيم وصيغ جديدة للخطاب ، وأصبحت المصطلحات والتراكيب واللغات التقليدية مملة للعقلية الحديثة ، وترتاح للصياغات الجديدة ، وتأنس حتى بالمصطلحات الجديدة ، وإن لم تكن قد استقرت على معنى واضح .
نحن هنا في معركة خطابية ، بل لست مبالغاً إن قلت إننا في ضجيج خطابي صارخ والرابح هو من يمتلك الأدوات التي تمكنه من استلاب الأسماع والقلوب واجتلاب الأنظار .
إننا بإزاء هذه الحالة لسنا في معركة مضمون وإنما في معركة صياغة ودعاية والصياغة من أربح المهن ، والدعاية من أجدى وسائل الربح .
إن الخطاب العلماني اليوم يحاول بوسائل مختلفة ، وبمصطلحاته وتراكيبه الجديدة أن يبهر الجماهير ، وأن يوحي لها بأن لديه الكثير ، وأنه يمتلك مفاتيح النهضة والسعادة بينما الخطاب الإسلامي بضائعه ثمينة جداً ولكنه لم يحسن حتى الآن عرضها بطريقة جميلة . الخطاب العلماني أحسن حتى الآن فن التعليب والتغليف بشكل لافت للأنظار بينما الخطاب الإسلامي مخفق في هذه الناحية إلى حد كبير .
ثانياً :كما أنه من المهم جداً تعرية الأطروحات العلمانية ، والكشف أولاً عن جذورها ومظاهر الاجترار والتسول المشتملة عليها ، ثم بيان تناقضها في حد ذاتها ، ومصادمتها لجوهر الرسالة الإسلامية ، ولكن كثيراً من الإسلاميين يرفضون حتى قراءة الكتابات العلمانية فضلاً عن الرد عليها ويعدون ذلك من قبيل تضييع الوقت واستنفاد الجهد ، غير أن هذا الموقف إذا كان صحيحاً في الأزمان السابقة فإنه لا يصح في هذا الزمن لأن الإعلام يروج بشدة للأطروحات العلمانية وتوصف بأنها مشاريع تجديدية أو اجتهادات تنويرية ، أو قراءات معاصرة ولا يمكن أن يكون العلاج أو الوقاية بإغماض العين ..
فلا بد من مواجهة كل ما يطرح في الساحة الإعلامية بما يتلاءم معه من الرد والدحض والبيان .
ثالثاً : لا يكفي نقض المشاريع العلمانية وبيان تهافتها بل لا بد من إبراز البدائل الإسلامية ولا بد من تمثل الحل الإسلامي وصياغته برؤى معاصرة جديدة تلبي تطلع العقل الإنساني إلى مزيد من المعرفة ، وتلبي طموح العقل إلى التنوع والثراء في نموذجه الإسلامي .
ولا يمكن إبراز الفقر والخيبة في النموذج العلماني إلا إذا قورن ذلك بما ينجزه علماء الإسلام من مشاريع فكرية ونماذج إصلاحية .
رابعاً : المشاريع الفكرية ، والنماذج الإصلاحية الإسلامية هي صياغات تجديدية تستلهم الوحي قرآناً وسنة بشكل مستمر ومتجدد دون أن تغفل عن الحراك الواقعي . التجديد في الإسلام يعني أن يعمل المجتهد في النص والواقع معاً ليخرج بمعادلة المواءمة بلا إفراط ولا تفريط ، بحيث يظل الوحي هو الذي يمتلك زمام الواقع ويظل الواقع مستنيراً ومسترشداً بالنص حتى لا يضل في تيه الأهواء .
ولا يفهمن أحد من ذلك أن حكومة النص للواقع هي حكومة إمبريالية أو أحادية الرؤية ، فالأمر ليس كذلك لأنه // ما جعل عليكم في الدين من حرج // // إن مع العسر يسراً . إن مع العسر يسراً // فالنص يمتلك قدرات هائلة لإمداد الواقع بالمشروعية ولكنه في نفس الوقت – وهنا تكمن عظمته – يمتلك أيضاً قدرات رائعة في حفظ نفسه من تحريف المحرفين وفي حفظ الواقع من ترويج المبطلين .
خامساً : لا يمكن أن يحظى التجديد بقبول الأمة بل ولا يمكن أن يكون ذو جدوى وصلاحية إلا إذا كان انطلاقه من الوحيين القرآن والسنة ، ولا يمكن لهذه الانطلاقة أن تحقق المراد إلا إذا كانت انطلاقة حقيقية تعيد للوحي مهمة التصحيح التاريخي والدفع الحضاري ، ولذلك حقاً لا بد من إعادة قراءة القرآن بل مرات ومرات // ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر // ، ولا بد من تفعيل دور القرآن الكريم في صياغة الحضارة من جديد ، ولا بد من قراءة العالم اليوم في القرآن ، وقراءة القرآن في العالم اليوم ، فليس من الصواب أن نكتفي باجتهاد القدماء لنا ، وهم لا يعيشون عصرنا ، فلا بد من الاجتهاد الذي يعني استفراغ الوسع في التفكير، وهذا ما نغض الطرف عنه اليوم فنسمي كل تفكير اجتهاداً أياً كان مستواه، ونسمي كل باحث أو متهوك مجتهداً حتى ولو كان يتسلى .
سادساً : إن إعادة قراءة القرآن تعني أن ننفي عنه عبث العابثين وخرافات القصاص وتراكمات البشر وإسقاطات العصور والأزمنة ، فالقرآن الكريم فوق التاريخ وفوق الزمان والمكان لأنه الحاكم عليهما، وفي كل عصر قُرئ فيه القرآن كانت هناك أوهام عقلية وأوهام تاريخية وأوهام اجتماعية وثقافية كانت تلحق به وتلتصق به وتعد تفسيراً له ، ومع طول التكرار والملازمة ظن الناس أن هذه الأوهام هي هو وهو هي ، فلا بد من كنس الأوهام ، وتفكيك الألغام والعودة إلى صفاء القرآن . وإذا لم نقرأ نحن القرآن الكريم من جديد كما يدعونا القرآن سيقرؤه الآخرون لنا بلا ضوابط ويسقطون فيه ما يريدون هم لا ما يريده القرآن .
سابعاً : إن الدعوة إلى إعادة قراءة القرآن والعودة إلى صفاء القرآن وجوهر الوحي ليس المراد منها ما يريده الخطاب العلماني من تفريغٍ للدين من محتواه ، وتطويع لآياته ، وتشويه لغاياته لأننا نؤكد هنا على دور الوحي الثاني / السنة / في البيان وإعادة الفهم والتنزيل الجديد ، فالسنة هي العاصم من الشطط في الانحراف وخطر الانجراف .
إن السنة هي النموذج التطبيقي المثالي للقرآن الكريم ، ولا بد من النظر إليها دائماً على أنها أحد المعايير والضوابط الأساسية في فهم القرآن الكريم ، وإذا ما شعر المجتهد أنه يناقض السنة فليعلم أنه يرتقي مرتقىً صعباً وعليه أن يتحسس مواقع قدميه .
ثامناً : التجديد وإعادة القراءة وتمرين العقل وتنقية التراث مراحل لا بد منها لأي نهوض حضاري، ولكنها لا تكفي لتحقيق هذا النهوض إذا لم يتبع ذلك حراك شديد على المستوى العملي ، أما أن نبقى في إطار التنظير والممارسة العقلية والفكرية فهذا حال الفلاسفة الخائبين ، والإسلام دين عملي يدعو إلى العمل والمبادرة السلوكية ، وتحويل الأقوال إلى أفعال // يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون // وقال عز وجل // وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون // .
كثيرة هي المشاريع الفكرية ، والرؤى الاجتهادية ، ولكنها لم تُختبر بعد بالتطبيق والممارسة، ونحن في هذه المرحلة بالذات بأمس الحاجة إلى العمل ، لقد أصابتنا تخمة المؤتمرات والندوات والمشاريع والتنظيرات وقد آن الأوان لأن نعمل .
تاسعاً : ولكن العمل الفردي لا يجدي نفعاً على مستوى النهوض الشامل ، لذا فنحن بحاجة إلى العمل الجماعي ، والعمل الفريقي وهذا النوع من العمل من الضروري أن يشيع في حياتنا تنظيراً وسلوكاً وأن نتعلم العمل في إطار الفرق المتخصصة ، وأن نربي أنفسنا على الشعور بالمسؤولية الحضارية ، ونعمق فيما بيننا روح الفريق والتعاون والتكامل .
لقد علمنا الإسلام أن المرء ضعيف بنفسه قوي بأخيه ، وأن يد الله مع الجماعة ، وأن نركن إلى السواد الأعظم ، وعمق فينا ديننا هذه الروح الجماعية عبر الصلوات في الجماعة والجمعة والأعياد ، وشحن الإحساس الجماعي بشاحن عظيم جداً هو الصيام وأثاره إلى حد يعجز التعبير عن وصفه في شعائر الحج ومواقفه المختلفة .
ومع ذلك فإن الأمة الإسلامية اليوم في حالة يرثى لها إذا ما نُظر إلى فرقتها ، وتمزقها ، الأمة التي أُمرت بالاعتصام بحبل الله // واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا // تعيش اليوم حالة من الشتات والضياع والتيه .
نحتاج اليوم إلى مؤسسات تنظم العمل الجماعي وتدفع به إلى أقصى حدود الإمكان ، وتربي الأجيال على إمكانية التكامل والتعاون والتخلص من الأثرة والأنانية .
لنتأمل في هذا الحديث الشريف يقول النبي صلى الله عليه وسلم // مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنياناً فأجمله وأكمله إلا موضع لبنة فيه فجعل الناس يطوفون به ويعجبون ويقولون لو وضعت هذه اللبنة . فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيين // فالنبي صلى الله عليه وسلم يعد نفسه لبنة في بناء النبوة ،ولم يعد نفسه البناء كله ولم يجعل نفسه ركيزة البناء الأساسية ، إنه صلى الله عليه وسلم يعترف للآخرين بفضلهم في إقامة البناء ، والبناء كل متكامل مع الآخرين ، واللبنات المتراصة والمتكاملة والمتماسكة هي التي تشكل البناء ، وهكذا لم يستأثر النبي صلى الله عليه وسلم بمزايا إضافية على حساب إخوانه من الأنبياء والمرسلين عليهم السلام . أين هذا من أخلاق العلماء والدعاة اليوم ؟ إننا يسيطر علينا هاجس التفرد وتأسرنا عقلية المنقذ ، وكل عالم وكل داعية يريد أن يكون أوحد عصره وفريد دهره ، ولا يقبل أن يكون نسيجاً مشتركاً في جسد الدعوة .
ولا يقف الأمر عند هذا الحد فما يوجد بين العلماء من مشاحنات ومنافسات ينعكس على التلاميذ وطلاب العم بل وحتى على عامة الناس والوسط الشعبي فتتكون تكتلات متناحرة ومتحفزة للخصام ، ومهيأة للكراهية والعداوة .
وفي وسط هذه الصورة القاتمة يمكن أن ينجح الخطاب العلماني حين يظهر على أنه الخطاب البديل المتماسك الرزين المتآلف فيكسب الأنصار والجماهير اليائسة من الوسط المشايخي المتخاصم، والناقمة على تلك الحال العدائية المتردية بين رموز التيار الديني وجماهير التدين .
عاشراً : إن المشكلة التي يعاني منها رموز التيار الديني أنهم لا يفرقون أو يخلطون عن قصد أو بغير قصد بين ما هو شخصي وما هو علمي ، أو بعبارة أخرى : إنهم لا يفرقون أو يخلطون عن قصد أو بغير قصد بين ما هو لله وما هو للنفس . لقد أفسح لنا ديننا مجالاً رحباً للخلاف // ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم // ونماذج الخلاف في السنة والسيرة النبوية تؤسس لمشروعية الاختلاف ما دام الجميع من أهل القبلة ، فلماذا إذن يؤدي الخلاف المذهبي أو الفقهي أو حتى الاجتهادي إلى العداوة الشخصية والكراهية ، ولماذا نسمع صيحات النذير والتحذير بين العلماء فيما بينهم ، ففلان لديه نفس شيعي لأنه استشهد أو يستشهد بآل البيت، وفلان لديه نفس وهابي لأنه يكثر من ذكر ابن تيمية ، وفلان متهم بالتصوف لأنه يكثر من ذكر الجنيد وابن عربي وو الخ ، ويولد ذلك أحقاد نفسية ، وعداوات شخصية بين العلماء والدعاة ثم تنتقل العدوى إلى التلاميذ ثم إلى القاعدة الشعبية ثم تتأصل في النفوس فيرضعها الصغار وتتوارثها الأجيال .
وفي الغالب لا يشعر الإنسان في أوج حماسه ، وحمأة خصامه أنه يخاصم عن أهوائه ومنافعه الشخصية ، فيظن انه يدافع عن دين الله عز وجل ، وأنه حريص على قمع البدعة ودرء الفتنة .
وكثيراً ما تلتبس الأهواء بالآراء ، وما لله بما للنفس فلا تتمايز ، ويحتاج الإنسان إلى مجهود كبير ليخلص نيته من الشوائب ، يحتاج إلى وقفة تفحص لنفسه ، ومحاسبة لذاته حتى يميز الخبيث من الطيب، ولكن في كثير من الأحيان يكون الإنسان في عجلة من أمره، ولا يمنح نفسه ذلك الوقت الكافي للمحاسبة والمراجعة، لأنه يخشى أن يؤتى الإسلام من قبله، هذا بحسب ما يخيل إليه، ولكن الحقيقة المؤلمة أنه لو تريث قليلاً واختبر نفسه لتبين له أنه يخشى أن تفـوته منافعه وأهواؤه .
الخلاصة : أن الحل لأزمة العلمنة التي تجتاح المجتمعات الإسلامية تبدأ أولاًً من تحصين الذات بحصون متينة ، وتناول الجرعة الوقائية التي يمنحها الإسلام لمعتنقيه ، لأن الدفاع أو الهجوم لا يجدي إذا كانت حصوننا مهددة من الداخل ، لا يكفي أن نبين أمراض الآخرين ونحن مرضى ، فلا بد أن نعالج أنفسنا وحين نتعافى نبدأ بتأسيس مراكز للوقاية واللقاح وحينئذ نكون على استعداد لمواجهة المشروع العلماني الذي نعتقد أنه تخريبي وتدميري ويخدم مصالح أعدائنا بالدرجة الأولى .
وقد بينت في الصفحات السابقة أن مكامن القوة هي في تفعيل ديننا وإعمال عقلنا ، وأبرز المظاهر لذلك يبدو في :
- تفعيل دور الوحي / قرآناً وسنة / في رسم المنهجية الإسلامية للتعامل مع الكون والإنسان والحياة .
- التخلص من الأعباء التاريخية والتقاليد الاجتماعية التي لحقت بالدين وتقمصته وهي ليست منه .
- إعمال العقل في اكتناه أبعاد الوحي ومراميه الإنسانية الفسيحة ، واقتناص اللحظة الراهنة بالعمل النافع والاستثمار الحضاري ، وينتج عن ذلك التجديد الحقيقي المنخرط في الواقع العملي المعيش وعدم الاكتفاء بالتنظير العقلي والخيالي المجرد .
- الشعور بالمسؤولية الدينية وهذا لا يتأتى إلا بتعميق الإخلاص والعمل لوجه الله عز وجل، والتخلص من / الأنا / المتضخمة في دواخلنا ، ومعالجة الأثرة المهيمنة على سلوكاتنا ، وتغليب الشعور بالمسؤولية الحضارية على المسؤولية الشخصية ، وتغليب الروح الجماعية والعمل الفريقي على الأنانية والفردانية . والله أعلم .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين .



]