السوفسطائية الساذجة أو اللادينية العربية

البروفيسور أبو يعرب المرزوقي
الجامعةالإسلامية العالمية بماليزيا

ليس هذا العمل ردا على اللادينيين العرب. ولا هو حتى رد لموقفهم؛ فكلامهم يغنيك بتهافته عن هذا الهم. وموقفهم لسذاجته يغريك بممازحتهم. لذلك فهو نزهة فكرية في أمر تمتعت بجدية السذاجة التي تغلب على أصحابه لانهم لو قرأوا القرآن حقا وفهموا اعجابه لهالهم خلطهم بين تبر التدين وترابه. ذلك ما أغراني بالسؤال عن ضمائر هذه النزعة ذات الوهن المنطقي الذي يراه حتى العميان والضحالة الفكرية التي ليس دونها هذيان. والغريب أن منظومتها البسيطة التي لو أدركها اللادينيون العرب لأكتشفوا أنهم أصلانيون حتى النخاع استبدلوا عقائد العجائز التي ربوا عليها بسقط المتاع فضلا عن كون كل حججهم واستدلالتهم لا تعدوا أن تكون من احتجاح الاطفال الذين لم يجدوا ما كانوا يحلمون به فأصبحوا فيلة تهدم الفخار الراقي لجهلهم بالمراقي.

ويمكن حصر هذه الضمائر في خمسة مزاعم غير واعية أصحابها بمقدماتها وشروطها الدالة على عكس ما يزعمون أنفسهم به قائلين. وسنكتفي بتحليل أولها خلال علاج آخرها لكونهما متحدين بالجوهر إذ الأول هو المسمى والثاني هو الاسم حتى نترك البقية لمن هم منهم أقل غفلة علهم يدركون خواء الحفلة في هذا الموقع المدقع اعتمادا على ما قدمنا من مدفع:

1- زعم نفي وجود الله: غفلة اللادينين جعلتهم لا ينتبهون إلى أن الالحاد تنزيهية ( التدليل على العدل الالهي) سلبية ذات مستويين: تنزيه لاواع هو الشكوى من الشر في الوجود وامتناع نسبة ذلك للاله من دون اعتباره عاجزا وتنزيه واع هو تأليه مجرى الوجود تحت مسمى الضرورة والصدفة. والتنزيه الاول افراط آل إلى نفي وجود الله لئلا ينسب إليه ما في العالم من شر. والتنزيه الثاني تفريط آل إلى نسبة ما في العالم من شرور إلى نقيض صفتين من صفات التمام الالهي أي الضرورة (ضد الحرية والاختيار ) والصدفة (ضد القصد والغاية).

2- زعم نفي النبوة: غفلة اللادينين جعلتهم لا ينتبهون إلى أن نفيها ادعاء لما هو أكثر منها استحالة.
فنفيها يعني أمرين كلاهما مستحيل: إما أن يزعم النافي ان العقل غير محدود أو يزعم أن العقل لا يدرك حدوده فيكون حبيسها لا يتخطاها. وكلا الفرضيتين يكذبهما الواقع: فكلنا يدرك حدود عقله وكلنا يعتقد أن ذلك ليس وهما بل حقيقة أي إن العقل محدود حقا.

3- زعم نفي التفسير الديني: غفلة اللادينيين جعلتهم لا ينتبهون إلى أن هذا النفي ممتنع من غير أسطرة التفسير العلمي. فالعلم ينقلب في هذه الحالة إلى اسطورة بمعنيين:
أ- النظريات التي تساعد على التعامل مع الظاهرات المادية مختلقات خيالية لو اعتبرت حقائق لامتنعت تاريخيتها ومن ثم لما توالت تكذيباتها اللامتناهية
ب- لكن العلم يكون اسطورة من القوة الثانية عندما يدعي الوجود منحصرا في موضوعاته أو في ما يدركه منها فينفي من الوجود ما يتسع إليه أفق الدين.
عندئذ يكون العلم دونه الدين استجابة لحاجات الانسان شمولا ونفاذا إلى الحقائق فيصبح أقل من الاسطورة بالمعنى الاول. فإذا اعتبرنا نظريات التفسير العلمية مخترعات بشرية كان الدين أقل من العلم اسطورية لانه لا يشوه الوجود بل يرى فيه ابعادا لا يستطيع العلم نكرانها من دون التحول إلى اسطورة أدنى مما يزعمه في وصفه الدين.

4- زعم نفي الشرائع المتعالية: غفلة اللادينيين جعلتهم لا ينتبهون إلى أن نفي الشرائع المتعالية وحصر التشريع في الأوضاع البشرية غير ممكن من دون الخلط بين أعيان الموضوعات التشريعية وضرورة الوضع التي ليس يمكن للعمران أن يكون من دونها. فإذا كان التشريع المتعالي متعلقا بشروط التشريع وصفاته لا بمضموناته كان كل كلام اللادينين دالا على عدم فهم المتعالي ما هو؟ ولنأخذ مثالا واحدا قد يساعد على افهام أكثر العقول بلادة. فلا شك أن الموازين والمقاييس والعملات مختلفة من أمة إلى أمة ومن عصر إلى عصر في نفس الامة ولا شك أنها كلها موضوعه. لكن التعاوض الذي من أجله جعلت هذه الوسائل وشرط كونه تعاوضا حقيقيا أو غير مغشوش هل هو متعال أم تواضعي؟ وهل يمكن للتواضع من دونه أن يحصل؟ كيف نتواضع على المقايسس والموازين والعملات إذا لم نكن قد انطلقنا من أن التعاوض العادل أو غير المغشوش هو أساس العمران؟ وليقرأ اللادينيون "المطففون" كيلا واكتيالا لعلهم يفهمون!

5- زعم نفي الدين أو اللادينية: غفلة اللاديينين العرب جعلتهم لا ينتبهون إلى أن اللادين مستحيل الوجود إلا من حيث هو أحد الاديان حتى ولو كان جامعا لها بالسلب. فهي موقف وجودي ومعرفي وقيمي له ثوابت عقدية حتى عند حصرها في السلوب الاربعة السابقة: الالحاد ونفي النبوة ونفي التفسير الديني ونفي التشريع المتعالي. لذلك فهو دين: إذ ليس من ضرورة الدين أن يكون منزلا ولا من ضرورته أن يكون ذا كتاب ومؤسسات بل المهم أن توجد جماعة تدين بمنظومة معتقدات. وحتى لا ينزعج أصحاب هذا الموقف فإني أنبههم أن قراءة القرآن الكريم بروية تبين أن كل هذه الاراء التي يزعمونها أمرا مهما يؤسسون عليه موقفهم لا تخلو تجربة نبي واحد من علاجها بل إني أزعم أن الرسالة المحمدية تنطلق منها للوصول إلى الدين الحق الذي ينبغي أن يتصف بصفات الاسلام أعني القول بأن الدين فطرة وبأنه شامل للانسانية كلها وبأنه يؤمن بحرية الدين وبحق الجميع في عدم الاكراه في الدين بما في ذلك الشرك كما في آية الارجاء والتفويض (الحج 17): فهي الشبهات الوجودية الاساسية التي بتدبرها يعاني المرء جوهر التجربة الدنية فتجعل الايمان خيارا حرا لا اكراه فيه ولا عنت.

مزيد تحليل في المسألتين الاولى والأخيرة

نزل القرآن الكريم موقف اللادينيين في الجنس السادس من الاديان عندما حصر الاديان كلها وحدد منها موقف الأمة الشاهدة المبدأي (الذي قد تغيره الضرورات في التشريع الفعلي كما يحدد القانون أحيانا بعض تطبيق المبادئ الدستورية) أعني موقف الارجاء في ما يتعلق بالمعتقد الذي لا اكراه فيه بعد تبين الرشد من الغي. فاللادينيون لسذاجتهم لم يفهموا أنهم مشركون لقولهم بفواعل خمسة يفسرون بها خروج النظام من عدم النظام في الوجود فيكونون ذوي دين وليسوا لا دينيين:"إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة" ( الحج 17).

فهم يقولون بالفواعل الخمسة التالية: 1- بالضرورة 2- وبالصدفة 3- وبفعل الضرورة في الصدفة 4- وبفعل الصدفة في الضرورة 5- بخروج النظام اللاحق من اللانظام السابق من وحدة الفواعل الاربعة وحدتها التي هي غيرها ومن ثم فهي فاعل خامس من طبقة أرقى (وإذا اعتبرنا التفاعلين راجعين إلى المبدأين الاولين كان هذا الموقف جنيس التثليث المسيحي الذي يبني عليه هيجل كل فلسفته في التاريخ فضلا عن منطقه الذي هو ميتافيزيقاه). ولما كنا نشك في قدرة الغافلين من اللادينيين على فهم هذا النوع من المجردات سنضرب مثال نظرية التطور التي هي الأساس الذي تنبني عليه الدهرية الحديثة كما فهمها العلامة جمال الدين الافغاني في رده على الطبعانية:
1- فالضرورة هنا هي قوانين الوراثة الرياضية ذات التحقق الفعلي
2- والصدفة هي الطفرة التكيفية ذات الأثر الفعلي
3- وأثر الضرورة في الصدفة هو ثبات الخاصية المطفورة في الطافر وفناء غير الطافرين.
4- وأثر الصدفة في الضرورة هو تكيف الطافر وعدم تكيف غير الطافر
وجملة المؤثرات هي التطور العضوي للانواع التي تصبح سلسلة واحدة تشملها النقلة من عدم النظام إلى النظام أو من قدر أصغر من النظام إلى قدر أكبر يحقق التكيف الافضل ليكون البقاء للاصلح في صراع الصدف.

لكن ذلك يصبح غائية عامة للظاهرات العضوية حتى لو أنكر أصحابها القول بالغائية الخاصة بالانواع التي دخلت في السيلان الابدي للتطور. وهم ينكرون ذلك لغفلتهم أو لسذاجتهم. إذ ما معنى الوراثة إن لم تكن قانونا ينقل الخاصيات بحسب قوانين ثابتة ويحافظ عليها بحسب تلك القوانين ؟ وكيف تكون الطفرة تكيفية إذا لم يكن بين الطفرة والبيئة (التي تخضع هي بدورها لضرورتين طبيعية وعضوية بمقتضى مقوميها المادي والعضوي) تلاق يقتضي-حتى وإن لم يكن مقصودا قبليا-حصولا بعديا للتوافق بين المحددات؟ وأي معنى لثبات الخاصية المطفورة المحققة للتكيف بالقضاء على الخاصيات التي لا تحقق التكيف إذا لم يكن ذلك من التوافق بين توافقين إيجابي هو السابق وسلبي هو عكسه لغير الطافرين ؟ إلخ.

وفي الجملة فإن نفي اللادينيين للاعجاز الذي احتاج إليه الدين مرة واحدة لتفسير النظام في الكون بعقل ناظم وخالق ينتهي إلى تعميم الاعجاز في كل صغيرة وكبيرة فيصبح كل شيء يحصل في الوجود الطبيعي والتاريخي يحصل بمعجزة يسمونها الصدفة: أليس ذلك هو عين اسطرة العالم كله أسطرة مطلقة وعودة إلى العقلية السحرية التي يرمز إليها الدين بالوثنية يعني بتعدد الخالقين ومعجزات الخلق بهذه الفواعل الخمسة ؟ ! وبذلك نعود إلى مسألة الالحاد. فلو كان الالحاد ممكنا عقلا امكانا صادقا خلقيا مثله مثل اللاأدرية (أي في حديث النفس مع نفسها وليس في ما تقول وخاصة خلال كل التجارب الوجودية التي تمر بها والتي يصف القرآن الكريم بعضها عندما يلجأ المرء إلى خالقة ) لكنت أول القائلين بهما. لكنهما مستحيلان صادقين. فالجمع بين التنزيهين الواعي واللاواعي اللذين أشرت إليهما في المسألة الأولى يعود إلى الدليل الوجودي مسلوبا رغم غفلة من يرى العالم مقلوبا. وعظمة القرآن أنه قد نبه إلى ذلك في أغلب آيات الاستدلال التأملي على الوجود الالهي.

فالدليل الوجودي الموجب يقول: تصور الله أو ماهيته يقتضي وجوده أو إنيته. وبين أن هذا الدليل يضمر أن كل الموجودات الاخرى تصورها لا يقتضي وجودها. وعليه بنت الفلسفة والكلام الاسلاميين كل الفكر الاسلامي انطلاقا من الترجيح الجهوي. فيكون الدليل الوجودي تناظر خفي بين وجودين مطلق (الخالق) ونسبي (المخلوق). ومن ثم فهو كما يقول هيجل محصلة الادلة الثلاثة الاخرى على وجود الله: الدليل الفاعلي (فاعل النظام الوجودي) والدليل الغائي (غاية النظام الوجودي) والدليل الخلقي (خير النظام الوجودي). فهذه العناصر الثلاثة المحتاجة إلى تعليل في الموجودات المخلوفة تصبح غنية عنه في الموجود الخالق. وذلك هو معنى أن ماهيته تقتضي وجوده.

وللنظر الآن في الالحاد ما مدلوله؟ أليس هو مجرد جمع لسلوب هذه الادلة؟ فهو دليل وجودي سلبي بالمعنى التالي. فصاحبه يقول: تصور الله أو ماهيته يقتضي عدم وجوده وعدم إنيته. والعلة أنه بخلاف صاحب الدليل الوجودي الموجب لا يضمر المناظرة بين الموجودين بل هو يعلن أن تصور الله أو ماهتيه متنافية مع ما يتصف به الموجود النسبي من عدم نظام وعدم غاية وعدم خلق (نفي الأدلة الثلاثة)؟ فهل كان العالم عامة والتاريخ خاصة يكون ماهو لو كان الله كما تحدده ماهيته عالما قادرا مريدا وخيرا ؟ لذلك فالالحاد يستند إلى ضمير هو نقيض الشرطية المتصلة:
* لو كان الله موجودا لكان العالم كله خيرا
* لكن العالم ليس خيرا
* إذن الله ليس موجودا (نقيض التالي ينتج نقيض المقدم).

وطبعا فهذا يضمر أن ماهية الله تقتضي أن يكون قادرا على جعل العالم افضل مما هو. وطبعا فلا أحد يمكن أن يقتنع أن العالم يمتاز بالأبدعية سواء أخذناها بمفهومها عند الغزالي أو بمفهومها عند لايبنتس التي كانت موضع سخرية ديدرو وفولتار. فيكون احتجاج اللاديني وكأن لسان حاله يقول: الأفضل أن أنفي وجود الله من أن أعترف بأنه عاجز على منع الشر والظلم والفوضي في الوجود ! لذلك قلت إن أصل الالحاد تنزيهية سلبية أو دفاع سلبي عن العدل الالهي بنفي الاله غير العادل استقراء من الوجود بدل من نفي حقائق الوجود التي لا ينكرها إلا معاند والتي يصعب أن يقبل العقل ان الله راض عنها ! أفيكون الله عاجزا عن منع ما لا يرضى عنه ؟ أم يكون الشيطان هو الأقوى؟

ألا يستحق الالحاد إذن أن يوصف بكونه مجرد احتجاج علته تحول وجودي السؤال إلى ثورة ببراءة الأطفال؟ لذلك فإني اعتبر اللادينيين العرب وكل اللادينيين في التاريخ-إذا كانوا حقا صادقين في التعبير عن التجربة الوجودية التي حاولت وصفها هنا ولم يكونوا دجالين يحاولون تشويه أسمى تجارب الوعي البشري بمزح السكاري-إما أصوليين يائسين أو أطفال بائسين لم يدركوا أن الدين لم ينف كل هذه الحجج بل هو يعتبرها شرط التدين الحيقيقي المحرر للانسان من هذه الانفاء بالفعل التاريخي.

ولولا ذلك لما اعتبر الدين الاسلامي الدين الخاتم عملا تاريخيا أساسه النظري الاجتهاد (لا العلم المطلق) وأساسه العملي الجهاد (لا مجرد التمني) وكلاهما يحصل بعملية التواصي بين المؤمنين من أجل التصدي إلى هذه الامور: وتلك هي أمانة المستخلف ومجال حريته لتحقيق الامتحان الوجودي المطلق لبني آدم. فأما التواصي الأول فهو تواص بالحق للوصول الاجتهادي إلى معرفة ما يحرر الوجود من اللانظام واللاغاية واللاخير. وأما التواصي الثاني فهو تواص بالصبر لتحقيق ذلك في التاريخ الفعلي. وتلك هي الشهادة على العالمين. ليست القضية الدينية نزهة فكرية: إنها معاناة وجودية لمعرفة الحقيقة ولتحقيقها وذلك هو معنى الاجتهاد والجهاد والتحرر من السلطان الروحي والسلطان الزماني التحررين اللذين لا يحصلان بالاماني بل بالتفاني في فهم المعاني وتحقيق المباني. ألم يقل الرسول الكريم: رهبانية الاسلام هي الاجتهاد والجهاد ؟ أما إذا اخترنا الموقف المزعوم لا ديينا والذي بينا أنه دين من الاديان فإن النتيجية ستكون كما يلي:
1- لن يبقى معنى للاحتجاج على الشر والظلم وعدم النظام: فتلك سنن الدهر وتلك هي مفاعيل
الضرورة والصدفة.
2- لن يبقى معنى للسعي لتغيير الاحوال بغير منطق الضرورة والصدفة: سنعود إلى قيم كاليكلاس
حيث لا قانون إلا قانون القوة والغلبة.

ومن ثم فإن اللادينية ليست لا دينية بل هي عودة إلى الطبعانية التي وصفنا في المثال الذي ضربناه من نظرية التطور. فليكن اللادينيون صرحاء وليقولوا إنهم مع كل جبابرة العالم وسفاحيه والسلام.

المصدر : http://www.hewarye.com/vb/showthread.php?t=840