" العِمامة والبراجماتزم "

د. أحمد إدريس الطعان
كلية الشريعة – جامعة دمشق
بريد إلكتروني : ahmad_altan@maktoob.com


بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد :

إذا بحثنا في المكونات الأساسية لمعتقدات وآراء الناس فإننا سنجد للقدوة أو النموذج أثراً كبيراً في تشكيل المعتقد والرأي لدى جمهور الناس، فالناس يقلدون في الغالب النماذج التي يظنون أنها متفوقة أو سائدة، ومن هنا فقد ألح القرآن الكريم على أهمية القدوة في حياة الأمة ، فأرشد نبيه  إلى التأسي بحال الأنبياء السابقين وذلك بقوله عز وجل :  أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ  ( ) وذكّره بصبرهم وعزمهم فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُل  ( ) وأرشد الأمة إلى ضرورة التأسي بسيد البشر محمد رسول الله  فقال جل شأنه :  لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِير ( ) ، كما أن جانباً كبيراً من الوحي القرآني كان في أساسه قصصاً للأنبياء السابقين الذين جاهدوا وصبروا أمام قوى الشر والفساد في العالم ، والغاية من ذلك هي أن نتمثل هذه النماذج الصالحة لكي نهتدي بها ونترسم خطاها َقدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءاؤا مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( )


المبحث الأول
القدوة بين الإسلام والغرب

المطلب الأول - القدوة المثالية :

إن كتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسل يفيضان بنماذج مشرفة يُراد للأمة أن تهتدي بها، وكذلك يعرضان نماذج منحرفة وخاسرة لكي نتجنبها ونعتبر بها لقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ  ( )، إن السمة الأساسية للوحي أنه يعلي دائماً من شأن الفضيلة والفضلاء ، ويذكر النماذج المتنوعة لذلك فيمتدح الحلم والصدق والإخلاص والجهاد والعفة واليقين والصبر، ويذكر لكل خلق من هذه الأخلاق نموذجاً أو نماذج مُشخَّصة تجعله قريباً من الإنسان وداخلاً في الحيز البشري .
فيوسف عليه السلام مثال عظيم للعفة والتسامح فقد قال لامرأة العزيز التي دعته إلى الفاحشة  قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ( ) وقال لإخوته الذين ظلموه  قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين  ( )
وإبراهيم عليه السلام مثال عظيم للصدق والجهاد والتضحية  وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيا  ( )  فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ *‏ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاء الْمُبِينُ  ( )
وموسى عليه السلام مثال عظيم للأمانة والعفة والقوة  قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ  ( ) وأيوب عليه السلام مثال عظيم للصبر  إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ( ) ولقمان للحكمة، وآدم للتوبة، ومحمد صلى الله وسلم عليه وعليهم جميعاً للرحمة ..
هذا بالإضافة إلى ما تعج به كتب السيرة والسنة من قصص ونماذج رائعة تحكي حال الرعيل الأول فتعلي دائماً من شان الفضائل وتحط من شأن الرذائل : فعمر هو مثال للعدل والقوة في دين الله عز وجل ، وأبو بكر هو مثال لليقين المطلق والتصديق الراسخ وعثمان مثال للبذل والعطاء والحياء وعلي كرم الله وجهه للشجاعة والعلم والتضحية وغير ذلك رضي الله عنهم جميعاً .
إن هذه النماذج المشرّفة في ديننا هي التي تشكل وعينا وعقلنا وتوجه مسيرتنا في الحياة ، إننا نستمد منها الثقة والإيمان ، ونعيش فيها وتعيش فينا وتغذي عقولنا وأرواحنا .
إن الداعية الذي يتعرض للمصاعب والمشاق يتذكر ما لقيه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام في سبيل إبلاغ الدعوة فتهون أمامه كل الصعاب لأنه يدرك أن كل ما يلقاه ليس شيئاً بجانب ما لقيه الرعيل الأول خلال سنوات التبليغ ، فهو يتذكر : التراب الذي يرمى على وجهه صلى الله عليه وسلم ويتذكر سلا الجزور، ويتذكر أذى الطائف، وشعب أبي طالب ويتذكر سمية وآل ياسر وبلال وعمار ..
وإن الاستشهادي حين يلغم نفسه بالمتفجرات ويتجه إلى العدو ليدك معاقله دون خوف يستعرض في ذاكرته شريطاً يرى فيه حمزة وحربة وحشي تخترق أحشاءه، ومصعب يحمل اللواء لا يتخلى عنه حتى تتناوشه السيوف، وزيد بن حارثة وجعفر الطيار ، وابن رواحة وزيد بن الدثنة وخبيب وغيرهم وعمر المختار الذي قال للإيطاليين : نحن لا ننهزم ننتصر أو نموت ، ثم قوافل الشهداء الفلسطينيين الذين يتساقطون كل يوم، إن كل ذلك يجعله يستهين بالموت ويستصغر الحياة، ويعد نفسه في الطريق الصحيح للقافلة. إنهم ينتظرونه هناك حيث السعادة الأبدية !!.

المطلب الثاني- إسقاط القدوة :

قال أصحاب البروتوكولات "" وقد سبق لنا فيما مضى من الوقت أن بذلنا جهداً لإسقاط هيبة رجال الدين عند الغوييم ، وقصدنا بذلك أن نفسد عليهم رسالتهم في الأرض ، وهي الرسالة التي يُحتمل أنها لا تزال بنفوذها عقبة كؤوداً في طريقنا .. ولا نرى هذا النفوذ إلا في تناقص يوماً بعد يوم "" ( ) ولما للقدوة من أثر عظيم في تشكيل وعي الأمة وذاكرتها وحاضرها ومستقبلها فقد جهد أعداء الإنسانية إلى فصل الأمة عن نماذجها العليا ومثلها السامية .
فكانت أغلب جهودهم تحاول التشويش على صفاء العصر الذهبي الأول والتعكير على نقاء صورته . فكتب الكثير من المستشرقين بدوافع من الحقد الأسود والعصبية العمياء عن سيد ولد آدم ، والمثل الأعلى للبشرية كلاماً لا يمكن تصنيفه لشدة بعده عن الحق ومجافاته للواقع إلا أنه هذيان مجانين وتخريفات معتوهين .
حتى أنه قام من بينهم قائم وشهد شاهد من أنفسهم أنهم قد جاوزوا الحد في الظلم وبلغوا الغاية في الافتراء ، وأنه عليهم أن يهوّنوا قليلاً من سعار غيظهم، وأن يلبسوا قليلاً من الحق في كثير إفكهم لكي يتسنى له أن يتسلل إلى بعض العقول . ( )
والهجمة التي حصلت مؤخراً في الدانمارك تسير في هذا الإطار وهو توهين الصلة بين المؤمنين ونبيهم  ، وكسر حاجز الثقة والقداسة الذي يلف المؤمنين حول مركزهم وقدوتهم . وقد لحق بهؤلاء مجموعة من الأذناب الذين عاهدوا أعداء هذه الأمة أن يظلوا أوفياء لهم خدماً يقومون بكل ما تتطلبه الخدمة ، وأبواقاً يرددون في أوطانهم وبلدانهم ما ينفخه الغرب فيهم من بعيد ( ) .
ومن هؤلاء محمد أركون الذي يرى أن نعيد النظر في كل المسلمات التراثية والعقائد الدينية التي يتلقاها المسلم منذ الطفولة ( ). ولا بد من التحرر من ثنائيات الإيمان والضلال والعقل والنقل والوحي والحقيقة ( ). ولن يتم ذلك إلا بتطبيق منهجية النقد التاريخي على التراث العربي والإسلامي ، لا بد أن نسير في نفس الطريق الذي سارت فيه أوربا ولا بد أن تهز المسلمين هزاً ولا بد أن يدفعوا الثمن ( ).
علينا أيضاً بنظر الجابري أن نتحرر من سلطة السلف والإجماع والقياس لأن هذه السلطات تلغي العقل وتجعله لا يفكر إلا انطلاقاً من أصلٍ أو بتوجيه منه أو انتهاءً إليه . ( )
إن القرآن الكريم يخلع القداسة على نفسه وعلى عمل النبي  بنظر الخطاب العلماني ويجعل الأحداث التاريخية التي حصلت في زمن النبي  أحداثاً ذات دلالات كونية تتجاوز خصوصيتها المحلية وتتخذ صفة الكونية ، وتصبح وكأنه لا علاقة لها بحدث محدود وقع في التاريخ المحسوس ( ) .
"" وهكذا ينجح القرآن في محو كل التفاصيل والدقائق التاريخية للحدث ويصبح خطاباً كونياً موجهاً للبشر في كل زمان ومكان، وهكذا يفقد صفته التاريخية فيبدو وكأنه خارج التاريخ أو يعلو عليه "" ( ) هذه المحاولات من القرآن الكريم هي بنظر الخطاب العلماني محاولات إيدولوجية، أي أن القرآن يفعل ذلك ويتعالى بالتاريخ لمقاصد وأغراض دنيوية ومن مهام أركون والمثقف العربي عموماً كما يرون "" الخروج من السياج الدوغمائي المغلق الذي تم ترسيخه وتشغيله وإعادة إنتاجه من قبل المؤسسات الدينية على مدى قرون طوال ، وهذا السياج تمثل بالدائرة الأيديولوجية التي افتتحها القرآن الكريم وعمل النبي صلى الله عليه وسلم ثم وسعت وضخمت فيما بعد من قبل العلماء والفقهاء "" . ( )
وهكذا يريد أن يقف أركون في وجه القرآن الكريم ويتصدى له لأن القرآن يرسخ الأدلجة والأسطرة والتقديس، وهو يريد تشكيل معرفة معادية للخداع والأسطرة والأدلجة والتقديس ( ). فالقرآن الكريم "" يغطي على تاريخانيته ببراعة عن طريق ربط نفسه باستمرار بالتعالي الذي يتجاوز التاريخ الأرضي كلياً أو يعلوا عليه "" ( ).
إن ما يريد أن يقرره الخطاب العلماني هو أن القرآن الكريم من خلال آياته وقصصه يرسم للمؤمنين به نماذج سامية جداً ، أو بحسب تعبيرهم متعالية عن التاريخ الأرضي، ويجعل هذه النماذج قدوة للمؤمنين على مر العصور، ينظرون إليها بتقديس وإعجاب وانبهار ويحاولون محاكاتها والاقتراب منها في كل المجالات ، والمهمة التي أخذها أركون وغيره من العلمانيين على عواتقهم هي أن يقوموا بالكشف عن أرضية هذه القداسة وزيفها وإعادتها إلى حيِّز الإنسان أو حيِّز المادة .
وقد كانت جهود أركون في كل كتبه هي محاولة لهدم الثقة بين الأمة وكتابها القرآن الكريم أولاً ، وهدم الثقة بيم الأمة وعصرها الأول، ذلكم العصر الذي يمثل القدوة المثالية التي تسعى الأمة دائماً لمحاكاتها في كل زمان ومكان .
ومشى في هذا الطريق عدد من هؤلاء العابثين ومن أبرزهم : خليل عبد الكريم في كتابين له، الأول : " شدو الربابه في مجتمع الصحابة " ، والكتاب الثاني " مجتمع يثرب " . وقد وقف في هذين الكتابين عند الأخطاء والعثرات ، أو الأخبار الكاذبة المزورة، وقام بحشد كل ذلك في كتابه على مدى ثلاثةٍ وخمسين عاماً ، أي عهد البعثة النبوية والخلافة الراشدة، وقصد من ذلك أن يرسم صورة مزرية قاتمة للعهد الأول، ويستغرب كيف يغفل العلمانيون - وهم لم يغفلوا- عن دراسة الحقبة النبوية التي يتأكد من خلال دراستها بالدليل الأبلج أنها حقبة منغمسة في التاريخية ، وعندها - بنظره وبنص عبارته "" سوف ينقمع المناوئ ، وينخنس المعارض ، ويتوارى المشاكس وينكسف المعاند "" لأنه سيرى "" الحجج البواهر والبراهين السواطع والأدلة والرواسخ على صحتها وثبوتها "" أي التاريخية "( ).
ومثله كان سيد محمود القمني في عدد من كتبه ومن أبرزها "" حروب دولة الرسول  " و " الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية " و " النبي إبراهيم والتاريخ المجهول " وغيرها ، ومثله فرج فودة ونبيل فياض ، وشاكر النابلسي ومحاولاتهم المحمومة لطمس الشمس النبوية ، وإثارة الغبار أمام نورها لكي تضل القافلة عن الطريق .
إن القدوة المتمثلة في شخص رسول الله  والعهد النبوي والراشدي والتابعي تشكل للأمة الإسلامية معيناً لا ينضب من العطاء والغذاء والدواء والنشاط، فهو المجد المشرق الذي نلوذ به أثناء لحظات الذل والهوان ، وهو العدل النادر والمساواة الحقة التي نفخر بها أثناء لحظات الظلم والجور والاستبداد والقهر، وهو النصر المؤزر ، والفتح المبين الذي نستعيد من خلاله آمالنا، ونشحذ به طاقاتنا أثناء لحظات الهزيمة والانكسار، وهو الحصن الحصين الذي نأوي إليه من كل عاديات الزمان ، ومن أجل ذلك يحاول الأعداء هدم هذا الحصن ، وكسر هذا الحاجز المتين لنصبح في العراء في مرمى ضرباتهم ، وموقع رمياتهم .
المطلب الثالث - صناعة النماذج :
لقد أدرك الغرب عبر جهود علمائه النفسيين والتربويين والاجتماعيين ما للقدوة من أثر في تكوين سلوكات المجتمع ، وتشكيل طموحاته وغاياته فتحدث غوستاف لوبون في كتابه الآراء والمعتقدات عن النفوذ العظيم الذي يمارسه النجوم في المجتمع عن طريق إشاعة ما يسمى " العدوى النفسية " ( )، وأكد على ضرورة أن يعتني المجتمع باختيار نجومه في العلم والأخلاق والتربية وأن يحسن " التنجيم " أي إصعاد النافعين المصلحين، وإجهاض الهابطين المفسدين ، بعكس ما يحصل اليوم عموماً في بلادنا الإسلامية .
إن الجمهور في الغالب يتأثر بالنجم المتألق الذي يحظى بالشهرة والمديح والإطراء في المنابر الإعلامية المختلفة فيسعى جاهداً لتقليده ومحاكاته بأشكال مختلفة حتى في شكلياته وكلماته وحركاته , وقد أدرك ذلك أرباب المال ، وأصحاب الشركات والبضائع والسلع المختلفة، فتجدهم اليوم يتنافسون على اصطياد النجوم وربط منتجاتهم وسلعهم بهم ، ويدفعون لذلك مبالغ خيالية فيُدفع للمثل عادل إمام مليون جنيه ليظهر في إعلان مدته دقيقة فيرفض ، وتظهر " يسرا " في إعلان لعلبة سمنة تقول : " الطبيعي يكسب " وأبو عنتر في " صابون الأهلية " وفي مباريات كأس العالم سنة 2002 م كنت أسمع في الأخبار كيف يدفع لأحد اللاعبين 8 مليون جنيه استرليني من أجل مباراة يلعبها من أحد الفرق الرياضية ، ولاعب آخر مرتبه الشهري 200 ألف دولار أي ما يعادل مرتب موظفي دولة بأكملها من دولنا الفقيرة، وكلنا يعلم كم اكتسح اللاعب ماردونا عقول الجماهير وأصبح اسمه يُرسم على كل أنواع الألبسة من أجل هدف أدخله في المرمى .
إن النجومية أو النخبوية يبرزها اليوم الإعلام بحق وبغير حق ودون معايير إنسانية أو أخلاقية ، إنما هي أخلاق السوق والمصلحة والمنفعة الدنيوية . وإذا تأملنا قليلاً في الحضارة الغربية نجد أنه من المتفق عليه بين المراقبين أنها حضارة الإفلاس الأخلاقي بكل المقاييس، والمنبهرين بمنجزاتها التكنولوجية والصناعية أصبحوا مرغمين اليوم على مراجعة حساباتهم، إن المدفع من الأفضل عدمه إذا كانت اليد التي تمسكه يد آثمة لا تتورع عن ارتكاب الجريمة، وإن اليد التي تمسك بزمام الحضارة المادية اليوم يد ملوثة بدماء الشعوب، لقد أبادت شعوباً ومدناً بأكملها وامتصت خيرات أمم وتركتها فريسة للجوع والمرض، إنها تُوجه قنابلها الذكية وأقمارها الصناعية من أجل فساد الكون، والعبث بالحياة ، فلم تعد للمنجزات المادية تلك القيمة إذ ما نُظر إلى نتائجها المفجعة، لقد أصبح الكثيرون يحنون إلى حياة " الهمجي النبيل " الذي تحدث عنه دنيس ديدرو 1713 – 1784 م وجان جاك روسو 1712 – 1778 م حيث السعادة القائمة على السذاجة ( ) . إن السؤال الذي يبرز هنا : أليس هناك صلة بين القدوة في الغرب والقاعدة الشعبية العريضة المتردية اليوم ؟
المطلب الرابع - ارتكاس القدوة :
إذا كان النجوم في الغرب والعباقرة الذين تُشاد لهم النصب التذكارية هم الذين يُمجدون الفساد والدعارة والانحراف أفلا يُنتج ذلك حضارة داعرة ؟
لقد تحدث روسو في كتابه الاعترافات عن سخافاته التي ارتكبها وجرائمه التي اقترفها ( ) ليجعل منها قدوة للإنسان الأوربي وهو نفسه صاحب " العقد الاجتماعي" وهو نفسه الذي يرد على فولتير مثبتاً العناية الإلهية ومدافعاً عن الإيمان ، وهو نفسه الذي يصفه مؤرخو الفلسفة الغربية بأنه كان سافلاً لصاً غادراً خائناً كاذباً وكان مجرداً من جميع الفضائل ( ) وكان يرتكب الزنا مع امرأة عجوز ظل لفترة طويلة يخاطبها على أنها أمه، وكان هو وخادمه يضاجعانها ، ولما مات الخادم حزن عليه كثيراً ، ولكن مما خفف عنه أنه علم أنه سيحصل على ثيابه . وهكذا يعيش الإنسان الغربي ليتعلم أنه لا صلة بين العلم والأخلاق، وقد أنجب روسو خمسة أطفال أرسلهم جميعاً إلى دور اللقطاء، أفلا ترون أن ما يحصل اليوم في العالم من ظلم ونهب وقتل وعدوان هو شيءٌ طبيعي من نخبةٍ من اللقطاء تمسك بزمام العالم ؟
أما تشيلني فقد قال : رزقت بطفلة واحدة على ما أذكر ، وبقدر ما تسعفني الذاكرة، وقد خصص لها مبلغاً من المال ووكل بها إلى خالتها ولم يرها بعد ذلك أبداً . لا شك أنه كان أرحم من روسو !! .
وأما فرنسيس بيكون الذي يوصف من جهة بأنه مؤسس المنهج التجريبي وأعظم وأوسع وأبلغ الفلاسفة، والابن البار لعصر النهضة، والمفكر الغزير العلم كما يقول عنه برينتون ( ) وأعظم عقل في العصور الحديثة كما يقول عنه ول ديورانت ( )، هو نفسه الذي يوصف من جهة ثانية بأنه لم يكن رجلاً فاضلاً كريم النفس ، وإنما كان خائناً غادراً مختلساً انتهازياً منعدم الضمير كما وصفه الفلاسفة الذين مدحوه قبل قليل( ) وكان ليوناردو دافنشي وإيرازموس أولاد زنا، أما ديكارت الذي يعد أبو الفلسفة الحديثة، وكان يعد من الفلاسفة المتدينين، فلم يتزوج، لكنه أبداً لم يكن كأمثال علمائنا العزاب الذين آثروا العلم على الزواج ( ) ، لأنه أنجب ابنة من سفاح، وكان ريتشارد كارليل صاحب كتاب الأبطال يعيش مع امرأة بدون زواج وأنجبا أربعة أطفال سفاحيين . ( ) وأما أوجست كونت فقد اقترن بفتاة تشتغل بالبغاء، وقد وقعا في ضائقة مالية واقترحت عليه أن تسهم في معيشتهما عن طريق مهنتها القديمة ولكنه رفض ذلك، وهذا من المواقف التي تحمد له بين أصحابه !! ( ) .
أما شوبنهاور [ ت :1860 م ] فقد كان مصاباً بنوع من الهوس والمرض النفسي وكان شهوانياً داعراً ، ولم يرتبط بأي امرأة عن طريق زواج شريف بل في علاقات مبتذلة ، وكان شديد البخل، ويستخدم مراسلين يتصيدون له الشواهد على شهرته، وكان على خلاف مع أمه بسبب علاقاتها الشاذة مع الرجال بعد وفاة أبيه ( ) .
أما نيتشة [ ت :1900 م ] صاحب إعلان " موت الإله " فقد أصابه هذيان وجنون العظمة، لأنه قضى حياته داعياً إلى الإنسان الأعلى وأخلاق القوة، وكان يحلم بالقضاء على الضعفاء والمعوقين وإقصائهم من الوجود، - وقد حقق له هذه الرغبة هتلر وموسوليني وستالين- ومثله الأعلى دائماً إنسان متجرد تماماً من الرحمة متحجر القلب لا يعرف الشفقة . وكان من عدالة الله عز وجل أن قضى نيتشه السنوات العشر الأخيرة من حياته مجنوناً بحاجة إلى الرثاء والشفقة والرحمة، هذه الأخلاق التي رفضها طوال حياته ( ) .
والآن : هؤلاء هم نجوم الغرب ، وقادته العظماء ، ومثله العليا ، يقرأ الغربي سيرهم المدنسة بوحل الرذيلة ، ويبحث في تاريخهم فلا يجده إلا ملطخاً بالعار، ثم يتابع إعلامه الصاخب فلا يجد فيه بشأن هؤلاء إلا الإعلاء والتمجيد والفخار ، فتنقلب في مناظيره موازين القيم فتصبح :
الخيانة والغدر طريق المجد ..
والانحلال والتهتك طريق النجومية ..
والإلحاد والزندقة طريق العظمة …
وهكذا يعيش الإنسان الغربي اليوم يفصل بين الأخلاق والحضارة ، وبين القيم والرقي ، وفي النهاية يفصل بين الإنسانية والإنسان ، وعندها يصبح الإنسان ذئباً ، ثعلباً ، ثعباناً ،ويصعب أن تجد " الإنسان الإنسان " ( ) . أو يصبح الإنسان شيئاً ، سلعة ، وثـناً ، نـمطاً ، آلـة ، وينـدر أن تجـد " الإنسان الإنسان " ( ) . كل ذلك يأتي من وراء النجومية الكاذبة ، والرموزية الخادعة ، والنخبوية الفارغة ، وفي النهاية " إذا كان رب البيت بالطبل قارعاً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص " .
هذه هي صورة القدوة في الغرب ولا يمكن مقارنة ذلك مع النماذج المشرفة في حضارتنا وتراثنا، أين هي من سيرة الحسن البصري وابن المسيِّب ومالك والشافعي وابن حنبل وصلاح الدين ، ونور الدين ، والغزالي والنورسي وغيرهم من النماذج المشرقة التي ترفع الرأس وتنير الجبين . إن القدوة تنعكس على واقع الأمة صلاحاً وإعماراً وحضارة أو فساداً وانحرافاً ودماراً .


المبحث الثاني
القدوة الإسلامية في لحظتنا الراهنة

والآن حان الوقت لنسأل السؤال التالي : ما هو دور القدوة اليوم في مجتمعنا الإسلامي المعاصر هل كانت نموذجاً دافعاً إلى الخير أم أنها تدفع إلى العكس ؟
مما لاشك فيه أن ديننا أعطى لأهل العلم مكانة باسقة وبوأهم مركز الصدارة في المجتمع فهم بعبارة مختصرة جداً " ورثة الأنبياء ، أي أنهم الذين يحملون لواء الهداية للناس بعد الأنبياء ، والذي يحمل اللواء في المعركة يكون عرضة للمخاطر والسهام لأنه يشكل مركزاً يلتف حوله الجنود . فهل العلماء اليوم يحملون هذا اللواء بشجاعة ويقومون بواجبهم الدعوي كما أراد لهم الإسلام وبنفس القدر الموازي للمركزية والصدارة التي منحهم إياها .
الإجابة على هذا السؤال فيها قدر كبير من المشقة والخطورة ، ولكني استخرت الله عز وجل ، وقصدت بذلك وجهه جل شأنه ، ووضعت نصب عيني حديثيين شريفين :
الأول : قوله "" الدين النصيحة . قلنا لمن يارسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم "" ( ) .
الثاني : حديث حذيفة بن اليمان : كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي ... ""( ) .
لا بد من القول أولاً بأنه يوجد في حلب عموماً – بحمد الله عز وجل - عدد كبير من العلماء العاملين والمخلصين المشتغلين بالعلم والدعوة، والذين تنير جهودهم الطريق وتبعث الأمل، منهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر، وما بدلوا تبديلا، ومنهم من ترك مؤلفات ومصنفات شاهدة لعلمه وفضله، ومنهم شغلته صناعة الأجيال عن صناعة الكتب ، ولكلا الفريقين نرجو من الله عز وجل أن يتقبلهم بقبول حسن ، وأن يتغمدهم بواسع رحمته وفضله، ومن هؤلاء الذين قضوا الشيخ عبد الله سراج الدين، والشيخ جمعة أبو زلام رحمهم الله رحمة واسعة، وأسكنهم فسيح جناته، ولكن هناك نسبة كبيرة من المنتسبين إلى العلم ، يتزيون بزي العلماء ويلبسون الجبب والعمائم يُفسدون في الأرض ، ويُلحقون أضراراً هائلة بمسيرة الدعوة والإصلاح ، ولكثرة هؤلاء المتطفلين على العلم في كل مكان فقد بدأت منذ سنوات تنطبع في أذهان الناس صورة سلبية للمشيخة وأهلها ، وبدأت بل كادت تنعدم الثقة بين الجمهور وعلمائه وممثليه والسبب هو في الغالب ملاحظات سلبية جداً تشيع بين العلماء، أو المنتسبين إليهم، وأردت في هذه الورقة أن ألفت النظر إلى بعض هذه الأخطاء لعلنا نبحث عن طريقة لمعالجتها :

أولاً :
منافسة بعض أصحاب العمائم لأهل الدنيا على دنياهم ، وتسابقهم على احتواشها واقتنائها دون تورع عن الحرام . وإذا حُدِّثوا عن الورع قالوا : الدنيا بأيدينا وليست في قلوبنا . واتجهوا لبناء القصور والمزارع واحتواش المال بكافة الوسائل، وشراء الذمم والأنصار والمراكز، وكل ذلك يسهل تبريره ببضع كلمات منمقة . وهنا تحضرني حكاية لأحد الصالحين، وكان همه توجيه النصح لعلماء عصره، لأنه يرى أن في صلاحهم صلاح الأمة وفي فسادهم فساد الأمة . لقد ذهب ذات يوم إلى عالم من هذه النماذج التي نتحدث عنها : قصر منيف فيه ما لذ وطاب ، وأثاث فاخر ومريدين مخلصين عرف كيف يربيهم لنفسه ، دخل الرجل الصالح يطلب العلم فقال للعالم النحرير سيدي أنا أتيت لتعلمني كيف أتوضأ فعلمه، فقال أنا لا أعرف إلا أن تطبق لي ذلك عملياً فأحضر له صشت فاخر ، وإبريق فاخر مملوء ماء، فقال له اغسل يديك ثلاث مرات فغسلها أربعاً ، تمضمض ثلاث مرات فتمضمض أربعاً ، اغسل وجهك ثلاث مرات فغسله أربعاً ، فغضب الشيخ وقال له : أنا أقول لك ثلاثاً وأنت تزيد واحدة، لماذا ؟ قال له : وهل في ذلك بأس ؟ قال : نعم . قال : لمَ ؟ قال إسراف حرام . قال الرجل : وهو يقلب بصره في أرجاء القصر أكلُّ ما أنت فيه من بذخ وترف ليس إسرافاً، وحفنة ماء زدتها إسراف ؟!! فأدرك الشيخ أن الرجل جاءه ناصحاً واعظاً .
ذات يوم سافرت في البولمان فرأيت أحد الشيوخ الذين أعرفهم قد حجز محلين وليس إلى جواره أحد، فقلت له بعد أن سلمت عليه : هل معك أحد إلى جوارك ؟ قال لا ، ولكني حجزت هذا المقعد للعمامة حتى لا تتسخ !! . استغربت ذلك وسكتُّ . وأتذكر الآن امرأة أرملة لديها أولاد صغار في قريتي كل طموحها – كما بلغني – أن تؤمن لأولادها الخبز والشاي ! ربما تستغربون ! ولكن لا غرابة لأن كثيراً من الفقراء – الذين انفصلنا عنهم - ينقعون الخبز في الشاي ثم يصنعون من ذلك ثريداً ، ولعل ذلك هو القديد الذي أخبر عنه النبي  كما مر معنا قبل قليل . وهنا أتساءل أليس التبرع بثمن المقعد لمثل هذه المرأة وأولادها أولى من العمامة ؟ !!
ولكن لا تستغربوا ذلك فإن العمامة تستحق أن يُحجز لها ، فقد دعانا أحد المشايخ إلى لبس العمامة وقال : إن للعمامة منافع جمة فهي تجلب احترام الناس ، فالشرطي يخجل أن يوقف سيارتك ويحييك بقوله : ""أهلين شيخي !! "" ، والموظف في الدوائر الحكومية يخجل أن يطلب منك رشوة، ويقوم بنفسه يخدمك ويمشي بأوراقك . وأردف قائلاً : يا أخي إن للعمامة منافع كثيرة فلماذا لا تلبسونها . فقلت في نفسي متحسراً ! لقد قطف الشيخ منافع العمامة فهل تراه دفع الثمن ؟!
إن العمامة يا إخوتي ليست منافع فقط ، وإنما مغارم وتضحيات، وإذا كانت المنافع أكثر والمكاسب أعظم فإن العمامة يوشك أن تكون مزوّرة ، إن العمامة مسئولية كبيرة أمام الله جل شأنه، وأمام الناس والأمة التاريخ لأنها تجسيد لوراثة النبوة ، وعنوان لجسامة المهمة، وقد كان النبي  أكثر أصحابه تضحية كان أقربهم إلى العدو في المعركة ، وكانوا يحتمون به إذا حمي الوطيس ، وحين انهزم عدد من أصحابه في أحد ظل مع ثلة منهم يصدون المشركين ويدفعونهم ، وفي بدر قدم أقاربه للمبارزة : حمزة وعلياً والحارث ، وفي الخندق قدم علياً لمبارزة أشجع فرسان العرب عمرو بن ود العامري ، وأثناء العمل في حفر الخندق جاع  وتعب أكثر من كل أصحابه، فقد جاءه بعضهم يكشفون عن بطونهم وقد شد كل واحد منهم حجراً على بطنه من شدة الجوع ، فكشف  عن حجرين، ولم يرض أن يطعم طعام جابر دونهم ، وفي حنين فوجئ المسلمون بالعدو ففروا وثبت النبي  وهو يقول : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب .
إن وراثة النبوة ليست كلاماً يُقال ومنصباً يُتبوّأُ وعمامة تُلبس ، وليست خُطباً رنانة ، وعبارات منمقة ، وإنما هي تضحية وإقدام وشجاعة ، ألا يكفينا أن النبي  لحق بالرفيق الأعلى ودرعه مرهونة عند يهودي بشعير استلفه لآل بيته  ، وقد دانت له الجزيرة العربية كلها . وجاءته فاطمة رضي الله عنها تطلب خادماً من سبي جاءه، فلم تجده، فذهب إليها زائراً ونصحها وزوجها المكرم وجهه بخير من الخادم ، وهو التسبيح والتهليل والتكبير ، وقال : والله لا أعطيكم خادماً وأهل الصفة لا يجدون ما يأكلون ولكني أبيع السبي وأنفق عليهم ( ) .
ثانياً : إن الناس يرون أن مجالس العلماء وطلاب العلم " الخاصة " ليس فيها تورع عن الغيبة والنميمة ، وقليل جداً أن تجد عالماً يثني على عالم آخر ويمتدحه ويشيد به . وقد أعجبتني كلمة قالها الشيخ راتب النابلسي حفظه الله في مجلس خاص مع بعض إخواني قال "" أنا منذ ثلاثين سنة أدعو إلى الله عز وجل ما قلت كلمة سوء أو ذم بحق عالم من علماء المسلمين ولله الحمد "" وحق له أن يسعد بهذا .

ثالثاً :
في الوقت الذي يتلو كثير من العلماء قول الله عز وجل  سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أعِدَّتْ لِلّذِينَ آَمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِه  ( ) نجد أن التسابق والتنافس للظهور في مركز الصدارة والاهتمام عبر وسائل الإعلام والفضائيات ، والحرص على الشهرة والمناصب والجاه أكثر من الحرص على العلم والناس والدعوة .

رابعاً :
لقد جاء في الحديث القدسي "" يقول الله عز وجل : العظمة إزاري ، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار "" ( ) . فما بال كثير من المنتسبين للعلم اليوم يتبارون في مظاهر العظمة والأبهة ، ويعللون ذلك بأنه إظهار لعزة الدين وأهله ، وكأن الإسلام الذي هو دين الله والمحفوظ بوعد من الله جل شأنه مرتبط بالأشخاص ، إن ديننا فوق النماذج وفوق الأشخاص .
لمَ لا يتذكر هؤلاء الناس كيف دخل رسول الله  مكة المكرمة فاتحاً منصوراً ، إنه موقف يستحق أن يكتب بالأبر على مآقي البصر ليكون عبرة لمن يعتبر ، فها هو الفاتح المكرم يدخل ومعه آلاف من الأطهار والقديسين - كما جاء في التوراه ( )- عن يمينه ويساره وبين يديه، ولقد عبّر عن هذا المظهر العظيم أبو سفيان حين رأى الكتيبة الخضراء، فقال للعباس رضي الله عنه : ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة ، لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيماً . فرد عليه العباس رداً حاسماً : إنها النبوة ! .
نعم ليس مُلْكاً ولا مَلِكاً فقد دخل النبي  خاشعاً متخشعاً يترنم بسورة الفتح، وإن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل من التذلل والتواضع لوجه الله عز وجل . وقد اقترب منه رجل يريد أن يسأله فارتعدت فرائصه، فقال له : يا أخي إنما أنا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة .
أجل ! إنه  يتذكر في هذا الموقف العظيم حالة فقره وحاجته ، يتذكر الآن حالة ضعفه وانكساره ، وما أكرمه الله عز وجل به من الفتح المبين والنصر الثمين ، إنه وقت مناسب جداً لِيخِرَّ ساجداً شاكراً لله عز وجل ، فيترجل النبي  ويصلي لله عز وجل اثنتي عشرة ركعة صلاة الفتح . أفليس أهل العلم أولى الناس بالتواضع لله عز وجل والتأسّي بالنبي  وأخلاقه الحميدة وسجاياه الرشيدة !!.
يتحدث بعض أساتذة الجامعة عن ضرورة عدم الوقوف مع الطلاب في الممشى والممرات، لأن ذلك يقلل من هيبة الأساتذة ويجرئ الطلاب عليهم، وهذا بنظري ليس صحيحاً، لأن هيبة الأستاذ في نفوس طلابه تصنعها أخلاقه السمحة وعلمه الثري ، أما الشكليات فهي وإن أبقت شيئاً من الهيبة، لكنها تُبقي معها حواجز نفسية من الشعور بالغربة والدونية والطبقية الدينية ، وليس هذا هو منهج النبوة فقد كانت الجارية تأتي إلى النبي  فتأخذ بيده وتذهب به في سكك المدينة حتى يقضي لها حاجتها ( ) .

خامساً :

إن العلاقات متوترة جداً بين كثير من العلماء فيما بينهم ، وانعكس ذلك سلباً على صورتهم أمام الناس، فأنتج ذلك أزمة ثقة حقيقية بينهم وبين القاعدة الجماهيرية العريضة، وأصبح من الممكن القول : "" أن تصلح بين ضرتين أهون من أن تصلح بين شيخين "".
ولذلك أصبحت تشيع اليوم في المجتمع ظاهرة عدم احترام العلماء، بل وفي بعض الشرائح الاجتماعية هناك سخرية وتهكم بالمشايخ ، وهذه نتيجة طبيعية لعدم احترام كثير من المنتسبين للعلم لموقعهم الذي تبوؤه فأساءوا لأنفسهم ولدينهم ولأمتهم .
إن هناك تراكمات تاريخية ثقيلة من الضروري أن نتخلص منها، فكلنا يعلم كم عانى الإمام ابن تيمية رحمه الله من علماء عصره حتى تمالأ عليه عدد من المنتسبين للعلم والمتزلفين للسلطان فسجنوه ومات في سجنه رحمه الله، ودفع ثمن كلمة الحق التي جهر بها . وكذلك ما تعرض له كلٌّ من الإمامين ابن رشد والآمدي من مشايخ عصرهم، فاتُّهموا بالزندقة وحُرِّض عليهم الحكام فنكلوا بهم ، والإمام الغزالي أيضاً لم يسلم من ذلك فحرِّقت كتبه في المغرب لأنها لم توافق هوى بعض العلماء .
ولم تكن العلاقة محمودة بين الإمام ابن حجر والإمام بدر الدين العيني، وكان كلٌّ منهما لا يتورع عن ذم صاحبه والانتقاص منه، وانعكس ذلك على التلاميذ فترجم الإمام السيوطي لشيخه ابن حجر بعدة صفحات بينما ترجم للعيني بسطرين ولم يتورع عن التعريض به ، وترجم الإمام الذهبي للإمام الأشعري ترجمة مختصرة جداً لأنه لا يوافق مذهبه ، كذلك كانت العلاقة بين الإمام السيوطي والإمام السخاوي حتى ألف السيوطي " الكاوي في الرد على السخاوي "، ( ) وكذلك ما كان بين الإمام النسائي وأحمد بن صالح رحمهم الله جميعاً.
إن هذه النماذج المؤسفة لا نذكرها للتعريض بأصحابها وإنما لنلفت النظر إلى أن أصحابها رغم كونهم علماء أجلاء وعظماء إلا أنهم ليسوا معصومين من الأخطاء والأهواء، وما ينبغي أن تكون أهواؤهم وأخطاؤهم قدوة لنا، بل علينا أن نأخذ منها الدروس الإيجابية لنصلح أحوالنا ونتجنب السقوط في هذه العثرات، ونسأل الله عز وجل أن يغفر لهم ولنا جميعاً.

سادساً :
لقد انفصل كثير من العلماء عن الناس وأصبحوا يخاطبونهم من أبراج عاجية ، ولم يعد الشيخ يكتف أن يجلس ليعلم عدداً من التلاميذ في المسجد، بل هو يشكو من إعراض الطلاب والناس عن العلم، وسرعان ما يهجر درسه متذرعاً بذلك ، والسبب هو أنه يريد حشداً عظيماً يستمع إليه ويصغي لكلامه ، ولم تعد وظيفة العالم وارث النبي كوظيفة النبي يدخل في بيوت الناس ويخالطهم ويباسطهم ويعلمهم، بل أصبح لا يرضى أن يلقي علومه إلا من مواقع الشهرة ، إما منبر في جامع كبير، وليس كأي جامع، أو من قناة تلفزيونية رسمية أو فضائية . لقد أصبحت المشيخة طريقاً إلى الزعامة والمنصب والوجاهة، وبعض المنتسبين للعلم له علاقاته مع الأمن والمخابرات وكثير من المسئولين وأصحاب المناصب والمراكز، وينكل بخصومه إذا وقفوا في وجهه ، وينتقم من تلاميذه إذا تمردوا عليه ويثبت لهم أنه " واصل " ولكن شتان ما بين الوصول والوصل الذي يعرفه أهل الله العارفون، وبين الوصل الذي يتحدث عنه بعض المشايخ المعاصرين .
. ذهب أعرابي من القرية إلى المدينة يستفتي الشيخ في مسألة طلاق، وخرج الشيخ إليه واستوضحه من الباب، ثم أجابه دون أن يطلب منه التفضل بالدخول، عاد الرجل إلى القرية يحمل الفتوى، ولكنه يحمل في ضميره نقداً للشيخ، لأنه لم يدْعه إلى دخول منزله وسألني مستنكراً "" شو هالمشايخ "" فاعتذرت أمامه للشيخ ، لقد كان المستفتي رجلاً أمياً بدوياً ثيابه رثة، وتبدو عليه علامات الفقر والحاجة ، ولا شك أن الشيخ سيعتذر بضيق الوقت وكثرة المستفتين، ولكن بالله عليكم لو أن المستفتي كان رجلاً مشهوراً، أو تبدو عليه آثار النعمة والثراء أو المنصب والجاه، هل سيكون تعامل الشيخ معه بهذا الشكل ؟! ألن يكون عند ذلك الوقت كافياً لاستقبال الضيف، بل وإكرامه ، وعندئذ سيعلِّل الشيخ في نفسه ذلك بأنه من باب إكرام الضيف، ويستشهد لنفسه عندئذ بحديث "" َمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ "" ( )، لكن عليه أن يتأكد أنه لم يكرم ضيفه ، وإنما أكرم منصبه أو جاهه أو ثراءه . وهو يتأمل أن يعود ذلك عليه بالنفع ولو بعد حين .

سابعاً :
إن الأواصر مُقطّعة بين العلماء ، والتعاون على البر والتقوى يكاد يكون معدوماً ، وهم إن عملوا عملوا منفردين دون أي تنسيق أو تكامل فيما بينهم . لنتأمل قليلاً في حديث النبي  الذي يقول فيه : "" إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ قَالَ فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ "" ( ) تعالوا ننظر في معنى هذا الحديث وننزل به إلى أرض الواقع، واقع الدعاة والعلماء .
- فالنبي  يعترف لإخوانه من الأنبياء السابقين بالفضل فهم الذين يشكلون البناء، وليس أي بناء، إنهم يشكلون لبنات متراصة تشكل بناءً جميلاً يعجب الناس ، ويودون لو أن البناء اكتمل بوضع اللبنة الأخيرة ! فهل العلماء اليوم يشكلون هذا البناء الجميل في صورتهم أمام الناس ، أم أن الصورة مزرية جداً وقاتمة جداً .
- وإنه  يَعُدُّ نفسه لبنة في بناء النبوة المتكامل، مثله مثل إخوانه الأنبياء السابقين، وإنه  يشكل معهم جميعاً بناء الهداية والرشاد للإنسانية جميعاً . ولكن الشيخ اليوم لا يقبل أن يكون لبنة في بناء الدعوة ، إنه لا يرضى إلا أن يكون البناء كله، أو على الأقل الركيزة الأساسية فيه ، وكم هم المشايخ الذين لا يكفيهم ذلك، بل يقومون أيضا بهدم جهود الآخرين، وكل همهم هو أن يمسكوا بالمعاول التي يتمكنون بها من الهدم والتهشيم ، إنهم يصعدون على ظهور الآخرين فإذا ما وصلوا إلى القمة ركلوهم بالأقدام إلى الوادي .
- إن الأنانية تُعميهم عن رؤية حسنات الآخرين ، والكبر والعجب يصدهم عن التعاون معهم ، وكل واحد منهم لا يقبل إلا أن يكون أوحد دهره وفريد عصره . أما سيد البشر  فقد قبل أن يكون لبنة في بناء تتراص مع أخواتها وتشد البناء بقوة ومتانة .
- إن العمل الجماعي المتكامل الذي يعي فيه الفريق دوره ككل متكامل، ويعي فيه كل فرد دوره كجزء مكمل، هو الذي نحتاجه اليوم جداً ، وهو الذي تحول دونه أهواء الناس وأنانياتهم . إننا مطالبون اليوم بالتعاون أكثر من أي وقت مضى ، ومطالبون بالوحدة والاعتصام بحبل الله عز وجل، إننا مُطالبون أن نحيي في دواخلنا كل معاني الإيثار والمحبة والصدق والإخلاص ، وأن نميت في أنفسنا كل ألوان الأنانية والأثرة والحسد والبغضاء .

ثامناً :
هناك طائفة كبيرة من العلماء يجمعون الناس حول أنفسهم، ويجعلون المركزية والصدارة لذواتهم وليس لدين الله عز وجل ، ولذلك ينهون تلاميذهم عن الحضور عند مشايخ آخرين بحجة أن الغرسة إذا نُقلت من تربتها إلى تربة أخرى سيصيبها الفساد .
إن النبي  لم يكن يجمع الناس حول شخصه، بل كان همه الأول أن يُخلِصوا لله عز وجل، وأن يتجهوا إليه جل شأنه بالعبادة ، ولذلك كان يَحرم أعز الناس على قلبه من المغانم ويُحمِّلهم المغارم ، ولقد ذكّرت قبل قليل ببعض الأمثلة من السيرة في بدر وأحد حين دفع بعمه وأولاد عمه إلى قلب المعركة ، وكان حمزة أول قافلة الشهداء في أحد، وقد تألم النبي  لفراقه أشد الألم . ومنع فاطمة عليها السلام من الخادم رحمة ببعض أصحابه الفقراء ، وبعد حنين أعطى المؤلفة قلوبهم وأجزل لهم العطاء حتى وجد الأنصار في أنفسهم، وهم من تعلمون مكانة في قلب النبي  ، ثم بين لهم أنها لعاعة من الدنيا يتألف بها ضعفاء الإيمان . وأعطى ذات يوم رجلاً فقيل له أعطيت فلاناً وفلان خيرٌ منه ، فقال : إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه أكِلُه إلى إيمانه .
لقد كان هذا منهجه عليه أفضل الصلاة والسلام يحرم أقرباءه وأصحابه المقربين يَكِلُهم إلى إيمانهم وقربهم من الله عز وجل، ويعطي ضعفاء الإيمان لكي يخلص قلوبهم من الكراهيات والأحقاد والسخائم، فيتمكنون من رؤية الحق الأبلج . إن هذا المنهج عكس ما نشاهده لدى كثير من المشايخ اليوم ، فالمشيخة مغنماً له ولأولاده ولأقربائه ولأصهاره .

تاسعاً :
إننا في كثير من الأحيان لا نفرق بين ما هو لله عز وجل ، وما هو للنفس ، أو بين ما هو للعلم والحق ، وما هو للذات ، أو بين ما هو شخصي وما هو علمي ، وها هنا مِحكٌّ صعب جداً، ومفصل دقيق جداً، لأن ما هو لله قد يختلط بما هو للنفس دون أن يشعر الإنسان، فيعادي ويخاصم لله بحسب ظنه، ولكن الهاجس العميق، والمحرك الخفي للخصومة هو نفسي وذاتي، كثيرة هي التهم التي تُتداول بين المسلمين : وهّابي ، أشعري ، شيعي ، علماني ، صوفي بحسب السياق الاجتماعي والزماني والمكاني وهي تصنيفات جاهزة ، يتم التشهير بها بحسب الحاجة، ويتم الحشد والتجييش للجمهور في الوقت المناسب ضد شخص ما من الأشخاص، ويتم تصدير هذه التهم والتصنيفات إلى التلاميذ، فتنشأ أجيال لاحقة تتوارث الكراهية والشحناء، ويضيع الحق والعدل والإنصاف بين الإحْن والشنآن .
ينظر علماؤنا المعاصرون إلى الخوارج نظرة تاريخية فيها انتقاص وتبديع وتجهيل شديد، وهذا فيه حق كثير ، ولكن المصيبة أننا نجهل أننا نمارس الخارجية في الفكر والأخلاق دون أن ندري، فالخوارج يؤخذ عليهم أنهم قتلوا صاحب رسول الله  عبد الله بن خباب بن الأرت، وقتلوا امرأته معه وكانت حاملاً في تمام حملها ، ثم أكلوا تمراً من نخل لنصراني فقالوا لبعضهم هذا حرام ، فذهبوا إليه يستحلونه من ذلك، !! هل تصدقون أننا نفعل ذلك ؟!
إن ديننا أباح لنا أن نتعايش مع كل أصناف الناس "" لكم دينكم ولي دين "" ، وأباح لنا أن ننعم بالتسامح مع كل المعتقدات والاتجاهات فـ "" لا إكراه في الدين "" هذا صحيح ، ولكن لماذا يكون التسامح بين العلماء المسلمين وغير المسلمين كالمسيحيين وغيرهم أكثر مما هو بين العلماء المسلمين فيما بينهم ؟ فما دمنا نقبل التعايش في ديننا مع من يدعي لله ولداً، أو مع من ينكر وجود الله عز وجل أو غير ذلك ، إذ لا سلطان لنا على ضميره ، فلماذا نضيق ذرعاً بآراء أناس مسلمين مثلنا، موحدين مثلنا، لكنهم يخالفوننا في أمور هي بالتأكيد أهون من أولئك المخالفين في الملة ؟! بعبارة أوضح : لماذا إذا اختلف المشايخ في أمور فرعية أدى ذلك إلى المشاكسة والخصام والكراهية ؟ لماذا لا نفرق بين ما هو علمي وما هو شخصي ؟ لماذا يتعانق الشيخ والقسيس ولا يتعانق الصوفي والوهابي على سبيل المثال ؟ أليس هذا خروجاً ؟!
أخشى أن يكون السبب هو الشعور بتهديد المنافع ، وتقاسم المكاسب من قبل إخواننا في الدين الذين ترشحهم مؤهلاتهم لذلك، أما الآخرون المخالفون لنا في الملة فلا يهددون منافعنا ومواقعنا الدينية – كالخطابة والتدريس والإمامة والمركز وغيرها - ولذلك تظل العلاقة الشخصية معهم في مأمن من خطر التنافس والتحاسد .
ألا يمكننا أن ننبه الآخرين إلى أخطائهم وبيان عثراتهم دون تجريح أو كراهية أو تشنج ؟ لماذا لا نحسن الخصومة العلمية التي تحافظ على المودة والاحترام ؟ لقد قال رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَة وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ "" ( ) .
كلنا يعلم كم كان اليهود يُكنّون البغض للنبي الكريم ولقد هموا بالغدر به مرات عديدة ، ومع ذلك وبعد أن اضطروه إلى إجلائهم، بل وقتلهم في الخندق وخيبر، مع كل ذلك كان له صلات معهم، فيزورهم ويستدين منهم، بل وينصفهم، وتذكرون أنه أهديت إليه شاة من أمرأة يهودية بعد معارك خيبر - إنهم يعلمون أنه لا يحقد، وأنه يُحسن الظن ، وأنه لا يرد الهدية برغم العداوة الشديدة بين الطرفين ، والتي قُتل فيها رجالات اليهود وأبطالهم .
نحن لسنا أوصياء على الناس ولا نملك أن نرغم الناس على أن يعتقدوا بما نعتقد ، ويدينوا بما ندين ، لنا أن نوضح ونبين بالكلمة الطيبة، والموعظة الحسنة، ونجادل بالتي هي أحسن، ثم إن الله عز وجل يحكم بين عباده  فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ  ( ) .
 فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ  ( ) .
 وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ * اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ  ( ) .
 ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ  ( )
لقد تكرر معنى هذه الآيات في كتاب الله عز وجل مرات كثيرة جداً يزيد على عشرين مرة ، أفلا يعني ذلك لنا شيئاً ؟ ! إننا لم نستطع أن نحول المغزى في هذه الآيات إلى منهج حياتي ، وسلوك أخلاقي .

عاشراً :
لا بد من القول بأن الحالة السلبية التي يتردى فيها بعض أهل العلم أو المنتسبين إليه بالإضافة إلى كونها نتيجة للدنيوية المعششة في القلوب، هي أيضاً انعكاس للحالة الأخلاقية العامة التي تسود المجتمع اليوم، وفيها انحطاط شديد لقيمة الإنسان وإنسانيته وكرامته وحريته ، فالملاحظ من خلال التعامل الاجتماعي أن المعيار اليوم في التعامل بين المسلمين ليس هو جوهر الإنسانية، وإنما هو اعتبارات ثانوية أخذت محل الصدارة والأولوية، فالإنسان يُكرَّم اليوم ويُحترم لمنصبه أو جاهه أو شهادته أو ثرائه، أما هويته الحقيقية وهي الإنسانية فمُغيَّبة جداً ومُهدَرة جداً ، وسأضرب مثلاً من الواقع : كان لي مريض في المشفى فذهبت لزيارته فمنعني البواب، قال لي ممنوع الدخول لأنه ليس الآن وقت الزيارة، فقلت ولكن انظر إن الناس يدخلون ويخرجون بكثرة، قال لي لا شأن لك ، فقلت لا بد من الدخول أو تطبق النظام على كل الناس، وكان كثير من الداخلين قد عرف طريقة الدخول وهي خمسة وعشرون ليرة تُدسُّ في جيب البواب بلطف ، ارتفع صوتنا وحضر الشرطي وأدخلنا عنده ليحل المشكلة ، وكان هناك شخص يعرفني فقال لي : " أهلين دكتور" ففوجئ البواب وقال لي : " أنت دكتور؟ مو باين عليك !!" وكان هناك اتفاق بين كل الحاضرين في جلسة الصلح - وكانوا كثرة - أن الحق عليّ ، وأنني المخطئ، لأنني كان يجب أن أُعرِّفه على نفسي " كدكتور" وعندئذ سأدخل بدون خمسة وعشرين، وبدون صعوبات، يعني أن الدكتوراه تساوي خمسة وعشرين ليرة ، لكن ليست هذه هي المشكلة ، وإنما المشكلة في الحادثة وهي نموذج يتكرر ملايين المرات في كل الدوائر الحكومية وغير الحكومية ، المشكلة أن الإنسان لا يُعرّف بهويته الحقيقية وهي " الإنسانية " " أنا إنسان " أنا ابن آدم " لا بل : أنا دكتور ، أنا عضو في مجلس الشعب ، أنا محامي أنا مهندس أنا فلان أو ابن فلان ... أما الفقير الذي لا يملك شيئاً من هذه الاعتبارات الإضافية فهو الوحيد الذي يقف أما البواب أو أمام أي موظف بهويته الحقيقية ، وهي " إنسانيته " وما أرخصها في مجتمعنا، إنها تداس بالأقدام ! وتضرب بالنعال .
وهنا يحضرني موقف النبي  حين مَرَّتْ بِهِ جِنَازَةٌ ذات يوم فَقَامَ فَقِيلَ لَهُ إِنَّهَا جِنَازَةُ يَهُودِيٍّ فَقَالَ أَلَيْسَتْ نَفْسًا ؟! ( ) نعم وإن كانت ليهودي لكنها لإنسان يشترك معنا في جوهر الإنسانية وكرامتها ، وهذا كاف لمنحه مستوى ما من مستويات التكريم والاحترام .
نعم إن مجتمعاتنا الإسلامية اليوم مريضة جداً ، وكان المؤمل أن يكون للعلماء دوراً ريادياً في المعالجة والإصلاح، ولكن الذي حصل هو العكس، ففي حالات كثيرة وحقب ومراحل زمنية طويلة كان المنتسبون إلى العلم في كثير من الأحيان يُفرزون جراثيم تزيد من الوباء وأحياناً تبرر له، لأن القاعدة الشعبية العريضة تنظر لهم على أنهم هم القدوة والمثال الذي يُحتذى ، فباب العدوى السلبية في هذه الحالة مفتوح على مصراعيه بين النموذج المريض والتابع المسكين .
إن المسلم المسكين يحلم باليوم الذي لا يحتاج فيه الإنسان إلى واسطة حين يذهب إلى دائرة حكومية أو مشفى ، ويحلم باليوم الذي يحصل فيه الإنسان المسلم على هويته " إنسانيته " أين ما ذهب ويعامل بالإكرام والاحترام أياً كان حتى ولو كان زبالاً أو من هو في مستواه .
نعم هنالك تراكمُ هائلٌ من الفساد، وهو نتاج عقود من الزمن في الدوائر الدينية، ويحتاج إلى أشبه بالخارقة حتى يتم تجاوزه وإصلاحه ، يحتاج إلى شبكة من الطيبين المخلصين تتكاتف وتتعاون لإزاحة العناصر الضارة وتنظيف المؤسسة الدينية من تراكماتها الخاطئة ، ومحاسبة المخطئين والمفسدين، إن الموظف اليوم يفعل ما يشاء بالمواطن الفقير يُهينه ويبتزه ويعرقل شؤونه دون رقيب أو حسيب .
ولذا لا بد من وقفة للمراجعة مع الذات، وأن نتخلص من النظرة النرجسية التي تحجبنا عن رؤية عثراتنا وأخطائنا ، ولا بد من مواجهة الحقيقة بشجاعة، والأشخاص مهما كانوا كباراً وعظماء هم في النهاية بشر يصيبون ويخطئون، فما ينبغي أن تحجبنا عظمتهم وأبهتهم وقداستهم عن محاسبتهم " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا " ( ) . على الأقل محاسبة فكرية وعلمية .

الخاتمة

لقد تحدثت عن أهمية القدوة كما عرضها لنا القرآن الكريم والسنة الشريفة وكما ارتسمت ملامحها في المنهج الإسلامي عموماً ، وبينت أن القدوة الحسنة تصنع مجتمعاً حسناً، وأن القدوة الفاسدة تُنتج مجتمعاً فاسداً ، وأن ما نراه من انهيار على المستوى القيمي في الغرب هو نتاج للنجومية الزائفة ، فقلما نجد عالماً أو عبقرياً أو فيلسوفاً في التاريخ الغربي الحديث محمود السيرة ، والسبب في ذلك هو انهيار المقدس بشكل عام ، وانهيار النموذج المثالي المسيحي الذي كان من المفترض أن يوجه تيار القيم والأخلاق ، وقد حل محله نموذجاً دنيوياً لا يقيم وزناً لأية غيبيات ولا يعترف بأية مطلقات قيمية أو ما ورائية ، وكرس على مدى قرون عديدة نسبية الأخلاق، ومادية الفكر ، فكانت النتيجة على مستوى الحضارة حالة من الانفلات والتفكك والإباحية والضياع الاجتماعي والأسري سلوكياً وحالة من الإفلاس واليأس والقنوط والعدمية فكرياً .
ولكن السؤال الأهم الذي حاول البحث أن يجيب عنه هو أين موقع النموذج الإسلامي في هذه الدوامة الحضارية اليوم ؟ وما هو الدور الذي يمثله القدوة المسلم للإنسانية في أمسِّ حاجاتها وأحرج لحظاتها ؟
لا شك أن لدينا في تراثنا وتاريخنا نماذج مشرّفة توجه مسيرة فكرنا ، وتؤسس قواعد حياتنا، وقد سعى أعداء الخير دائماً إلى تشويه صورة هذه النماذج ، والتعتيم عليها لأنها علامات حضارية تحفظ الوجود، وتنير الدروب . ولكن المأساة الكبرى حين يأتي التخريب من الداخل وباسم التعمير، ويرتدي شيوخ البراجماتزم العمائم والجبب، ويتلوَّن الدين بألوان هذه العمائم ، وبدلاً من أن تكون العمامة مَغرماً وتضحية ومسئولية، تصبح مغنماً ومكسباً ومطية ، وكل من طمع بوصل ليلى تسمى قيساً ، وهيهات أن يغني الاسم عن المسمى .
إن شيوخ البراجماتزم أخطر على ديننا وحضارتنا ومستقبل أمتنا من مستشرقي أوربا ومبشريها ، وأخطر من صنائعهم العلمانيون المزروعون فيما بيننا من أبناء جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ، وذلك لأن المستشرقين والمبشرين قد بان إخفاقهم بعد أن انكشف الزيف، وزال ركام الباطل ، والعلمانيون هم غراس أولئك يوشك أن تيبس وتجف كما يبس الأصل وجف ، ولولا حال الأمة المتردي ، ودعم الغرب المستبدّ، لما قامت لهم قائمة في بلادنا .
لقد هدف البحث إلى الكشف عن خطورة الاستخدام النفعي للدين، والتقنع وراء مظاهر المقدس للوصول إلى مآرب شخصية ، ومكاسب دنيوية ، وحاول التذكير بالقدوة المرتكسة في الحداثة الغربية، والتي أثمرت ثماراً خبيثة على مستوى الحضارة البائسة اليوم ، للتحذير من لون آخر أشد فتكاً منها في بلادنا وحضارتنا لأنه يرتدي ثوب الدين ويتستر بردائه . إنها صيحة نذير، وزفرة مكلوم، تبتغي آذاناً صاغية ، وقلوباً واعية ، وإن أهم وصية أخرج منها في هذا البحث هي :
تشكيل هيئة لعلماء المسلمين تكون مهمتها التعاون على البر والتقوى ، والتشاور في القضايا الكبرى ، والبت في المسائل المعضلة ، وخصوصاً تلك التي تلتبس فيها السياسة بالدين، والتي تحتاج إلى موقف حازم متحرر من الإكراهات السياسية أو الشعبوية .
قد يقال إن هذه الهيئة سوف يشترك فيها من لا ثقة فيه أيضاً، ومن لا يمكن إقصاؤه عنها ، ونبقى في المشكلة ذاتها ، وأقول : إن الناس سيعلمون أن ما يصدر عن الهيئة موضع ثقة، وما لا يصدر عنها موضع شك ، ولو نجحنا في تشكيل مرجعية جماعية موثوقة للناس تعكّر على الأقل على شيوخ البراجماتزم ، وتحرجهم حين يخرجون عنها لكان ذلك إنجازاً مهماً ، بدلاً من المرجعيات المتعددة المتصارعة . والله تعالى أعلى وأعلم .
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم
والحمد لله رب العالمين

داريا - 27 / 1 / 2007 ليلة السبت .
للتواصل : ahmad_altan@maktoob.com


مصادر البحث

1 - القرآن الكريم .
2 – كتب الحديث النبوي الشريف .
3 - مصادر السيرة النبوية الشريفة .

! أركون " د . محمد أركون " :
- تاريخية الفكر العربي الإسلامي – المركز الثقافي العربي – بيروت .
- الفكر الإسلامي – نقد واجتهاد – ترجمة هاشم صالح – دار الساقي – بيروت ، لندن ط 2 / 1995 .
- القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني – ترجمة هاشم صالح – دار الطليعة للطباعة والنشر – بيروت – ط 1 / 2001 م
- قضايا في نقد العقل الديني – ترجمة هاشم صالح – دار الطليعة للطباعة والنشر – بيروت ط 1 / 1998
- الإسلام والأخلاق والسياسة – ترجمة هاشم صالح – مركز الإنماء القومي – بيروت – باريس 1991 / ط1 .
! بدوي " عبد الرحمن بدوي " :
- دفاع عن محمد - ترجمة كمال جاد الله – الدار العالمية للكتاب والنشر – القاهرة 1999م .
! برينتون " كرين برينتون " :
- تشكيل العقل الحديث – ترجمة شوقي جلال – مكتبة الأسرة – القاهرة 2001 .
! الجابري " د. محمد عابد الجابري " :
- بنية العقل العربي " المركز الثقافي العربي – المركز الثقافي العربي – بيروت – ط 2 / 1991 وأيضاً ط 1 / 1986 لنفس الناشر .
! حرب " علي حرب " :
- نقد النص – المركز الثقافي العربي – بيروت – الدار البيضاء ط 1 / 1993 .
! ديورانت " ول ديورانت " :
- قصة الفلسفة - ترجمة : د . فتح الله محمد المشعشع – مكتبة المعارف – بيروت ط 6 / د ، ت .
! رايت " وليم كلي رايت " :
- تاريخ الفلسفة الحديثة – ترجمته : محمد سيد أحمد – مراجعة إمام عبد الفتاح إمام المجلس الأعلى للثقافة – القاهرة 2001 / د / ط .
-
! رسل " برتراند رسل " :
- تاريخ الفلسفة الغربية – ترجمة محمد فتحي الشنيطي – الهيئة المصرية العامة للكتاب 1977/ د.ط .

! زكريا " د. فؤاد زكريا " :
- نيتشة – دار المعارف – القاهرة 1956 / د ، ط .
! السعيداني " خالد السعيداني " :
- إشكالية القراءة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر " نتاج محمد أركون نموذجاً – بحث لنيل شهادة الدراسات المعمقة في الحضارة الإسلامية – الجامعة التونسية – جامعة الزيتونة – المعهد الأعلى لأصول الدين 1998 م 1419 هـ
! عبد الكريم " خليل عبد الكريم " :
- مجتمع يثرب – سينا للنشر – القاهرة ط 1 / 1997 .
! عوض " رمسيس عوض " :
- الإلحاد في الغرب – دار سينا للنشر – القاهرة ط 1 / 1997 ومؤسسة الانتشار العربي – بيروت .
! فرغل " د. يحيى هاشم حسن فرغل " :
- حقيقة العلمانية بين الخرافة والتخريب – دار الصابوني للطباعة د ، ط / د ، ت والنشر والتوزيع – القاهرة –سلسلة قضايا إسلامية معاصرة – الأمانة العامة للجنة العليا للدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف .
! لوبون " غوستاف لوبون " :
- الآراء والمعتقدات – ترجمة عادل زعيتر – المطبعة العصرية بالفجالة – مصر – ط 2 / 1365 هـ
! المسيري " د. عبد الوهاب المسيري " :
- العلمانية تحت المجهر – دار الفكر – دمشق - بالاشتراك مع عزيز العظمة – سلسلة حوارات لقرن الجديد ط 1 / 1421 / 2000 م .